شعار قسم ميدان

"نهاية الحضارة".. الموجات الحارة والقلق حول مستقبل البشرية

midan - desert
خلال شهري (أبريل/نيسان) و(أيار/مايو) سنة 2015 اجتاحت موجة شديدة الحرارة أرض الهند(1) وقتلت في البداية 1118 شخص ثم ارتفع العدد ليصل إلى 1700 شخص في نهاية شهر (أيار/مايو)، في تلك الفترة أُعلنت حالات الترقب القصوى في البلاد، ورغم محاولات جاهدة تلقت البلاد في الأسبوع الأخير من الموجة ضربة قتلت 551 شخص، لم تمر أيام قليلة حتى ضربت موجة شديدة الحرارة باكستان(2) في (يونيو/حزيران) التالي وقتلت 1300 شخص في كراتشي بشكل رئيسي، ثم توغلت بعد ذلك في البلاد لتقتل 770 شخص، كانت تلك هي أعلى درجة حرارة حصلت عليها باكستان منذ 36 عامًا وقتها، ما الذي يحدث على كوكب الأرض؟!

 

موجات حارة

قبل عدة أسابيع، نُشرت دراسة جديدة(3) في مجلة "ساينز أدفانسز" (Science Advances) تربط بين الارتفاع السريع بمقدار 0.5 درجة مئوية في متوسط درجات الحرارة بالهند خلال الفترة بين 1960 و 2009 وارتفاع معدلات ضرب الموجات الحارة لها بمقدار 25% أكثر من الأعوام الخمسة والعشرون السابقة لتلك الفترة، بل إن هناك ارتفاع بمقدار 50% في تردد الموجات الحارة بجنوب وغرب البلاد، بذلك ارتفعت احتمالات حدوث حالات الوفاة المرتبطة بالموجات الحارة لتصل إلى 146%، لقد دخلت كل من الهند وباكستان -واللتين سجلتا درجات حرارة في (أيار/مايو) الفائت بمقدار 44 و 54 درجة وهي الأعلى بالنسبة لـ(أيار/مايو) في تاريخ العالم كله- في نطاق موجات الحر القاتلة، ويعني ذلك ارتفاع حالات الوفاة بسبب الموجة الحارة عن 100 شخص.

 

قبل الخوض في تفاصيل أكثر إثارة وخطورة دعنا نبدأ بتعلم بعض الشيء عمّا تعنيه الموجة الحارة(4) (Heat wave)، وهي هجمات ذات درجات حرارة مرتفعة عن المعدلات المرصودة في منطقة ما، وعادة ما تُصاحب تلك الموجات بارتفاع في درجات الرطوبة، نحتاج هنا أن نوضح أن درجات الحرارة التي تعد عادية في بعض المناطق تمثل موجة حارة بالنسبة لمناطق أخرى، حيث يتوقف تعريفنا للموجة الحارة على المعدلات الطبيعية للمنطقة التي نتحدث عنها، في الوطن العربي مثلا نمر حاليًا بموجة ترتفع فيها درجات الحرارة بدول كالعراق، الكويت، السعودية لموجة حارة تتخطى في الدرجات حاجز ال50، تلك هي موجة حارة.

 

وترتبط المشكلات الصحية المتعلقة بالموجات الحارة بدرجات الرطوبة، فكلما ارتفعت الرطوبة كانت درجات الحرارة الأقل أكثر تأثيرًا، يشرح ما نسميه مؤشر الحرارة (Heat Index) تلك الفكرة(5)، وهو مؤشر يجمع بين درجة حرارة الهواء والرطوبة النسبية في محاولة لتحديد درجة الحرارة التي يشعر بها الإنسان حقاً، في القاهرة مثلًا سوف تكون درجة الحرارة في الأسبوع المقبل هي 41 درجة، لكنك ستشعر بها كـ 47 درجة، ويمكن للجدول التالي أن يوضح لك بشكل أفضل تأثير ارتفاع الرطوبة والحدود التي يقف عندها المؤشر على حافة الخطر.

 

undefined

 

قد يبدو للشخص العادي أن ارتفاع بمقدار درجتين في المعدلات العالمية الطبيعية ربما لا يتسبب في فارق واضح، إذ ما الذي يمكن أن يحدث إن كانت درجة الحرارة 34 فأصبحت 36؟ لكن الأمور لا تُحسب بتلك الطريقة، فبجانب قدرة هاتين الدرجتين على ضرب النظام البيئي للكوكب بالكامل، وعلى إغراق مدن بأكملها، وعلى قتل مئات الآلاف من الحيوانات بشكل سنوي في المعدلات العالمية في كارثتين أساسيتين.

 

مستقبل مسكون بالشك

الكارثة الأولى -كما رأينا في الدراسة- هي ارتفاع معدلات الشذوذ والتطرف في الظروف المناخية، في الحقيقة تندرج تحت تلك المشكلة عدة عوامل أخرى شديدة القسوة، فمثلًا بقياس ارتفاع معدلات الإجهاد الحراري (Heat Stress) في 44 من أصل 101 مدينة عملاقة في العالم، تلك التي يرتفع عدد سكانها عن 10 مليون شخص كـ نيو-دلهي أو القاهرة، وجد الباحثون(6) أن ارتفاع معدلات الحرارة فقط بمقدار 1.5 درجة يتسبب في تضاعف الإصابة بحالات الإجهاد الحراري سنويًا بتلك المدن، مما يعرّض أكثر من 350 مليون شخص إضافي لمشكلات طبية تتعلق بارتفاع درجات الحرارة بحلول عام 2050.

 

الإجهاد الحراري(7) هو عدم قدرة الجسم على التكيف مع الحرارة الشديدة بسبب تعرضه لها لمدد طويلة، مما يتسبب في مشكلات طبيّة قد تكون خطيرة، تبدأ بأعراض العطش والجفاف وقد تصل إلى صدمة حرارية يصاب خلالها الشخص بصداع شديد، تهيج في الجلد، مع فقدان للتركيز، لتنتهي بفقدان كامل للوعي مع اختلاج (Convulsion)، عادة ما تصيب تلك الحالة مجموعات معيّنة من العاملين في المهن التي تتعرض للشمس بشكل أكبر كعمّال البناء أو عساكر المرور. دعنا في تلك النقطة نتأمل دراسة أخيرة نُشرت في الدورية الشهيرة نيتشر قبل عدة شهور.

 

على نفس الوتر الأول، تحاول الدراسة التي قام بها فريق دولي بجامعة هاواي(8) أن تربط بين مشكلات ارتفاع درجة حرارة الطقس في الموجات الحارة، وارتفاع درجة ترددها، بنسب الوفيات في 164 مدينة من 34 بلدًا، لكن الهدف هنا كان تحديد معايير عالمية دقيقة تمثل النقاط الخطرة التي تتسبب في حالات وفاة ذات علاقة بارتفاع درجات الحرارة وأيضًا الرطوبة النسبية، فكما قلنا أنه بارتفاع نسبة الرطوبة ترتفع المخاطر عنان السماء، نحن نعرف أن إحدى آليات تفادي الجسم لارتفاع درجات الحرارة هي التعرق، لكن مع نسب الرطوبة المرتفعة تنخفض فاعلية تلك الآلية.

 

بعد تحديد تلك المعايير بدقة يمكن لنا أن نحدد إن كانت الموجات الحارة التي تتعرض لها منطقة ما مميتة أم لا، هنا تقول الدراسة أن هناك أكثر من 30% من سكان العالم يتعرضون لمدة 20 يوم على الأقل لظروف تتجاوز عتبة التعرض لخطر الوفاة، وبحلول العام 2100 سوف ترتفع تلك النسبة إلى 48% في حال أخذنا حذرنا وبدأنا في التقليل من نفث غازات الصوبة الزجاجية بالغلاف الجوي وستصل إلى 74% في حال ظل السيناريو الحالي لأفعالنا ولاستجابات الطبيعة قائمًا، يبدو إذن أن التهديد المتزايد للحياة البشرية من الحرارة الزائدة هو كارثة حتمية تقريبا، ولكن سيزداد تفاقما كبيرا إذا لم تنخفض غازات الصوبة الزجاجية إلى حد كبير.

 

التغير المناخي يحدث أسرع مما نعتقد، دعنا في تلك المرحلة وانطلاقًا من تلك الفكرة نتأمل أثر ارتفاع تكرار تلك الموجات الحارة على البشر من وجهة نظر مختلفة تمامًا (بكساباي)
التغير المناخي يحدث أسرع مما نعتقد، دعنا في تلك المرحلة وانطلاقًا من تلك الفكرة نتأمل أثر ارتفاع تكرار تلك الموجات الحارة على البشر من وجهة نظر مختلفة تمامًا (بكساباي)

 

بالطبع تؤكد الدراسة أن المناطق الاستوائية سوف تكون أكثر عرضة دون غيرها لتلك الضربات المميتة، والتي يتفق الجميع أنها قد دخلت حيز التأثير بالفعل، ويتوقع الباحثون في كلا الدراستين أن تتميز الموجات الحارة القادمة بثلاثة صفات أساسية، سوف تضرب بدرجات حرارة أعلى في كل مرة بحيث تسجل أرقام قياسية، سوف تستمر لمدد أطول من المدد السابقة أو المتوقعة، وسوف تتكرر بمعدلات أعلى سنويًا، هنا نحتاج أن ننتقل إلى الكارثة التالية.

 

الكارثة الثانية المتعلقة بالتغير المناخي، وقد تعرضنا لها بالحديث المفصل في تقرير سابق(9)، ذات علاقة بإمكانية توقع شكل المستقبل بدقة مع تلك الشذوذات في استجابة الطقس -وغيره- للتغير المناخي، نحن لن نعرف شيئا مهما امتلكنا من نظريات وتقنيات عالية، نضع توقعات عن تصرفات الطبيعة تجاهنا؛ لكننا دائما نتفاجأ بردة فعل أكثر عنفًا وغزارة، تتصرف الطبيعة فوضويًا بشكل لا يمكن توقع آثاره مهما امتلكنا من أدوات قياس وآليات تنبؤ عملية ونظرية، دائمًا ما نحصل على انحراف طفيف في متغير لم نكن نضعه في الحسبان فيؤدي لتطور مهول، لاخطِّي، يعتمد على حلقات تغذية رجعية، في سير العملية؛ لنتفاجأ في كل مرة بنتيجة واحدة أساسية: التغير المناخي يحدث أسرع مما نعتقد، دعنا في تلك المرحلة وانطلاقًا من تلك الفكرة نتأمل أثر ارتفاع تكرار تلك الموجات الحارة على البشر من وجهة نظر مختلفة تمامًا.

 

نهاية الحضارة؟!

في كتابه الصادر مترجمًا في سنة 2014 بعنوان "مدار الفوضى: تغير المناخ والجغرافيا الجديدة للعنف" ضمن سلسلة عالم المعرفة يضع كريستيان بارينتي تصورًا يربط من خلاله بين الأزمات السياسية والاجتماعية العنيفة والتي واجهت، أو تواجه، الدول الموجودة بين مداري السرطان والجدي، كالصومال، غينيا، ساحل العاج، أفغانستان.. إلخ، بالتغيرات المناخية، حيث في هذا الشريط بين المدارين(10) -والذي تقع فيه 46 دولة بتعداد سكّاني حوالي 3 مليار نسمة- بدأ التغير المناخي يضرب بقسوة وبشكل مفاجئ، وتعتمد المجتمعات ضمن هذا الشريط بقوة على الزراعة وصيد الأسماك، وبالتالي فهي مهددة بشكل أكبر من غيرها بالتغيرات في أنماط الطقس، مما يتسبب في النهاية بتغيرات مجتمعية قاسية. 

 

في الحقيقة تشير العديد من الدراسات(11،12،13،14،15) إلى ارتباط واضح بين ارتفاع درجات الحرارة وحالات العنف، التعصب، والجرائم كالقتل، الاغتصاب، والتعدي على الآخرين بأي غرض، وحتى انخفاض مقدار الدخل السنوي. ويمكن تقبل ذلك في إطار حجم الإجهاد الجسدي والنفسي الذي تضيفه الارتفاعات المتكررة في درجات الحرارة إلى المواطن العادي في دولة ما، يمتد ذلك بالبعض ليرسم صورة أكبر عن مجتمع ككل يتعرض للمشكلات المناخية بوتيرة أكبر، ليصل إلى نتيجة مفادها أن الأحداث العنيفة، والتي تظهر على شكل جريمة وقمع وعصيان مدني وحرب وظهور جماعات مسلحة وانقلابات دموية وحتى انهيار الدولة، مرتبطة بالتغيرات المناخية، بل أن هناك دراسات(16) صدرت مؤخرًا تربط بين الحرب السورية والتغير المناخي.

 

الأًولى -في نظر بارينتي- هو أن تعمل تلك الدول على تحسين اقتصاد المنطقة بين المدارين والذي كان التغير المناخي عاملًا رئيسيا في انهياره بالمقام الأول، وأن تعمل على تخفيف آثار التغير المناخي (رويترز)
الأًولى -في نظر بارينتي- هو أن تعمل تلك الدول على تحسين اقتصاد المنطقة بين المدارين والذي كان التغير المناخي عاملًا رئيسيا في انهياره بالمقام الأول، وأن تعمل على تخفيف آثار التغير المناخي (رويترز)

 

في تلك النقطة يمكن القول أن الصورة تزداد قتامة، يرى بارينتي أن السيناريو المتوقع، وهو ما يحدث بالفعل كما يقول، أن هناك مخططون عسكريون غربيون وزعماء سياسيون، يعرفون بالفعل أخطار تجمع الاضطراب السياسي مع تغير المناخ، وهم يتوقعون ظهور تطرفات قاسية في صورة حروب أهلية وتدفقات لاجئين ومذابح جماعية وانهيارات اجتماعية مدفوعة كلها مناخيا -بتعبير بارينتي- واستجابة لذلك يتصور هؤلاء العسكريون والسياسيون مشروع مفتوح لمكافحة التمرد يطبق على المستوى العالمي، من أجل قمع اللجوء، ومنع دخول هذا العنف إلى بلادهم، إنهم يتجهزون لعالم ما بعد الفوضى المناخية.

 

لكن بارينتي يؤكد أن ذلك لن يكون كافيًا، بين المدارين يعيش أكثر من ثلاثة مليارات شخص، لن تنفع الجدران العازلة ولا الأسلاك الشائكة أو الأسلحة الثقيلة في قمع ذلك الهجوم المهيب من بشر ضربهم الجوع، المرض، التعصب، والفقر، وسوف تفنى الحضارة البشرية حتمًا إن كانت تلك هي الخطة، والأًولى -كما يرى- هو أن تعمل تلك الدول على تحسين اقتصاد المنطقة بين المدارين والذي كان التغير المناخي عاملًا رئيسيا في انهياره بالمقام الأول، وأن تعمل على تخفيف آثار التغير المناخي. لكن، هل الأمور حقًا بتلك الصورة السوداوية؟! هل نحن أمام أبوكاليبس جديد للعالم تنهار خلاله الحضارة البشرية؟!

 

لازالت تصوّرات بارينتي التي يبنيها في كتابه، أو حتى الدراسات التي تشير لذلك، هي فرضيات مبنية على ترابط يُقال أنه يعني السببية لكنه لا يمتلك بعد دلائل بالدقة الكافية(17) لدعمه، فذلك النطاق البحثي الحديث والمطروح بقوة للنقاش يحتاج لجمع الكثير من البيانات قبل أن نتحدث عن تأكيدات، لكن المؤكد هو أن التغير المناخي يحدث، وأن موجات الحر المميتة قد بدأت في العمل بالفعل، وما هو مؤكد أيضًا أن النشاط البشري له دور في (إحداث/تسريع) هذا التغير، وما هو مؤكد أيضًا أننا قد دخلنا نقطة اللاعودة بالفعل، فكما رأينا، محاولاتنا فقط تخفف من النسب التي سوف ترتفع حتمًا، أضف لتلك الحقائق أنه لا يمكن لنا بحال توقع مستقبل ذلك كله بدقة، وهذه هي أكثر صورة متفائلة يمكن أن ننقلها لك!

المصدر : الجزيرة