شعار قسم ميدان

بول ديراك.. كيف صنعت المعاناة عبقريا استثنائيا؟

"يجب على كل قانون فيزيائي أن يتمتع بجمال رياضياتي"
(بول ديراك)

نحن هذه المرّة أمام رجل غريب حقًا، حتى إن "غراهام فارميلو"، الكاتب الشهير عن سير العظماء، أعطى عنوان "الرجل الأكثر غرابة: الحياة الخفية لبول ديراك (The Strangest Man: The Hidden Life of Paul Dirac) لكتابه الذي نال شهرة واسعة وتلقّى العديد من الجوائز. بالفعل، يُعتبر "ديراك" شخصية معقدة للغاية، يرفع من تعقيدها قلّة كلامه وانغلاقه الشديد على ذاته؛ حتّى إنه لم يكن يهتم بأي أحد. للوهلة الأولى، يبدو ذلك -ربما- شيئا غاية في القسوة والبرود، وقد ظهر ديراك بالنسبة للبعض كشخص مغرور، متأفف، وقح ربما، له ذات متضخمة، لكن ذلك لم يكن حقيقيًا، فقد كان شخصًا بسيطًا يسهل إحراجه، حتى إن "فاينمن"(1) -الشاب وقتها- في مرّة، أثناء عرض نظريته الجديدة، علّق على عدم قدرة ديراك على فهم ما يقول؛ فخرج من قاعة المحاضرة وهو غاية في التحرّج. وفي حياة ديراك ما يؤكد أنه كان متواضعًا للغاية، وكان يسمي إحصاء "ديراك-فيرمي" باسم "إحصاء فيرمي(2)" فقط، دون الإشارة لذاته.

يُمكن ربما أن نُرجع طابع ديراك المتحفظ والهادئ للغاية، إضافة إلى قلّة كلامه وضعف اندماجه مع الآخرين، إلى طفولته، فأقل ما يمكن أن يُقال عن تلك الفترة من حياته أنها مثلت حالة من الضغط الشديد(3) الذي مارسه والده، الرجل صارم الطباع، عليه هو وإخوته؛ حيث لم يكن للحب(4) الأبوي مكان واضح في حياته، وإنما كان هناك طاعة للأوامر مع التزام شديد بنمط حياة محدد معزول عن المجتمع؛ بحيث يتحوّل المنزل إلى ثكنة عسكرية لا يدخلها إلا عدد نادر للغاية من الضيوف والأقارب، وكان والده -مُدرّس اللغة الفرنسية الصارم، والذي اهتم بشدة أن يتعلم ديراك وإخوته في أفضل المدارس والجامعات- يُصر أن يتحدث كل من ديراك وإخوته معه ومع بعضهم البعض بالفرنسية فقط -بينما كانت تُحدِّثهم أمهم بالإنجليزية- وكان صارمًا للغاية في تلك القاعدة، حتى إنه طلب إلى ديراك ألا يتحدث الإنجليزية مع أخيه أبدًا حتى عندما يمران ببعضهما البعض في قلب المنزل.

رجل ذو بُعد واحد

عالم الفيزياء البريطاني وأحد مؤسسي ميكانيكا الكم
عالم الفيزياء البريطاني وأحد مؤسسي ميكانيكا الكم "بول ديراك"
تسبب ذلك ربما في أنْ حاول "ديراك" تقليل الخطأ الممكن حدوثه -والذي كان يُعاقب عليه بمنعه من أمنيته القادمة- عبر تقليل كمّ الكلام بينه وبين أبيه واستخدام جُمل قصيرة، بسيطة لغويًا، حتى يسهل عليه تكوينها بالفرنسية، ولذلك كان لا يُجيب إلاَّ في حدود السؤال، وكان لا يجيب بجمل كاملة مطوّلة، بل بكلمات ذات مقاطع صغيرة، وبقيت تلك الصفة تشكِّل جزءا رئيسًا من شخصية "ديراك" طوال عمره؛ حتى إنّ عددًا من زملائه الفيزيائيين قد طوّروا وِحدة تهكمية(5) للحديث تسمى الـ "ديراك" وهي تساوي (كلمة/ساعة) أي كلمة كل ساعة!

ومثلًا، في مرّة(6)، حينما استضاف "ديراك" ضيفًا فرنسيًا يحاول بكل جهده أن يتحدث الإنجليزية بصعوبة أمامه كي يُوصِلَ ما يريده من معلومات بدقة.. أثناء ذلك دخلت أخت "ديراك" للغرفة بالصدفة، ثم حدَّثتهُ بفرنسية سليمة فردَّ عليها كذلك بفرنسية سليمة، هنا انفجر الضيف غاضبًا ليسأل ديراك: "لِمَ تركتني كل ذلك الوقت أتحدث الإنجليزية بينما كان من الممكن أن أتحدث الفرنسية؟" فأجاب "ديراك": "لأنك لم تسألني"!

ويُذكر أنه في إحدى المحاضرات(7) التي كان يشرح خلالها أفكاره الجديدة، رفع أحدهم يديه قائلًا: "أنا لم أفهم تلك المعادلة بأعلى اليمين على السبّورة"، هنا صمت "ديراك" لفترة ثم استكمل الشرح إلى أن أوقفه المشرف على المؤتمر قائلًا: "أنت لم تجب عن سؤال الرجل!"، فرد ديراك: "لم يكن ذلك سؤالًا، بل كان تعليقًا".

كانت المشكلة -إذن- أن "ديراك" لم يصطنع تلك الحالة من تعمُّد تقليل الكلام لأضيق حدود ممكنة، (نعم أو لا)، بل ذلك هو طبعه الذي نشأ عليه والتقى العالم الخارجي به، لقد كان بشكلٍ ما شخصًا يعمل للداخل كنجمٍ مُنهارٍ على ذاته، لا يُظهِرُ أيَّ قدرة على التواصل؛ حتّى إن مُحاورًا من مجلة (Wisconsin State Journal) "جورنال ولاية ويسكنسون"، في حوار معه – يمكن أن تقرأه كاملًا من المصادر(8) – بعد أن وصل إلى فلوريدا بالولايات المتحدة، فإنه قد حصل بعد جهد طويل منه على 20 كلمة فقط تراوحت بين "نعم" و"لا" وأضيف إليها "الشطرنج الصيني" حينما سُئل عن أحب الألعاب إلى قلبه، وإجابة أخرى "مرة في سنة 1920 وربما أخرى سنة 1930" حينما سُئل: "متى ذهبت إلى السينما؟"

كان ديراك مُقدِسًا لنظام حياته الخاصة، وامتد ذلك ليؤثر على حياته الزوجية، فاعتزل أطفاله رغم محاولاته في التواصل معهم
كان ديراك مُقدِسًا لنظام حياته الخاصة، وامتد ذلك ليؤثر على حياته الزوجية، فاعتزل أطفاله رغم محاولاته في التواصل معهم

لهذا السبب، لم يهتم "ديراك" كثيرًا بالسياسة أو الموسيقى أو الفن أو الفلسفة أو أي شيء آخر ترائى له أنه يمكن أن يؤثر على نظام حياته اليومي المعتاد إلا عندما بلغ الثمانين من عمره، لذلك عمل ديراك وحيدًا وصاغ معادلاته بمفرده منعزلًا عن تيّار الكوانتم كاملا (بور، هيزنبرج، شرودنجر). ولنفس السبب، رفض العمل في مشروع مانهاتن، وإن كان قد ساهم نظريًا في حلول بعض المشكلات التي واجهت العلماء هناك لكنه فعل ذلك من بيته في كامبردج. وامتد ذلك ليؤثر على حياته الزوجية، فتقول زوجته(9) إنه اعتزل حتّى أطفاله بشكل أو بآخر رغم أنه حاول بالفعل بذل كل جهد ممكن في التواصل معهم.

كان ديراك، إذن، مُقدِسًا لنظام حياته الخاصة، ولفترة طويلة من الزمن كان هذا النظام ثابتًا كالساعة، خمسة أيام عمل ويومين للراحة وللتنزه، وكان يعشق المشي وحيدًا أكثر من أي شيء آخر، ويتصوّر أنه فرصة قيّمة للتأمل، بل ربما أذهل البعض بقدراته العالية على المشي لمسافات طويلة للغاية في الغابات والجبال دون كلل أو ملل، وتسلق "ديراك" قممًا كثيرة، ودار حول العالم مرّتين تقريبًا، وحده في أغلب الأحيان.

ثماني سنوات من العبقرية الخالصة

في تلك النقطة من رحلتنا يمكن أن ننتقل لتأمل الفارق بين "ديراك" وأخيه "فيليكس". انتحر فيليكس سنة 1924، وكان يحب الطب، لكن أبوه أجبره على دخول الهندسة، وكان لذلك أثرٌ غايةٌ في القوّة على العائلة، لكن "ديراك" لم يُظهر أيّ حُزنٍ أو يتحدث عن الموضوع، دَفن "فيليكس" نفسه في التراب، لكن "ديراك" دَفن نفسه في المعادلات الرياضية حدّ الموت، ووجَه -ربما- كامل غضبه، كل تلك الطاقة، إلى عوالم البحث الرياضياتي خلف النظرية الكمومية التي كانت وقتها في طور الميلاد، لذلك كانت السنوات الثماني بين 1925 – 1933 هي قمة إنجازه في الفيزياء، فرسم الصياغة الصورية للنظرية الكمّية خلالها، وتوصّل إلى إحصاء "فيرمي-ديراك"، وصاغ نظرية نسبية للإلكترون، وكمم المجال الكهرومغناطيسي، ثم أتم عامه الثاني والثلاثين من العمر!

"بول ديراك" -في أقصى يسار الصورة- مع عائلته (مواقع التواصل)

تشعر لوهلة أن هذا الرجل كان مغتربًا عنّا بينما هو معنا، لقد ترك "ديراك" عالم التواصل مع البشر ليتواصل بشكل أو بآخر مع عوالم الرياضيات، وكانت مهمته الرئيسية هي صياغة صور رياضياتية أنيقة للنظرية العلمية، وكان يؤمن إيمانًا تامًا بأن النظرية ذات الجمال الرياضياتي أقرب إلى الصحة من نظرية غير أنيقة، ولو كانت هذه الأخيرة تنسجم مع بعض النتائج التجريبية، وهو يقول عن "إرفين شرودنغر"(10): " كنت أجد نفسي متفقا معه بأسرع مما أتفق مع أي شخص آخر. وأظن أن سبب ذلك يعود إلى أننا كنا، كلانا، نستسيغ جدا جمال الرياضيات، كان ذلك ضربا من الإيمان الراسخ لدينا بأن كل المعادلات التي تعبر عن القوانين الأساسية للطبيعة يجب أن تنطوي في جوهرها على جمال رياضياتي كبير".

ربما يبدو ذلك الإيمان الراسخ -الذي ربما يصل إلى حد كونه إيمان ديني- عند "ديراك" بأهمية أناقة الرياضيات المستخدمة لوصف نظرية ما، مفهومًا حينما نتأمل قليلًا بعض إنجازاته، لكننا سوف نضطر لكي نفهم ذلك المنحنى من حياته إلى الخوض قليلًا في بعض الميكانيك الكمومي؛ حيث بدأ الأمر حينما تلقّى ديراك ورقة "هايزنبرغ" الأولى في ميكانيكا الكم من أستاذه، والتي كانت مولد ميكانيكا المصفوفات(11) (Matrix Mechanics)، وتختلف عمليات المصفوفات عن العمليات الاعتيادية في أنها غير إبدالية، ما الذي يعنيه ذلك؟

في الرياضيات العادية يمكن للعملية التالية أن تكون صحيحة (a x b = b x a)، بينما في المصفوفات يكون الترتيب عنصرًا هامًّا بحيث يغير من نتائج المعادلات. كانت النقلة من المتغيرات الإبدالية  (Commuting Variables) الكلاسيكية إلى متغيرات غير إبدالية (Non-Commuting)، في الحقيقة لم تكن تلك العمليات (المصفوفات) مألوفة لدى "هايزنبرغ"، لكنها كانت كذلك بالنسبة لـ"ديراك" وهو البارع في الرياضيات، فقد اكتشف سريعًا درجة العلاقة الرياضياتية بين بنية مصفوفات هايزنبرغ وأقواس بواسون* (Poisson Brackets) الموجودة في الديناميكا الكلاسيكية لحركة الأجسام، واستطاع من خلال ذلك تطوير نظرية للكمّ تعتمد على متغيرات ديناميكية غير إبدالية ممّا مكَّننا من الحصول على نسخة جوهرية كانت الأكثر عمقًا ووضوحًا وبساطةً وعموميةً عن ميكانيكا الكم.

كانت النسخة الكمومية(12) تلك هي تذكرة دخول ديراك لقائمة الفيزيائيين العظماء في تلك الفترة، وكان عمره وقتها 25 عامًا فقط، لكن ديراك لم يتوقف هنا، بل استخدم ما توصّل إليه لتطوير نظرية التحويل (Transformation Theory) والتي ربطت بشكل غاية في الأناقة بين الصياغات المختلفة لميكانيكا الكم، وبيّنت أنها جميعًا لها نفس النتائج الفيزيائية، كانت تلك هي واحدة من أهم إنجازات ديراك والتي جمع خلالها مصفوفات "هايزنبرغ" مع الميكانيكا الموجية لـ"شرودنغر" ليتضح أننا في كل الحالات نتحدث عن نفس الشيء، ثم لا يتوقّف ديراك هنا لكنه يطوّر أفكاره ليضم للمرة الأولى النظرية النسبية لأينشتاين إلى ميكانيكا الكم، تلك المحاولة التي فشل الكثيرون قبله فيها، ليشرح بدقة شديدة سلوك الجسيمات -الإلكترونات هنا -والتي تحتاج معًا لميكانيكا الكم من أجل تفسير سلوكها كجسيمات صغيرة للغاية، وللنسبية الخاصة كي تفسر سلوكها كأجسام سريعة للغاية، إنها معادلة ديراك الشهيرة (Dirac Equation)، والتي يمكن في إطارها شرح ظاهرة لف الجسيمات ومغناطيسيتها.

يستمر ديراك في العمل على التفاصيل الجديدة التي تطرحها معادلته، فيطور بعدها بثلاثة سنوات نظرية الثقوب (The Theory of Holes) والتي تتوقع وجود المادة المضادة، وهي تلك التي تشبه جسيمات المادة العادية لكن مع شحنة مخالفة، الإلكترون السالب الشحنة -مثلًا- يقابله البوزيترون صاحب نفس الخصائص لكنه موجب الشحنة، تلك الجسيمات التي تم اكتشافها تجريبيًا على يد "كارل أندرسون" سنة 1932، ليحصل "ديراك" على نوبل بعدها بالتشارك مع "شرودنغر"(13). قبل ذلك، لم يصدق أحد أنه يمكن لمادة كتلك أن تكون موجودة، وأهملها الجميع في دراستهم لأبحاث "ديراك"، لكن يتبين أن التنبؤ بها من قِبل "ديراك" كان -كما يقول فيرنر هايزنبرغ- الإنجاز الفردي الأعظم في القرن العشرين.

"ديراك" -إذًا- هو واحد من مؤسسي النموذج المعياري لفيزياء(14) الجسيمات (Standard Model of Particle Physics)، والذي ربما أعظم إنجاز بشري حصل في الفيزياء إلى الآن، وهو بذلك واحد من أعظم الفيزيائيين في تاريخ العلم كله، بل لا زال كتابه الشهير "مبادئ ميكانيكا الكم" يصدر في دور النشر حتى الآن، ومنه نسخة عربية، ولا زالت الكثير من مفاهيمه تستخدم في الورقات البحثية، ويلجأ الفيزيائيون الشباب إلى أعماله حتى الآن، لكن دعنا الآن نترك إنجازات "ديراك" جانبًا لنسأل عما بدأنا به وعلاقة ذلك بالرياضيات حيث: كيف توصّل الرجل إلى ذلك كله؟

نظرية جديدة في فلسفة الجمال!

معادلة
معادلة "بول ديراك" (ذا كيريوس أسترونومر)
  

فقط عبر الحدس الرياضياتي، دعنا هنا نتأمل تلك النقطة قليلًا، لم يبدأ "ديراك" من التجريب، أو من الفيزياء بصورة واضحة، لكنه استطاع فقط عبر بنيات رياضياتية صممها بنفسه أن يتوقع بدقة شديدة نتائج تجريبية كانت الأدق في وقتها، لهذا السبب يتمسك "ديراك" دائمًا -وبشكل مقدس- بفكرة أن الأناقة الرياضياتية وجمال بنية المعادلات هما المحدد الرئيسي لصحة نظرية ما، لأنها إن كانت أنيقة سوف تكون متسقة مع الطبيعة بدرجة أكبر، وكانت لذلك قادرة -فقط بسبب جمالها- على عمل تنبؤ دقيق.

يؤسس "ديراك" إذن لفلسفة جمال أكثر عملية تظهر ربما من قلب البراغماتية الإنجليزية لتصنع من الجمال صورة رياضياتية أنيقة قابلة للتطبيق المباشر في الطبيعة، صورة تصنع من الفيزيائي باحثًا عن الجمال كمحرك أساسي لعلم الفيزياء، لأن الجمال هنا هو ببساطة حقيقة الطبيعة الأصيلة(15)، ولغتها التي تحدثنا بها، بل ينتقل "ديراك" ليطلب من الفيزيائيين أن يهتمّوا بجمال المعادلات التي يعملون عليها وليس ما تعنيه، "ديراك" -إذا- يصنع الصياغة الرياضياتية -وليس الآليات التجريبية- مركزًا لانطلاق الفيزياء، إن تلك الرؤية هي ما أطلق ثورة جديدة في هذا العلم أنتجت فيما بعد فيزيائيي الأوتار كما نراهم الآن، لقد أصبحت الفيزياء بعد ديراك علمًا جديدًا.

يدفع "ديراك"، إذن، بالفيزيائيين للتخلّي عن مبدأ البساطة كهدف رئيسي للفيزياء إلى مبدأ الجمال الرياضياتي كهدف رئيسي لها، فيقول(16) إن النسبية رغم تخطّيها لحاجز البساطة إلا أن سر نجاحها هو جمال الرياضيات الخاصة بها، ويضيف أن "الرياضياتي يلعب لعبة يضع هو قوانينها، بينما يلعب الفيزيائي لعبة تضع الطبيعة قوانينها"، لكن مع مرور الوقت نكتشف أن تلك القوانين التي ابتكرها الرياضياتي هي نفسها القوانين التي اختارت الطبيعة أن تعمل بها، ثم يمد ديراك فلسفته على استقامتها فيتوقع أن تندمج كل من الرياضيات والفيزياء بحيث يصبح لكل جانب من الرياضيات -يومًا ما- تطبيقا في الطبيعة.

كان هذا هو "بول ديراك"، رجُل ذو بعد واحد، طريقة محددة بسيطة سهلة في الحياة، تشبه طريقته في صياغة معادلاته الأنيقة، لكن البشر لا يقبلون ببساطة رجل بتلك الطباع، لذلك عاش وحيدًا ديراك حتى التقى بـ"مارجيت فاجنر" أخت صديقه "يوجين فاغنر" الفيزيائي الشهير، كانت مطلقة ولها من زوجها الأول طفلين، وكانت ذات طباع مختلفة تمامًا عن صديقنا الكتوم الصامت، فقد كانت تتحدث كثيرًا، وتكون العلاقات الاجتماعية بسهولة؛ حتى إنها كانت ترسل له خطاب مكون من ثماني صفحات كل ثلاثة أيام، فيرد بخطاب لا يُكمل السطرين كل ثلاثة أسابيع، وعلى الرغم من تعجب كل من حولهما، وتصورات الجميع عن المستقبل الكارثي لتلك العلاقة، تزوجا وعاشا معًا حتى آخر العمر، تزوج ديراك من جسمه المضاد!

عاد ديراك إلى الرياضيات والفيزياء بعد أن التقى مع نظرية
عاد ديراك إلى الرياضيات والفيزياء بعد أن التقى مع نظرية "أينشتاين" النسبية التي سحرته بأناقتها الرياضياتية، وتسبب ذلك القرار الشخصي في معظم ما نراه الآن من تقدم علمي وتقني

اقتربت رحلتنا مع "ديراك" من الانتهاء، لكن دعنا الآن نتأمل حكاية أخيرة هامة، هناك سببان يُعتقد أنهما ما دفعا "بول أدريان موري ديراك"، الشاب بريطاني الجنسية والقاطن في "بريستول"، إلى دراسة الهندسة الإلكترونية رغم ولعه بالفيزياء والرياضيات، الأول هو ربما لكي يصبح مثل أخيه الأكبر والذي سبقه إلى كلية الهندسة هو الآخر، والثاني ربما له علاقة بسوق العمل، فإيجاد وظيفة كمهندس كانت أسهل كثيرًا من العمل كفيزيائي وصاحبة راتب أكبر، فقرر "ديراك" هنا -ربما- أن يتّبع الحل الأكثر استقرارًا ويبدأ في دراسة الهندسة، وغالبًا ما كان ذلك دفعًا من والده الذي تحكم في تحرك أخيه الأكاديمي كذلك، تجربة شبيهة نجدها عند "فون نيومان" حينما قرر والده أن يدرس الهندسة لنفس السبب بينما رغب "نيومان" في الرياضيات، لكن نيومان قرر دراسة كليهما معًا لإرضاء نفسه وأبيه بالوقت نفسه، يبدو أن الفيزياء والرياضيات كانا قرارًا صعبًا على مدى تاريخنا، لكنك في مرحلة ما قد تتوقف، ثم تعيد التفكير، ثم تقول لذاتك: "لا، أنا غير مُرتاح هنا، أريد أن أرجع لفعل ما أحب حقًا".

دعنا نتأمل تلك النقطة قليلًا، بل كثيرًا ربما، فهو أمر يتعلق بواقع يعيشه طلبة المراحل الثانوية والجامعات بشكل يومي في الوطن العربي. لقد عاد ديراك بالفعل إلى الرياضيات والفيزياء حينما انتهى من دراسة الهندسة وبعد أن التقى بالصدفة مع نظرية "أينشتاين" النسبية والتي سحرته بأناقتها الرياضياتية، وتسبب ذلك القرار الشخصي في معظم -إن لم يكن كل- ما نراه الآن من تقدم علمي وتقني، فقط لأن أحدهم قرر أن يعود لما يحب، لم يقل إنها كانت فرصة واحدة وانتهت، لم يقل إن الأمر بات مستحيلًا، لم يقل إنه قد أنجز بالفعل في الهندسة الكهربائية قسطًا من الجهد وربما من الأَوْلى أن يستكمل طريقه فيها، لكنه فقط لم يستطع التغلب على ذلك الولع بالفيزياء والرياضيات واعتبر كل شيء آخر هو ملل يضيّع الوقت، يدفعنا ذلك ربما لتأمل بعض كلمات منسوبة إلى "ريتشارد فاينمن"، دعنا ننهي بها هذا المقال عن واحد من أعظم العقول في تاريخ العلم، يقول "فاينمن":

"أحَب شيئًا ما، وافعله! لم يحدث أن اكتشف أحد ما الذي تعنيه الحياة، وهذا لا يهم، فقط استكشف العالم، تقريبًا كل شيء مثير للاهتمام حقيقًة إذا دخلت في أعماقه بدرجة أكبر، فلتعمل بكل جهد ممكن في الأشياء التي تستثير اهتمامك حقًا، لا تفكر فيما تريد أن تكون عليه، بل فكر فيا تريد أن تفعله"

__________________________________

هامش:

(*): لمزيد من الفهم للأساسات والمفاهيم الهامة في ميكانيكا الكم، ومعادلة ديراك كذلك ومفهوم البراكيت الذي استخدمه، ينصح الكاتب بمجموعة قصيرة من حلقات "بوب ايجل" الشهيرة والمبسطة للغاية في الميكانيك الكمومي خاصة الحلقات الخمس الخاصة بالمفاهيم الأساسية في نظرية الكوانتم.

المصدر : الجزيرة