شعار قسم ميدان

كيف تصنع ثقبا أسود في منزلك؟

midan - black hole

الثقوب السوداء هي كيانات خطيرة، تتخفى في جوانب المجرات ومراكزها؛ لتنتظر مارًّا لا يعرف أي شيء عن وجودها فيقع في شباك جاذبيتها؛ لتسحبه إلى نهاية محتومة، تعلمنا الفيزياء الفلكية أن تلك الأجرام تتكون نتيجة انهيار النجوم العملاقة على ذاتها في نهاية أعمارها؛ مُحدثة مستعرا أعظم قد يخلّف ثقبا أسود في المركز. تلك -إذن- نقطة جيّدة للبدء، فإذا عرفنا عند أي نقطة -أثناء ذلك الانهيار- يتكون الثقب الأسود يمكن لنا استخدام نفس الطريقة وتصنيع ثقب أسود في المنزل كهدية لمن نحب، سوف تكون مفاجأة سعيدة.

 

لكي نفعل ذلك دعنا نبدأ بتصحيح بعض المفاهيم عن الثقب الأسود، فالبعض يتصور أن وجود الثقب الأسود يتعلق -فقط- بالكتلة الخاصة بالجُرم السماوي، وهذا خطأ. يمكن لنا أن نصنع ثقبا أسود من الأرض، ومن القمر، ومن تفاحة صغيرة أيضًا، سوف نتعلم ذلك بعد قليل؛ لكن يجب هنا أن نفهم أن مشكلة الثقب الأسود ليست -فقط- في كتلة الجرم السماوي؛ ولكن -أيضا- في نصف قطره بالنسبة لكتلته، ولنخطو خطوة عملية دعنا نتعلم -الآن- بعض الفيزياء النيوتنية.

 

قفزة من ثقب أسود

نعرف من قانون الجاذبية لنيوتن أن قوة جذب جسم لآخر تتناسب طرديا مع (أي تزيد بزيادة) كتلة كل منهما وعكسيًا مع (أي تقل بزيادة) مربع المسافة بينهما، حينما تقف على الأرض فإن قوة الجاذبية لا تُحسب من حاصل ضرب كتلتك في كتلة الأرض فقط؛ لكن نقسم ذلك على مربع المسافة بينك وبين مركز الأرض، فلو افترضنا -الآن- أننا تمكنا بشكل ما من ضغط الأرض؛ بحيث يصبح نصف قطرها أقل بعشر مرات مما هي عليه الآن، مع ثبات كتلتها؛ فإن قوة جذب الأرض لك ستتضاعف حوالي مئة مرة، يعني ذلك أنك سوف تلتصق بالأرض وتعجز عن الحركة تقريبا.

undefined

سوف يكون ناتج الجاذبية -إذن- هو قيمة كبيرة للغاية، مقارنة بجذب الأرض لك في الحالة العادية، بسبب نصف القُطر، وتلك هي الفكرة، فما يجعل الثقب الأسود ذا قدرة عظيمة على جذب أي شيء، حتى شعاع الضوء نفسه؛ هو صغر نصف قُطره مقارنة بجُرم سماوي آخر له نفس الكتلة. لذلك، حينما نستبدل الشمس بثقب أسود يحمل نفس الكتلة، فالأرض سوف تتخذ نفس مدارها بدون أية مشكلات؛ لأنها ما زالت تقع على نفس المسافة من مركز الثقب الأسود، فقط سوف نموت من البرد. الآن حصلنا على جزء من المعلومة المهمة، دعنا نتعرف على الجزء الآخر.

 

كل جسم في الكون له جاذبية، تتعلق بكتلته والمسافة بينه وبينك، تحتاج لكي تفلت من جاذبيته أن تقفز بسرعة ما، لكي تفلت من جاذبية الأرض مثلا تحتاج أن تركب صاروخا يقفز بسرعة 11.2 كيلومتر في الثانية؛ أي أن سرعة أقل من ذلك سوف تمنعك من الهروب وتعيدك إلى الأرض مرة أخرى، ومن زحل تحتاج لصاروخ ينطلق بسرعة 60.2 كم/ث، ومن الشمس -نجم ضخم- سوف تحتاج لصاروخ يقفز بسرعة 617.5 كم/ث، وهكذا.

undefined

كلما ازدادت جاذبية الجسم؛ ازداد احتياجنا لسرعة أكبر لكي نفلت من قبضة جاذبيته، لذلك تسمى "سرعة الإفلاتEscape Velocity "، لكن حينما نود أن نعرّف الثقب الأسود(1) فنحن نقول إنه الجرم الذي لا يستطيع أي شيء -حتى شعاع الضوء نفسه- الإفلات منه؛ حيث نحتاج هنا أن نقفز بسرعة أكبر من سرعة الضوء التي هي بالفعل أسرع شيء في الكون، سوف نعود لذلك مرة أخرى بعد قليل؛ لكن دعونا الآن نرجع بالزمن حتى الحرب العالمية الأولى، نحن الآن على الجبهة الروسية، أحد الجنود هو فيزيائي وفلكي ألماني قرر المشاركة في الحرب رغم أن عمره تخطى الأربعين بشهور قليلة، في أثناء المعارك سنة 1916، وصلت ليد كارل شفارتزشيلد نسخة من النسبية العامة لألبرت أينشتين والتي نُشرت قبل شهور قليلة.

 

شفارتزشيلد في الحرب

لقد سأل شفارتزشيلد نفسه سؤالنا الأول في هذا المقال: إلى أي درجة يمكن أن نضغط جسما ما، أي جسم، حتى يصبح ثقبا أسود؟ لا يهم إن كان ذلك نجما أكبر من كتلة الشمس بثلاثين مرة، أو مجرة، أو حتى سيارة دفع رباعي، أو ربما كرة بولينج، المهم أن نحصل على الحد النظري الذي لا يمكن أن يتوقف عنده الجذب، فينهار النجم كليًا على ذاته صانعًا ثقبًا أسود، هنا طوّر شفارتزشيلد لأول مرة ما نعرفه الآن باسم "نصف قطر شفارتزشيلد" (2Schwarzschild Radius)، لكي نفهم ما يعنيه ذلك، بشكل أكثر بساطة مما يقصده شفارتزشيلد، دعنا نرجع لسرعة الإفلات.

 

صحيح أن المعادلات أمر صعب على القارئ غير المتخصص؛ لكن حينما تصبح ضرورية للفهم، وهي عصب الفيزياء كعلم، وحينما لا تتخطى قواعدها عدة عمليات أصعبها هو الضرب والقسمة يمكن لطفل في العاشرة أن يمارسها بسهولة؛ إذن لم لا؟ يمكن لنا هنا التنازل قليلا لوضع معادلة واحدة سوف تمكننا من فهم ما يمكن كتابته في 1000 كلمة وأكثر، ما تراه أمامك الآن هو معادلة سرعة الإفلات، إنه الرقم الذي إذا حصلنا عليه سوف نضعه في حاسوب الصاروخ الخاص بنا ثم نضغط على زر انطلاق، فنهرب من الأرض، للأبد!

undefined

لا تهتم كثيرا لكيفية استنتاج تلك المعادلة، ولا تحفظ شيئا؛ فقط أريدك أن تعرف أنَّ (v) في المعادلة السابقة هي السرعة المطلوبة للهروب، و(r) هو نصف قُطر الكوكب الذي نود الهروب منه، و(M) هي كتلة هذا الكوكب، أما عن (G) فهو رقم ثابت في كل المعادلات؛ إذن نعرف الآن أن تلك السرعة تتحدد دائما بكتلة ونصف قُطر الكوكب، كلما ازدادت الكتلة تزدد حاجتنا لسرعة إفلات أكبر، والعكس مع القُطر.

 

دعنا الآن نلعب قليلا، إذا كانت سرعة الإفلات من الثقب الأسود ذات حد يتخطى حاجز سرعة الضوء، يمكن لنا أن نقوم بالتعويض في تلك المعادلة بالقِيَم (C) والتي تُعبِّر عن سرعة الضوء موضع (v)، وبما أن مشكلة تكوين ثقب أسود هي مشكلة ضغط الجرم على ذاته، فهي إذن مشكلة نصف قُطر فقط؛ بينما تظل كتلة الجُرم كما هي، إذن يكون المجهول في تلك المعادلة هو (r) نصف القُطر الذي تصبح سرعة الإفلات عنده هي سرعة الضوء مع ثبات كتلة الجرم السماوي، كان كوكبا، مجرة، أو برميل قمامة يلتهم كل شيء نعرفه، لا يهم.

undefined

نقطة أخرى غاية في الغرابة نتعلمها من معادلات شفارتزشيلد، وهي أنه كلما ارتفعت كلتلة النجم المنهار على ذاته، تقل كثافة الثقب الأسود، يبدو ذلك غريبا؛ لأن ما نعرفه عن الكثافة يشير إلى أن الكثافة تزداد بزيادة الكتلة، فهي تساوي الكتلة مقسومة على الحجم؛ لكن المشكلة تظهر حينما نرفع كتلة جسم سماوي ما للضعف، فيؤدي ذلك لارتفاع نصف قُطر شفارتزشيلد الخاص به للضعف أيضا، لكن بذلك يزيد حجم الثقب الأسود -حسب قانون حجم الكرة البسيط- إلى ثماني مرات، ويعني ذلك أن ثقبا أسود بحجم المجرة سوف تكون كثافته أخف من كثافة الهواء على الأرض بألف مرة.

 

والآن؛ لنبدأ بتجهيز الهدية

على الرغم من أن شفارتزشيلد أفلت -هو الآخر- من معارك دامية؛ إلا أنه لم يقاوم شدة مرض الفقاع المناعي ومات بعدها بعام واحد تاركًا لنا إرثًا علميا عظيما، فقد قدم أثناء تلك الحرب حلا دقيقا لمعادلات أينشتين للمجال، وورقتين في ميكانيكا الكم، ومن المهم حقًا أن نتأمل تلك الفكرة، فقط في أثناء المعارك، وفي غمار كل ذلك الخوف يستطيع رجل أربعيني أن يحقق أعظم إنجاز في حياته، يا للمفارقة!

 

حينما نحاول تجريب فكرة شفارتزشيلد على الشمس -تلك التي تتمكن من حمل أكثر من مليون أرض بداخلها- سنجد أنه يجب أن نضغطها لتصبح بقطر 6 كيلومترات فقط، أما الأرض فنحتاج أن تصبح بحجم ثمرة التوت؛ كي تتحول لثقب أسود، المشتري في المقابل سوف يحتاج لضغط يحوله لحجم كرة تنس الطاولة، مع ملاحظة أن كل ذلك يجب أن يحتفظ بنفس كتلته، فالأرض مثلا سوف تتحول لثمرة توت بوزن 6  مليون مليون مليون مليون كيلوغرام.

 

جميل جدًا، الآن نصل إلى لحظة الحقيقة، كل ما نحتاج أن نعرفه لصنع ثقبنا الأسود هو -فقط- كتلة ما نريد أن نحوله لثقب أسود؛ ليكن مثلا كرة ضخمة من الحديد بكتلة 100 كيلوغرام، سوف نضع الرقم في المعادلة(3) لنخرج بقيمة لنصف قطر شفارتزشيلد، سوف تبلغ رقما ما حول:

.000000000000000000000001485 متر

 

الأمر إذن أسهل مما نظن، كل ما تحتاجه هو ضغط تلك الكرة من الحديد، بأية طريقة ترى أنها مناسبة، إلى كرة ذات نصف قُطر أصغر من هذا الـ"نصف قُطر" أعلاه الناتج من معادلة شفارتزشيلد وسوف تتحول لثقب أسود فورا؛ لكن هناك مشكلة صغيرة للأسف، فحسب معادلات هوكينغ سوف يتبخر ذلك الثقب الأسود في لحظة غاية في القِصر؛ لكن لا تقلق فهناك جانب إيجابي لذلك؛ حيث سوف يولّد ذلك قدرا من الحرارة يمكنه حذف الأرض تماما من الوجود، وهنا لن يتبقى أحد من هؤلاء الأغبياء متصيّدي الأخطاء؛ لينتقد فشلنا في تحضير الهدية السوداء، رائع.

المصدر : الجزيرة