شعار قسم ميدان

"إيرما" و"هارڤي".. كيف فجَّر التغير المناخي أعاصيرنا المدمرة؟

midan - Hurricane Irma ميدان - إعصار إرما

في الأثناء التي تُكتب فيها هذه الكلمات، يرتفع مقياس إعصار إيرما (Irma) ليصل إلى الفئة الخامسة(1)، مع تحذيرات شديدة لسكان ولاية فلوريدا الأميركية من مخاطر كارثية أثناء مرور الإعصار، مئات الآلاف يفرّون خارج الولاية بعد أن صرحت الإدارة الخاصة بها بضرورة إجلاء أكثر من 5.6 مليون مواطن وقد أعلنت حالة الطوارئ، والبقية من المواطنين التي لم تستطع ترك الولاية تتجهز للإعصار الكارثي بتدعيم المنازل كي تصمد لإعصار يعتبر الأقوى منذ كاترينا في 2005.

 

بالطبع ذلك هو موسم الأعاصير في تلك المنطقة من العالم، لكن قبل أيام قليلة سجلت مراكز بحوث الأعاصير رقمًا قياسيًا جديدًا، حيث حدث لأول مرة أن اجتمع إعصارين معًا تتخطى(2) سرعة كل منهما الـ 240 كيلومتر في الساعة، إنهما إعصاري إيرما وخوسيه (Jose)، اللذان يضربان الأطلنتي هذه الأيام، كان إيرما قد سجل منفردًا قبل أيام رقمًا قياسيًا جديدًا بالاستمرار في الضرب بسرعة تقترب من 300 كيلومتر في الساعة لمدة أكبر من 65 ساعة متواصلة(3)، وهو بذلك يكسر رقما كارثيا سابقا ضربه إعصار ألين (Allen) في المكسيك بالاستمرار في مرحلة الذروة لمدة 18 ساعة فقط، بالطبع تدفع بنا تلك المعلومات الجديدة للتساؤل عن علاقة ما يحدث بالتغير المناخي.

  

ثلاثة أعاصير تضرب خليج المكسيك معًا، من اليسار لليمين هي كاتيا، إيرما الذي عدل مساره ليقترب من فلوريدا، ثم خوسيه (مواقع التواصل)
ثلاثة أعاصير تضرب خليج المكسيك معًا، من اليسار لليمين هي كاتيا، إيرما الذي عدل مساره ليقترب من فلوريدا، ثم خوسيه (مواقع التواصل)

  

دعنا في تلك المرحلة قبل الخوض في موضوعنا نؤكد أن مشكلة التغير المناخي لا تظهر بوضوح لنا في ارتفاع درجة حرارة الكوكب بمعدل درجة أو اثنتين، لكنها تظهر في ارتفاع معدلات التطرف والشذوذ الناتج بسبب ذلك الارتفاع في درجات الحرارة، وهو نوع من التطرف يميزه في كل مرة عدم قدرتنا على التنبؤ بالمستقبل الخاص بتلك التحركات المفاجئة، المناخ هو منظومة متعقدة تخضع لعوامل عدة قد يكون أتفهها -تأثير الفراشة بالتعبير المجازي- هو السبب في أكثر التغيرات خطورة، لكن.. ماذا عن تلك الأعاصير؟

   

علاقة ثلاثية واضحة
الأمر معقد إذن، الأعاصير هي منظومات فوضوية يصعب التعرف على أسباب تكونها والعوامل الكثيرة المتداخلة التي تؤثر في تطورها، لكن على الرغم من ذلك يمكن أن نؤكد أن هناك ثلاثة عوامل أساسية تربط بين التغير المناخي وشدة الأعاصير (درجة تدميريتها)، حيث ارتفع عدد الأعاصير من المقياس 4 و5 -تلك التي ترتفع سرعة الرياح فيها عن 200 إلى 250 كم في الساعة- من(4) معدل 10 أعاصير في السنة في سبعينيات القرن الفائت ليصل في التسعينيات إلى 18 إعصارًا في السنة، بينما لا نمتلك بعد تفسيرا واضحا لعلاقة التغير المناخي بتكون الأعاصير من أساسها.

 

أول تلك العوامل بالطبع ذا علاقة بارتفاع درجة حرارة سطح الماء(5) في بحار ومحيطات العالم، وما يربطه بالأعاصير هو ببساطة أن أي إعصار يستقي طاقته من تلك الحرارة حيث يستخدمها لتغذية ماكينته الضخمة تسرّع من رياحه، لذلك أصبح من المؤكد لنا أنه كلما ارتفعت درجة الاحتباس الحراري، وهي ترتفع، كلما أصبحنا عرضة لأعاصير أكثر قسوة وسرعة عن ذي قبل، لأن مياه المحيطات سوف تصبح أكثر سخونة كذلك، وربما يشرح ذلك التأثير التدميري المتعاظم للإعصار إيرما والذي نشأ في منطقة من المحيط ترتفع درجة حرارة سطحها بمقدار درجة مئوية واحدة عن المتوسط.

  

يرتفع متوسط نسبة الرطوبة بمعدل 3% مع كل ارتفاع بمعدل 0.5 درجة مئوية في حرارة الطقس، ويعني هذا الارتفاع في نسبة الرطوبة ارتفاعا مماثلًا في كم الأمطار الساقطة أثناء الإعصار والتي تتسبب في فيضانات غير مسبوقة (الأوروبية)
يرتفع متوسط نسبة الرطوبة بمعدل 3% مع كل ارتفاع بمعدل 0.5 درجة مئوية في حرارة الطقس، ويعني هذا الارتفاع في نسبة الرطوبة ارتفاعا مماثلًا في كم الأمطار الساقطة أثناء الإعصار والتي تتسبب في فيضانات غير مسبوقة (الأوروبية)

  

في الحقيقة، يمكن هنا أن نربط(6) بين ارتفاع في سرعة الرياح الخاصة بالإعصار الواحد بمقدار 480 مترًا في الساعة بكل ارتفاع لدرجة الحرارة بمقدار درجة مئوية واحدة، بل ربما يفسر ذلك كارثة أخرى نعرف بوقوعها، وهي أن أكثر الأعاصير التي شهدها هذا الكوكب قوة في تاريخه، ينضم لها إيرما وهارڤي، قد حدثت في السنتين الماضيتين حينما نقارن سرعة رياح الأعاصير ببعضها البعض، هنا سوف نود أن ننتقل إلى العامل الثاني الذي ربما يتدخل في تلك العلاقة، وهو يرتبط بارتفاع مستوى سطح البحر، وهو موضوع تطرقنا لارتباطه بالتغير المناخي في عدة تقارير سابقة، "لأن التغير المناخي يحدث أسرع مما نعتقد" و"الرعب الأبيض.. هل تعيد قارة أنتاركتيكا تشكيل العالم؟".

 

حيث تشير العديد من الدراسات(7،8) إلى ارتباط وثيق بين ارتفاع مستوى سطح البحر ودرجة قوة وكارثية الأعاصير في أماكن عدة، مما يرفع من معدلات الأعاصير المهولة التي تحدث بمعدل "مرة في القرن" لتصبح "مرة كل عشر سنوات"، كذلك مع زحف البحر والمحيط على المدن الساحلية ترتفع خطورة ضرب تلك السواحل بأعاصير كارثية بمعدلات كبيرة، أضف لذلك أنه يساعد مع العامل الثالث هنا في رفع كم الفياضانات المحتملة بسبب الأعاصير إلى أرقام كارثية، لنتحرّى تلك النقطة بدرجة أكبر من التفصيل.

 

ما نعرفه أن ارتفاع درجة حرارة الهواء يساعده على تحمل درجات أكبر من الرطوبة، فحسب معادلة "كلاوزيوس-كلابيرون"(9) (Clausius-Clapeyron equation) يرتفع متوسط نسبة الرطوبة بمعدل 3% مع كل ارتفاع بمعدل 0.5 درجة مئوية في حرارة الطقس، ما يعني 7% تقريبًا(10) بالنسبة للوضع العالمي الحالي والذي ارتفعت فيه الحرارة بمقدار أكبر من درجة، ويعني هذا الارتفاع في نسبة الرطوبة ارتفاعا مماثلًا في كم الأمطار الساقطة أثناء الإعصار والتي تتسبب في فيضانات غير مسبوقة، في الحقيقة نحن نمتلك مثالا حيا على تلك المشكلة، إنه إعصار هارڤي (Harvey) الذي ضرب الولايات المتحدة قبل إيرما مباشرة.

  

صورة مهيبة للإعصار هارڤي من المحطة الفضائية الدولية (مواقع التواصل)
صورة مهيبة للإعصار هارڤي من المحطة الفضائية الدولية (مواقع التواصل)

 

فكما نرى في هيوستن(11)، وصل معدل سقوط الأمطار في المدينة بعد إعصار هارڤي إلى حوالي 120 سنتيمتر من الأمطار، وهو ما حول شوارعها إلى ما يشبه الأنهار الجارية، مما تسبب في توقف الحياة بمقاطعات كاملة، وهو أيضا ما دفع بالمتخصصين بالهيئة القومية لخدمة الطقس لوضع لون(12،13) جديد بخرائط نسب الأمطار للتعبير عن تلك الأرقام التاريخية، وتشير بعض الدراسات إلى مستقبل كارثي لأكثر من 450 مليون شخص في العالم سوف يتأثرون بارتفاعات متفاوتة في كميات الأمطار، وبالتالي الفيضانات، لنفس السبب، وهو تضافر ارتفاع درجة حرارة الهواء مع ارتفاع منسوب مياه البحر يومًا بعد يوم.

  

نعم، إنه يحدث الآن
إلى جانب تلك العوامل الرئيسية يمكن لنا كذلك أن نتعرف إلى عوامل أقل تأثيرًا، خذ مثلًا(14) ارتباط كمّيات الفيضانات الناتجة من هارڤي ببطئ حركة الإعصار نفسه، وقد توقعت تلك النتيجة نماذج حاسوبية من قبل حدوثها بناءً على ارتفاع في ضغط المناطق تحت الاستوائية (Sub-tropics) مما دفع بالتيارات النفاثة عالية السرعة شمالًا، وقد توقعت نفس النماذج تغيرا مستقبليا قاسيا في نظم المناخ الخاصة بدوائر العرض المتوسطة (Mid-latitudes) بسبب احترار المحيط الهادئ.

 

إن المشكلة الأساسية التي تواجه البحث العلمي في مجال التغير المناخي هي أن تلك -كما أوضحنا منذ قليل- هي أنظمة فوضوية متعقدة تتأثر بعوامل عدة لا يمكن لنا أن نجمعها بالكامل، كذلك تؤثر عوامل غاية في التفاهة بحيث لا يمكن أن ندركها في مستويات خطورة لا يمكن أن نتوقعها، بمعنى أنه لا يمكن لنا استيضاح علاقة مباشرة (سبب – نتيجة) بين التغير المناخي وتطورات الأعاصير الكارثية، أو -مثلًا- الموجات الحارة القاتلة، يشبه الأمر علاقة سرطان الرئة بتدخين السجائر، هناك دائمًا عوامل خطورة لكن لا نجد ارتباطات سببية واضحة، كذلك تظهر النتائج دائمًا بطرق إحصائية لا يمكن للمواطن العادي أو حتى رجل السياسة أن يتقبلها، فالجميع يريدون معلومات بطريقة 1 + 1 = 2.

  

يجب أن نعرف أن التغير المناخي ليس فكرة نظرية ننتظر أثرها في المستقبل البعيد، فإيرما وهارڤي، التي قتلت الآلاف في باكستان والهند قبل عامين، هم التغير المناخي
يجب أن نعرف أن التغير المناخي ليس فكرة نظرية ننتظر أثرها في المستقبل البعيد، فإيرما وهارڤي، التي قتلت الآلاف في باكستان والهند قبل عامين، هم التغير المناخي
  

لهذا السبب ينشأ الجدل العالمي الواسع حول علاقة النشاط البشري الصناعي بالاحترر العالمي، وتستغل دول عدة تلك المشكلة من أجل مكاسب سياسية واقتصادية، لكن المشكلة الإضافية هنا هي أن التغير المناخي يحدث بالفعل، ويحدث دائما بشكل مفاجئ(15) وبوتيرة متصاعدة، لقد أصبح ذلك مؤكدًا ولا يمكن تجنبه، لذلك لا يضيف الجدل إلا تجاوزًا لنقطة اللاعودة إن كان من الممكن أن نراهن على إمكانية إصلاح ما يحدث، أو إبطاء عمله، قبلها. كذلك يجب أن نضيف أنه من المؤسف أن يظهر أثر هذا التغير واضحًا في دول لا يُقارن نشاطها الصناعي بالولايات المتحدة أو أوروبا مثلًا.

 

نعم، لقد عرفنا أن ذلك سوف يحدث منذ عقود مضت، لقد عرفنا أن حدة الأعاصير والموجات الحارة سوف تستمر في التصاعد(16) لكننا تشككنا على مدى عشرات السنين في قضايا سياسية بدون الانتباه لعدد القتلى، هناك إجماع علمي(17) أن التطرف المناخي سوف يطال مدننا وبيوتنا، ومن بين كل عشرة علماء متخصصين في مجال الطقس يوافق تسعة على وجود علاقة بين التغير المناخي الحادث والنشاط الإنساني، وما يجب أن نعرفه، في بيوتنا ونحن نتصفح الفيسبوك أو تويتر، هو أن التغير المناخي ليس فكرة نظرية ننتظر أثرها في المستقبل البعيد، فإيرما وهارڤي، الموجات الحارة التي قتلت الآلاف في باكستان والهند قبل عامين، هم التغير المناخي، وقد حضر بالفعل.

المصدر : الجزيرة