شعار قسم ميدان

هل يصف العلم الواقع؟

midan - book

لنبدأ بالسؤال عن أبسط الأشياء التي يمكن أن نعرفها في عالم الفيزياء والكيمياء، الإلكترون مثلًا، هل توجد إلكترونات بالفعل؟ للوهلة الأولى سوف تجيب بأن هذا سؤال تافه، بالطبع هناك إلكترونات، وبروتونات ونيوترونات بداخل الذرة، فهذا هو تركيبها الذي طالما دَرسناه بدايةً، ربما من الصف السادس الابتدائي، لكن هل رأينا تلك الإلكترونات لنقول إنها موجودة؟ أم أننا رأينا أثرها الذي توقعته نظرية علمية ما؟ يعني ذلك أن هناك حاجز ما يقف بيننا وبين تلك الأشياء التي لا يمكن لنا رصدها بشكل مباشر، هذا الحاجز هو النظرية العلمية، وأنت إذ تقول إن هناك بالفعل إلكترونات، كحقيقة علمية، فأنت بالتالي تقول إن النظريات تعبر عن حقائق، أو هي ذاتها حقائق، أليس كذلك؟

  

هنا تتعقد الأمور قليلًا، تدور حول إجابة هذا السؤال البسيط وجهات نظر عِدة، أحد تلك الوجهات هو ما نسميه الواقعية العلمية (Scientific Realism)، وهو الموقف الفلسفي القائل إن المنهجية العلمية تجمع المعرفة عن واقع موجود بالفعل، عن حقائق العالم؛ حيث إن كان من العقلاني أن نتقبل نظرية علمية ما -وهو أمر نتطرق إليه بعد قليل- فمن العقلاني أيضًا، بالقيمة نفسها، أن نتقبل وجود تلك الكيانات النظرية (theoretical entities) التي تتحدث عنها تلك النظرية كأشياء حقيقية موجودة بالفعل في أرض الواقع، بِذلك يمكن تعريف العلم على أنه "المنهجية التي تهدف إلى الإطلاع على طبيعة الواقع".

 

ثلاثة أبعاد
تتنوع التوجهات داخل الواقعية العلمية للدرجة، رُبما، التي تجعل من تعريف هذا المفهوم يختلف باختلاف قائله أو كاتبه من الفلاسفة، فالبعض قد يتحدث عن واقعية1 إدراكنا للشاشة التي تقرأ منها هذا الكلام الآن مثلًا؛ واقعية المعطيات الحسّيه (sense datum realism)، والبعض قد يتحدث عن واقعية الشاشة نفسها "واقعية العالم الخارجي (external world realism)، والبعض الآخر عن الكيانات الرياضياتية كالأعداد أو الفئات؛ واقعية رياضياتية (mathematical realism)… وهكذا. لكن في النهاية، نستطيع استخراج ثلاثة أبعاد رئيسة2 يمكن من خلالها تحقيق فهم واضح لمفهوم الواقعية العلمية، بُعد ميتافيزيقي أنطولوجي (Metaphysical)، وبُعد دَلالي (Semantic)، وبُعد معرفي (epistemological).

  

يجب أن نلتزم بتصديق الأشياء التي تتحدث عنها النظريات العلمية، بمعنى أننا سوف نصدق بوجود الإلكترون، لكننا لا يجب أن نتعامل مع النظريات الحالية التي تصف سلوكه بشكل حرفي
يجب أن نلتزم بتصديق الأشياء التي تتحدث عنها النظريات العلمية، بمعنى أننا سوف نصدق بوجود الإلكترون، لكننا لا يجب أن نتعامل مع النظريات الحالية التي تصف سلوكه بشكل حرفي
  

تتحدث الواقعية العلمية، ميتافيزيقيًا، عن كيانات حقيقية موجودة بالفعل بغض النظر عن عقولنا، أي: خارج إطار ذهننا وجهازنا الإدراكي، إنها هناك سواء كنّا موجودين أو لا، وهي بذلك تقف على النقيض تمامًا من "المثالية (Idealism)" والتي تقول إنه لا يوجد عالم مستقل عن أذهاننا، إن ما هو موجود هو موجود لأننا ندركه، فحقيقة الكون ليست أشياء واقعية منفصلة عن ذواتنا، لكن أفكار وصور عقلية. لكن ربما من الضروري أن نلفت النظر هنا إلى أن تلك الفكرة من الواقعية تختلف قليلًا عن مفهوم الكانطية القائل إن العالم ذاته موجود بالفعل، فالفارق هنا هو قول الكانطية إن هذا العالم غير منفصل عن ذواتنا ولا يمكن لنا إدراك طبيعته.

 

ثم، من وجهة نظر دلالية، تتصور الواقعية العلمية أن ادعاءات النظريات العلمية، سواء كانت قابلة للرصد (Observable) أو غير قابلة للرصد (Unobservable)، يجب أن تُفسَّر حرفيًا، وتكون إما صادقة أو كاذبة، بمعنى أن الشكل الذي تظهر عليه الأشياء في النظرية هو حقيقتها، يشبه الأمر أن ترى ورقة بقيمة عشرة جنيهات -النظرية- مكتوب عليها عشرة جنيهات، فتعرف أن تلك هي حقيقتها، عشرة جنيهات. البوزونات والنيوترونات والثقوب السوداء التي تُحدثنا عنها النظريات -وهي أشياء لا يمكن رصدها- توجد إذن بالضبط بالشكل نفسه الذي توجد به أقواس قزح وعبوات المياه الغازية وكواكب المجموعة الشمسية التي نرصدها عبر تلسكوباتنا، هناك إذن علاقة من التطابق3 (correspondence) بين ما نعتقد أنه الوصف الصحيح للعالم، والعالم نفسه.

 

ترى الواقعية البنيوية أن النظريات، القوانين الرياضياتية والفيزيائية التي تحكم سلوك الأشياء، وليس الأشياء نفسها، هي فقط الشيء الوحيد الواقعي

أما من وجهة نظر معرفية، أبستمولوجية، فإن ادعاءات العلم (تلك التي تتحدث عن إلكترونات موجودة بالفعل ومنفصلة عن ذواتنا) هي، لذلك، ما يشكل معرفتنا عن العالم. في تلك النقطة، تتدخل وجهات النظر المتشككة (Skeptical) لتقول إن العلم بالفعل ربما يتحدث عن عالم منفصل عن ذواتنا، وربما عن كيانات حقيقية غير مرصودة، لكن النظريات تقول إنها موجودة، الإلكترونات، لكن تلك الرؤية غير كافية لتشكيل معرفتنا عن العالم، على الأقل يمكن للكيانات المرصودة فقط أن تفعل ذلك بالنسبة للبنائية التجريبية4 (Constructive Empiricism) والتي طوّرها باس فان فراسين (Bas van Fraassen)، وهي أحد بدائل الواقعية العلمية التي تتفق معها أنطولوجيًا ودلاليًا، لكنها أبستمولوجيًا تتحدث عن الأشياء المرصودة فقط.

 

وعلى الرغم من وجود تلك الأبعاد الرئيسية، تظهر الكثير من التنوعات بداخلها. فمثلا، أحد أشهر التوجهات الموجودة حاليًا هو الواقعية الشيئية5 (Entity Realism)، والتي تقول إننا يجب أن نلتزم بتصديق وجود الأشياء التي تتحدث عنها النظريات العلمية، الإلكترونات مثلًا، لكن هذا الالتزام يغيب تجاه النظريات، بمعنى أننا سوف نصدق بوجود الإلكترون، لكننا لا يجب أن نتعامل مع النظريات الحالية التي تصف سلوكه بشكل حرفي، فنحن نتعامل مع الإلكترونات تجريبيًا، نطلقها في تجربة الشق المزدوج، ونرى أثرها في الشاشة الخلفية، ونصنع منها وابلًا في المصادمات، تلك الأشياء (Entities) التي يمكن لنا التلاعب بها، موجودة.

 

من جهة أخرى مضادة، ترى الواقعية البنيوية (6structure realism) أن النظريات، القوانين الرياضياتية والفيزيائية التي تحكم سلوك الأشياء، وليس الأشياء نفسها، هي فقط الشيء الوحيد الواقعي. لنأخذ مثلًا القانون البسيط لانعكاس الضوء في المرآة والذي يقول إن "زاوية السقوط تساوي زاوية الانعكاس"؛ رغم تغير فهمنا لطبيعة الضوء، كان جسيمًا أو موجة، بوجود الأثير أو بعدم وجوده، ظل هذا القانون فعّالًا، ظل الهيكل/البنية (Structure) قائمًا على مستوى الصياغة رغم تغير الشيء (Entity).

undefined

 

صحيحة.. تقريبيًا
في تلك النقطة، ربما سوف نسأل عن تاريخ العلم، وهو سؤال مطروح بالفعل عبر مفهوم الاستقراء المتشائم7  (Pessimistic meta- induction)؛ حيث لنتأمل مثلًا أفكارًا علمية ظلت سائدة لفترة ثم أُثبت خطأها، كنظرية السيّال الحراري التي تقول إن الحرارة هي نوع غامض من السوائل تتدفق تلقائيا من الجسم الحار إلى الجسم البارد بشكل تلقائي وليس لها وزن، أو نظرية الفلوجيستون التي تقول إن الفلوجيستون هو مادة تخرج من المواد أثناء احتراقها، أو فكرة الأثير التي كانت سائدة قبل ظهور نسبية أينشيتين، لقد ثبت خطأ كل تلك الأفكار، لكن، أليس من المفترض حسب الواقعية العلمية أن نعتبر أن كل تلك النظريات تتحدث عن حقائق، كذلك، إذا قمنا باستقراء بسيط، ألا يمكن أن نفترض الإلكترونات والبروتونات قد تصبح يومًا ما كالفلوجيستون أو الأثير؟

 

هنا ترد الواقعية العلمية بأن كل النظريات لا يمكن أن تُقبل كـ "واقعية (Realistic)"، لكن فقط تلك النظريات الناضجة (Our Best Theories): التي لاقت إجماع العلماء لفترة طويلة، وخَضعت لتجارب تنبؤية صارمة. خذ مثلًا، النظرية النسبية لأينشتين، أو ميكانيكا الكم، تلك نظريات لا تصف حالة الطبيعة كما هي عليها وتفسر ما هو موجود بالفعل، لكنها تتنبأ بأشياء لم نتصور وجودها بالأساس، كانحناء الزمكان الذي يتسبب بتغير مواضع النجوم في السماء مع ودون وجود كسوف شمسي ما، في النظرية النسبية، والجسيمت المضادة في ميكانيكا الكم. في الحقيقة، تمثل النظرية النسبية نقطة انطلاق قوية لتلك الرؤية، فنحن بالفعل نضطر لضبط ساعات الأقمار الصناعية الخاصة بنا لأنها تقرأ الوقت بشكل أسرع من ساعات الأرض بسبب ارتفاعها، وإلى الآن ما زلنا نرصد صحة توقعاتها في هذا النوع من التنبؤات.

 

بل ربما تجدر الإشارة هنا إلى أحد أهم الحجج الداعمة لصحة الواقعية العلمية هي الحجة الشهيرة التي نسمّيها "لا وجود للمعجزات8 (No Miracle Argument)" وتعني -بتعبير هيلاري بوتنام9 (Hillary Putnum)- أن الواقعية العلمية هي "الفلسفة الوحيدة التي لا تجعل من نجاح العلم معجزة"، تبدأ الحجة بوضوح من الدقة العلمية الرهيبة والقدرة التنبؤية للعلم والتي نواجهها يومًا بعد يوم، توقعات النسبية لموجات جذبوية سعتها أصغر من قطر البروتون، التحرير الجيني الذي ينجح في تغيير صفات نباتات وحيوانات بدقة شديدة، تنبؤات ميكانيكا الكم والتي تعتبر الأدق في التاريخ. لقد طوّع العلم الطبيعة في أيدينا بشكل لم نكن نتصوره، وأطال أعمارنا، وأعطانا المضادات الحيوية، ماذا غير ذلك يمكن له أن يشرح نجاح العلم؟ إذا كانت تلك النظريات التي تضع تلك التنبؤات القوية غير صحيحة، هناك إذن معجزة ما هي ما يمكنه أن يشرح نجاح العلم.

  

لا تقول الواقعية العلمية إن النظريات العلمية صحيحة ومنتهية تمامًا عند هذا الحد، بل أنها صحيحة بشكل تقريبي، أي أنها تقترب من الصحة كلما تقدم العلم يومًا بعد يوم (أن سبلاش)
لا تقول الواقعية العلمية إن النظريات العلمية صحيحة ومنتهية تمامًا عند هذا الحد، بل أنها صحيحة بشكل تقريبي، أي أنها تقترب من الصحة كلما تقدم العلم يومًا بعد يوم (أن سبلاش)

 

ليست كل النظريات إذن نموذجًا للواقعية العلمية، خذ مثلًا نظرية الأوتار أو الجاذبية الكمية الحلقية، أو بعض المفاهيم الافتراضية كالطاقة المظلمة والمادة المظلمة، فبالرغم من أن كل تلك الأفكار تتجاوز العديد من التناقضات الموجودة حاليًا في الفيزياء وتفسر الواقع بشكل أفضل، إلا أنها ما زالت محل جدل بين العلماء، كما أنها لا تمتلك تاريخا حافلا بالإنجازات التجريبية كالنظرية النسبية مثلًا، هنا سيكون الواقعي (Realist) أكثر حذرًا تجاه التحدث عن الأوتار أو المادة والطاقة المُظلمتين ككيانات موجودة بالفعل في أرض الواقع.

 

أضف لذلك الجدل، أن الواقعية العلمية لا تقول إن النظريات العلمية صحيحة ومنتهية تمامًا عند هذا الحد، بل تقول أنها صحيحة بشكل تقريبي (Approximately true)، أي أنها تقترب من الصحة كلما تقدم العلم يومًا بعد يوم، نحن مثلًا نعرف أن الميكانيكا النيوتونية قادرة بدقة على تفسير ووصف أحداث حياتنا اليومية، طريقة عمل سيارتك، الآلات فيها، وحتى الكوب الموضوع على منضدة في قاعة اجتماعات مملة، لكن حينما نتحدث عن أجرام بحجم النجوم، أو سرعات مهولة كسرعة الضوء، فإن النسبية تشرح العالم بشكل أفضل… وهكذا.

 

ضد الواقعية
لكن على الرغم من ذلك النجاح الذي تحققه حجة "لا وجود للمعجزات"؛ إلا أن الواقعية العلمية تواجه انتقادات من وجهات نظر عدّة، الأداتية10 (Instrumentalism) -أحد أشهر تلك التوجهات-  ترى أن النظريات العلمية هي أدوات يستخدمها العلماء لتحقيق أغراض عملية خاصة، بالفعل هناك في العالم الواقعي أشياء يمكن رصدها (Observable) كالأشجار وقطرات المياه والأقمار التي تدور حول المشتري، لكن الإلكترونات، البوزونات، والكواركات هي كيانات نظرية نستخدمها لتوقع سلوك الكيانات التي يمكن رصدها، كأن نتوقع تأثير الإلكترونات على الشاشة في خلفية التجربة، أو أن نستخدم معرفتنا عن موجات الطيف الكهرومغناطيسي لنقل صوت المعلق الرياضي عبر الراديو، يشبه الأمر أن تقول النظرية إن متوسط عدد الأطفال في الأسرة المصرية هو مثلًا 3.5، بالطبع لا يمكن أن تكون هناك عائلة بها 3.5 طفل، لكن تلك هي أداة يمكن أن نستخدمها لحساب معدلات الفقر والتعليم وحل مشكلات البطالة، النظريات إذن هي خيال مفيد (Useful Fiction).

  

يقف مفهوم
يقف مفهوم "التجربة المحملة بالنظرية" عائق أساسي أمام قدرة الواقعي على رؤية العالم الحقيقي، لأن ملاحظاته مثقلة بأفكاره عن العالم
  

دعنا مثلًا نتخيّل أن هناك رجلين ما عاشا معًا في اليونان القديمة حينما كانت نظرية "مركزية الأرض (Geocentricism)" هي السائدة، الأول واقعي (Realist) والثاني أداتي (Instrumentalist)، سوف يقول الأول إن الشمس بالفعل تدور حول الأرض، وفقًا للاتفاق مع النظرية، بينما سيقول الثاني إن نظرية مركزية الأرض هي فقط مفيدة لتوقّع مواعيد الفصول وشروق الشمس وغروبها ويمَكننا ذلك من زراعة المحاصيل في مواعيدها المناسبة والحصول على أفضل نتائج. بالطبع، الأداتي هنا كان على حق، لأن النظرية خاطئة، لا ترى وجهة النظر الأداتية أننا في النظريات العلمية نتحدث عن وقائع، وكذلك لا ترى أننا من خلالها نحصّل معرفة عن العالم الواقعي.

 

بالطبع تعد أشهر الجدالات حول صحة الواقعية العلمية هي تلك المرتبطة بصراع ألبرت أينشتين ضد تيّار الكوانتم 11، 12، لقد كان ألبرت واقعيًا* يرى أن الفيزياء تتحدث عن وقائع العالم الفعلية، بالتالي ليس من الممكن أبدًا أن تكون نظرية تقول إن "العالم غير موجود حينما لا ننظر إليه" مكتملة، واتفق معه عدد من الفيزيائيين كشرودنجر، ديبراولي، جون بيل، بلانك، وبوهم. وفي الجهة المقابلة، يرى تيّار الكوانتم، كـ نيلزبور وفيرنر هايزنبرج، روّاد تفسير كوبنهاجن، أن وظيفة العلم هي تجاوز الحديث عن كيان كمومي كهذا موجود بأرض الواقع؛ حيث لا يمكن معرفة ماهيته، ولا يهمنا بالأساس إلا تحصيل بعض المعرفة عنه من خلال معادلاتنا ذات النتائج الدقيقة. يقدم تفسير كوبنهاجن إذن وصفا براجماتيا للحقيقة، متعاملا -بشكل أو بآخر- مع الأفكار على أن اتفاقها مع الواقع هو دليل صحتها، وفقط.

 

إن نجاح العلم في استخدام الثقوب السوداء، البروتونات، الجدار البكتيري، البلازميدات وغيرها، لتطوير قدراتنا على التحكم في الطبيعة لا يعني أنه موجود بالفعل إلا من وجهة نظر المدرسة الواقعية

نستنتج إذن أن كونك ضد الواقعية (Antirealist) لا يعني أنك ضد العلم، فمنذ قليل كنّا أمام تيّارين (أداتي وواقعي) يتحدثان داخل العلم، والوضعية المنطقية13 (Logical Positivism) كذلك ليست واقعية، لكنها تعاملت مع العلم على أنه النشاط العقلي الأوحد، وقسّمت العمل به بين فئتين فقط من الباحثين، العلماء الذين يقومون بجمع البيانات وعمل التجارب، والفلاسفة الذين يقومون بتحليلات منطقية تساعد على تقدم العلم وتطوره. وتتفق الوضعية المنطقية مع الواقعية حول المعنى الأبستمولوجي لها، لكنها رغم ذلك تعارضت مع الواقعية العلمية في منطقتين: الأولى هي أنها اعتبرت أن النظرية العلمية ليست -بشكل حرفي- متحدثة رسمية عن الوقائع (الإلكترونات ليست موجودة بشكل حرفي)، وكذلك فإنها تعاملت مع السؤال عن وجود عالم منفصل عن ذواتنا بالضبط كسؤالنا عن "هل الشعر جميل؟"، أنه سؤال ميتافيزيقي لا يمكن اختباره، لذلك لا معنى له.

 

أضف لذلك، هناك وجهات نظر عدة شهيرة تقف في موضع مضاد للواقعية العلمية، فلسفة** توماس كون14 مثلًا، وبرامجه الإرشادية (Paradigms) والتي تقف حاجزًا بين النظريات التي يبنيها العلماء والواقع نفسه، كارل بوبر** كذلك عبر القابلية للتكذيب15 (Falsification) يرى أن العلم قد يقترب من الحقائق لكنه عبر آلية التكذيب المستمر لا يصل لها، كذلك يقف مفهوم "التجربة المحملة بالنظرية (Theory-Ladenness Of Observation)" عائق أساسي أمام قدرة الواقعي على رؤية العالم الحقيقي، لأن ملاحظاته مثقلة بأفكاره عن العالم، يشبه الأمر أن أطلب منك "أن تلاحظ"، سوف تسألني "ماذا ألاحظ؟"، أنت هنا تحتاج نظرية، فرضية، فكرة، لتبدأ بها مشاهداتك، يقدم باول فييرآبند** صورة أكثر تطرفًا16 من تلك الفكرة حينما يقول إن التجربة ليست فقط "محملة" بالنظرية، لكن النظرية تملي على التجربة ماذا يمكن أن ترى.

  

إن عالم الفيزياء لا يستطيع مطلقا أن يُخضع فرضا معزولا لاختبار تجريبي، لكنه يستطيع أن يُخضع مجموعة برمتها من الفروض
إن عالم الفيزياء لا يستطيع مطلقا أن يُخضع فرضا معزولا لاختبار تجريبي، لكنه يستطيع أن يُخضع مجموعة برمتها من الفروض
  

بالطبع تنضم أطروحة دوهيم-كواين** لأحزاب المعارضة ضد الواقعية، وتعتمد تلك الأطروحة على مفهوم قصور التحديد17  (Underdetermination) والذي طوّره في بدايات القرن التاسع عشر الفيزيائي الفرنسي بيير دوهيم (Pierre Duhem) ثم استخدمه ويلارد كواين (Willard Quine) في منتصف القرن لصياغة نظريته عن الكليّانية (Holism)، والتي تتحدث عن أن النظريات توجد في شبكات معرفية مرتبطة ومتأثرة ببعضها البعض بحيث لا يمكن اختبار أحدها بمعزل عن الآخر، يقول بيير دوهيم في كتابه "بنية وهدف النظرية الفيزيائية (Aim and Structure Of Scientific Theory)":

 

"وخلاصة الأمر أن عالم الفيزياء لا يستطيع مطلقا أن يُخضع فرضا معزولا لاختبار تجريبي، لكنه يستطيع أن يُخضع مجموعة برمتها من الفروض وحينما لا تتوافق التجربة مع تنبؤاته فإن ما يتعلمه هو أن واحدا على الأقل من الفروض المكونة لهذه المجموعة غير مقبول وينبغي تعديله، لكن التجربة لا تحدد أي من هذه الفروض هو الذي ينبغي إدخال تعديلات عليه"

 

في منتصف الثمانينات، وَجدت الواقعية العلمية دعمًا في مواجهة الفلسفات النسبوية (Relativism) في العلم، وما زالت إلى الآن -على درجة من التنوع الشديد في تعديلاتها وتداخلها مع مفاهيم وفلسفات أخرى- تجد مكانًا جيدًا في أوساط العلم وفلسفته؛ لكن السؤال عن إن كانت هناك إلكترونات بالفعل، والذي يمتد للتساؤل عن الواقع الموضوعي المنفصل عن ذواتنا، ما زال محل جدل علمي وفلسفي نشط، فرغم بساطة أن تتعلم في الكتاب المدرسي عن الجينات، الـ (DNA)، الثقوب السوداء، الكوارك الساحر، ورفيقه الغريب، البروتونات، الجدار البكتيري، البلازميدات… إلخ، إلا أن نجاح العلم في استخدام ذلك كله لتطوير قدراتنا على التحكم في الطبيعة لا يعني أنه موجود بالفعل إلا من وجهة نظر المدرسة الواقعية.

 

______________________________________

(*): يمكنك مراجعة مقالين سابقين للكاتب عن أزمة الورقة العلمية الخاصة بأينشتين والتي تدعى (EPR) وردود الفعل الخاصة بها، المقالين هما "حينما أخطأ أينشتين" و"مبرهنة بيل"

(*): لقد اختصرنا كثيرًا في حديثنا عن كواين ودوهيم، بوبر، الوضعية المنطقية، فييرآبند، وتوماس كون لأننا بالفعل قد فردنا لفلسفاتهم مقالات خاصة بها يمكن لك الرجوع لها جميعًا من المصادر لمزيد من التوضيح والتفصيل

المصدر : الجزيرة