لأن التغير المناخي يحدث أسرع مما نعتقد
في الحالة الطبيعية، تبني المنخربات محاراتها عبر تكليس (أي تحويل الكالسيوم) كربونات الكالسيوم الموجود في مياه المحيط، ثم بعد أن تموت تغوص إلى أعماق المحيط متسببة في معادلة حامضية أعماق المحيط؛ لكن ما يحدث عندما لا تتمكن تلك الكائنات من تكليس كربونات الكالسيوم في محاراتها؛ هو أن ترتفع درجة حامضية مياه المحيط، ويرتفع ذلك الأثر من الأعماق حتى السطح؛ مما قد يؤثر بقوة على المحيط الحيوي للبيئة البحرية ككل.
من جهة أخرى، وقبل أيام قليلة أيضًا، نشر باحثون مجتمعون -من جامعة برينستون، جامعة فلوريدا، وجامعة تسايامين الصينية (Xiamen University)- ورقة بحثية بدورية "ساينس" (Science) الشهيرة2 تُشير إلى أن هناك دلائل تؤكد على أن ارتفاع حامضية المحيطات الناتج عن زيادة نسبة ثاني أكسيد الكربون، يتسبب في مشكلة غاية في الخطورة؛ حيث يمنع نوعا من البكتريا السيانية (Cyanobacteria) يُدعى "ترايكوديزميوم" (Trichodesmium) من استمرارها في عملية تثبيت النيتروجين، العملية التي تحول غاز النيتروجين من الهواء إلى الأمونيا ومركبات أخرى تتغذى عليها 50% من الحياة البحرية المعتمدة على عملية تثبيت النيتروجين.
في الحقيقة -وعلى مدى سنوات طويلة قبل تلك الورقة- تبيّن تأثير ارتفاع نسب ثاني أكسيد الكربون واضحًا على محتوى البكتيريا السيانية من المحيط، ويعني ذلك اختلالا واضحا في نظام البيئة البحرية؛ مما يخل -بالتبعية- بالنظام الغذائي كاملًا؛ مما ينقل المشكلة لليابسة، ثم إلى كل أنواع الحياة، بما في ذلك حياتنا نحن البشر.
في الحقيقة تفتح تلك النتائج -التي تابعناها في الدراستين منذ قليل- بابًا لتأمل ما تعنيه إشكالات التغير المناخي واختلال نسب بعض الغازات في الغلاف الجوي، إن تغيرا طفيفا قد يتسبب في كارثة؛ لأنه يؤثر -بدوره- على أشياء أخرى هامة، يكفيك مثلًا أن تعرف أن نسبة الأكسجين في الغلاف الجوي (وهي الآن حوالي 20%) إن انخفضت عن 15% فذلك قادر3 على قتل قدر عظيم من أشكال الحياة كما نعرفها، بما في ذلك الثدييات كالإنسان؛ أما إن ارتفعت عن 25% فذلك يعني اختفاء ما تعنيه الحياة النباتية على الأرض؛ لأن ذلك ببساطة يعني أن تستمر حرائق الغابات حتى تنهي كل نباتات الأرض.
دعنا الآن نترك البحر قليلًا، مع انطلاق الثورة الصناعية، وارتفاع حاجتنا للوقود بسبب ذلك، استطاع الإنسان خرق حالة الاتزان التي يصنعها البناء الضوئي بين تعويض الأكسجين المستهلك وخفض ثاني أكسيد الكربون الناتج؛ حيث تقوم آلاتنا، مصانعنا، سياراتنا، بضخ كم مهول من ثاني أكسيد الكربون للغلاف الجوي، هذا الكم لا يمكن استهلاكه؛ لذلك ارتفعت نسبة ثاني أكسيد الكربون بقيمة أكبر من 30% من بداية الثورة الصناعية إلى الآن؛ وهو مستوى لم تبلغه منذ 65 ألف سنة.
يلعب ثاني أكسيد الكربون دورًا آخر أساسيا في صناعة ما نعرفه باسم تأثير الصوبة الزجاجية (Green House Effect)، وهو ما يتسبب -بدوره- في رفع درجة حرارة الكوكب بالكامل؛ حيث أعلنت قبل عدة سنوات وكالة ناسا4 أن 2014 هي السنة الأعلى في درجات الحرارة بمعدل 1.4 درجة مئوية عن سنة 1880 السنة الأقرب في تاريخ قدرتنا على رصد الطقس، ولا تزال درجات الحرارة ترتفع.
تلك الدرجة البسيطة قادرة، ليس فقط على التسبب في حالات شذوذ واضحة حادة في الطقس، أو إذابة جليد الأرض فترتفع مستويات المحيط؛ ولكن -أيضًا- في ضرب النظام البيئي كاملًا، والتأثير على هجرات الطيور ونُظم معيشة الحيوانات في كل مكان على الكوكب، إن الوصول لعصر جليدي يتطلب -لا كما يتصور البعض- عدة درجات فقط؛ بل لا يكفي كتاب كامل لوصف أثر ذلك الاحترار على كل شيء تقريبًا في هذا العالم؛ لكن ما يهمنا هنا هو تأمل دراستين، إحداهما نشرت قبل أيام، والأخرى نُشرت قبل عدة شهور فقط.
تقول الدراسة الأولى5 -والتي جاءت قبل أيّام في نشرة الأكاديمية الوطنية للعلوم (National Academy of Sciences)- إن مجموعة باحثين عبر قارة أوروبا اكتشفوا -بقياس ارتفاع منسوب مياه البحر مستخدمين تقنيات أقمار صناعية متقدمة- أن هذا الارتفاع يحدث بمعدل أكبر مما كنا نتصوره في السنين الأخيرة، فبعد أن كان المعدل هو من 1.1 ملليمتر/سنة -أضف أو اطرح .3 ملليمتر- خلال الفترة من 1900 حتى 1990، ارتفع ليصبح 3.1 ملليمتر/سنة من 1993 حتى 2012؛ ليكون التسارع في المعدل أكبر من المتوقع.
ينقلنا حديثنا الأخير للدراسة الثانية، والتي نشرت في ديسمبر 2016 في دورية"نيتشر"6 (Nature)، لتؤكد أن حسابات العلماء عن ارتفاع نسب الكربون في الغلاف الجوي كانت -ببساطة- خاطئة؛ ذلك لأن مخزون صخور الأرض من الكربون مُركّز بشكل أكبر في التربة، وكلما ارتفعت درجة حرارة الغلاف الجوي الخاص بالأرض كلما تحرر ذلك الكربون بشكل أسهل إلى غلافنا الجوي، يضيف ذلك على توقعات العلماء السابقة ما يقترب من 55 بيتاجرام (مليون مليار جرام) من الكربون إلى غلاف الأرض؛ مما يرفع الاحترار بدرجة أكبر لترتفع درجة حرارة سطح الأرض (1) درجة كاملة فقط بحلول سنة 2050.
حسنًا، هناك مشكلة بالفعل، وبسبب خطورة تأثيرٍ كذلك على جوانب عدة -تأثير الصوبة الزجاجية- قامت مؤسسة بيرمنغهام7 لأبحاث الغابات بعمل تجربة ضخمة جديدة لمحاولة فهم تأثير ارتفاع نسبة ثاني أكسيد الكربون في الغابات، عبر ضخ مستمر للغاز ورفع نسبته في منطقة محددة ودراسة أثره، سوف يعطينا ذلك انطباعا عن تأثير ذلك على غابات الأرض خلال السنوات الأربعين القادمة؛ لكن، هل سوف ننتظر حتى تموت الأرض بين أيدينا؟!
للأسف، يبدو أن ذلك هو ما يحدث، إن تسعة من أصل عشر علماء يؤكدون أن التغير المناخي يحدث بسبب أخطائنا في تطويع الطبيعة؛ لكن كما تعرف فإن نتائج دراسات كتلك لا تمتلك إلا دلالات إحصائية، نتائج احتمالية لا يفهم قيمتها إلا العلماء، لكن رجال السياسة لهم آليات مختلفة في التعامل مع قضايا كتلك، وهي القول إن "الاحتمالات لا يمكن أن تجعلنا نتّخذ قرارات هامة كتلك"، لذلك لا يزال النقاش الطويل الممل قائمًا في أروقة مجالس الأمم المتحدة، واجتماعات رؤساء وزراء ووزراء البيئة، ورؤساء مجالس إدارة شركات الطاقة متعددة الجنسيات، حول ما إذا كان خفض استخدامنا بخفض استهلاكنا من الوقود الأحفوري سوف يقلل من نسب ثاني أكسيد الكربون أم لا، ولا نجد -بعدُ- نتائج أو قرارات واضحة صارمة تحد من تلك المشكلة، فقط كثير من الجدل، الكثير من السياسة.
إذا ذابت الصفائح الجليدية التي تغطي غرينلاند والقارة القطبية الجنوبية فإن مستوى مياه البحر سوف يرتفع سبعين مترًا8، وهما بالفعل يفقدان الجليد كل يوم، بين عامي 2002 والعام الحالي فقدت جرينلاند جليدًا بمعدل 287 مليار طن في السنة، بينما تخسر القارة القطبية الجنوبية غطاءها الجليدي بمعدلات أقل؛ لكنها تظل في وضع هش، تظل كامل الكرة الأرضية في نفس الوضع، طالما أن النتائج في كل مرة تفاجئنا وتتخطّى توقعاتنا بينما لا يزال رجال السياسة يتفاوضون حول مكاسب وخسائر خاصة.
يرفع الاحترار العالمي من حدة الطقس، يقتل مئات الآلاف من الحيوانات والطيور، ويخل بنظم بيئية كاملة، ويؤثر فينا بشكل واضح؛ لكن في كل مرة يتأخر القرار، في تلك النقطة يضيف توماس كراوثر (رئيس فريق العمل الخاص بدراسة الكربون الأخيرة في هذا التقرير) للإندبندنت9 في حوار قريب أن ذلك يعني أن "الأرض تخطت بالفعل نقطة اللاعودة" وكل ما يمكن فعله هو إيقاف تقدم المشكلة، إن أمكن.