شعار قسم ميدان

عدد البشر يتخطى 8 مليارات.. مَن سيُطعم كل تلك الأفواه؟!

عدد البشر يتخطى 8 مليارات.. مَن سيُطعم كل تلك الأفواه؟!

اضغط للاستماع

  

مقدمة التقرير:

خلال الساعات القليلة القادمة، تحديدا يوم 15 نوفمبر/تشرين الثاني، من المتوقع أن يتخطى عدد البشر على كوكب الأرض حاجز 8 مليارات نسمة، هذا الرقم الضخم عادة ما يُثير الانتباه لأفكار راديكالية تنبع من قدر شديد من الرعب الذي يصيبنا حينما نسأل: كيف سنُطعم كل تلك الأفواه؟ يرى البعض أنه يجب أن نبدأ برنامجا صارما للحد من تنامي أعداد السكان، ويرى البعض الأكثر تطرفا أن الأمر يتطلب حربا شعواء تخفض أعداد البشر قليلا، لكنَّ فريقا ثالثا يرى أن هناك أملا في وضعنا الحالي رغم كل شيء.

 

نص التقرير:

"لا يمكن لهؤلاء التخلي عن فكرة بسيطة ولكنها خاطئة بوضوح، مفادها أن البشر لا يختلفون عن قطيع الغزلان عندما يتعلق الأمر بالتناسل".

(رونالد بايلي في كتابه "The End of Doom")

في الجزء الرائع من مجموعة أفلام مارفل الذي يحمل عنوان "The Avengers: Infinity War"، يبدأ ثانوس، الشرير الأقوى والأذكى على الإطلاق، حملة خاصة جدا لجمع الأحجار اللا نهائية، تلك التي يتحكم كلٌّ منها في أحد جوانب الكون (الواقع، الزمن، الفضاء، القوة، العقل، والروح). ما إن يجمع تلك الأحجار معا في قبضة يديه حتّى يمتلك قوى مهولة تسمح له بالتحكم في كل شيء، هنا ينوي ثانوس أن يستخدمها لتنفيذ الخطة الأكثر كارثية في التاريخ الكوني منذ بدء الانفجار العظيم قبل 13.8 مليار سنة، وهي إبادة نصف الحياة في الكون كله، وترك النصف الآخر ليعيش في سلام!

 

حجة ثانوس بسيطة، يعرضها بوضوح في أحد المشاهد حينما يقول إن أعداد سكّان الكون تزداد باطراد ودون تحكم، يعني ذلك أنه سيأتي يوم ويتفوق عدد سكان الكون على كمية الموارد المتاحة، بالتالي سوف تسود الفوضى حينما يتقاتل الجميع على تلك الموارد. وبحسبة بسيطة يمكن أن نصل إلى استنتاج يقول إن تلك ستكون نهاية الحياة، هنا يقول ثانوس إنه ربما لا يكون الوحيد الذي يعرف تلك الحقيقة، لكنه -هو فقط- كان الوحيد القادر على العمل من أجل مواجهتها.

شبح النهاية

Tömeg emberek séta egy utcán New York City
(شترستوك)

تلك، بالطبع، فكرة غاية في الجنون، لكنك لن تُصدِّق عدد المؤمنين بها حول العالم، خاصة في الحقبة المعاصرة. في الحقيقة ليست فكرة ثانوس جديدة على أية حال، لفهم ذلك دعنا نتأمل معا إحدى فقرات الفصل السابع من الكتاب الواسع الشهرة الذي يُعَدُّ واحدا من أساسيات علم الاقتصاد المعاصر: "مقالة في مبدأ السكان، وأثرها على تقدم المجتمع" المنشور سنة 1789، حيث يقول توماس مالتوث (1) (Thomas Malthus)، الباحث السكاني والاقتصادي السياسي الإنجليزي:

 

"أعتقد أنني أقوم ببناء فرضيتين عادلتين، الأولى هي أن الإنسان في حاجة أساسية إلى الغذاء، والثانية هي أن العاطفة بين الجنسين ضرورية، وستبقى على حالتها الحالية. بالتالي أقول: إن قوة النمو السكّاني أكبر، بفارق لن يتقلص، من قدرة الأرض على إنماء الموارد الغذائية. نمو السكان إذا لم يُتحكَّم فيه فسيتزايد بمعدلات هندسية، بينما يتزايد نمو الموارد بمعدلات حسابية، وبمقارنة بسيطة ستظهر قوة القدرة الأولى على الثانية. لذلك، وبموجب قانون طبيعتنا البشرية القائل بضرورة وجود الغذاء من أجل حياة الإنسان، يجب علينا الحفاظ على أثر هاتين القدرتين غير المتساويتين ثابتا، وهذا ينطوي على إجراء رقابة قوية ودورية على تطور نمو السكان".

 

في فقرات تالية(2) يقول مالتوث: "إن تجاوز هذه القاعدة سيؤدي إلى صراع شديد على الموارد، ما قد يتسبب بدوره في حالات عنف، وفقر مدقع، ومجاعات لا تنتهي، بجانب انتشار الأوبئة، والفساد الاجتماعي العام". فكرة مالتوث (وثانوس كما ترى) تبدو بسيطة للوهلة الأولى، بل ومقبولة بدرجة ما لدى البعض؛ تطور النمو السكاني يتخذ طابعا تزايديا، كأن نقول(3) إن سلسلة نمو السكان كل 25 سنة تتخذ النمط: 1، ثم 2، 4، 8، 16، 32، 64، إلخ، وهذا بسبب ارتفاع معدلات الإنجاب، فكل أب وأم يحصلون على عدد أطفال أكبر منهما، أما الطبيعة فلن تنمو بهذا المعدل، بل بمعدل تدريجي منتظم، كأن تتوالى سلسلة الموارد الطبيعية: 1، 2، 3، 4، 5، 6، إلخ، في المدة الزمنية نفسها.

undefined

كما تلاحظ فإن هناك فارقا واضحا في ارتفاع المعدلَيْن، لكن ربما سوف تتفاجأ حينما تعرف مقدار الفارق في الدورة رقم 30 من تلك اللعبة، حيث سيصل معدل نمو الموارد التي تعطيها لنا الأرض إلى 30 فقط، لأنها تزيد بانتظام، لكن دورة النمو السكاني في المرحلة نفسها ستصبح مليارين! لهذا السبب فزع مالتوث من النتائج، وتصور أننا لا محالة مقبلون على نهاية العالم، وربما الحياة كما نعرفها. في الفترة التي عاش مالتوث فيها كان عدد البشر نحو مليار شخص فقط.

 

دعنا في تلك النقطة نوضح أن فكرة مالتوث كانت أكثر عمقا قليلا من ذلك، بمعنى أنه لم يتحدث في أن يظل كلٌّ من المعدلَيْن يرتفع بشكل مطلق، لكن الفكرة هي أن يرتفع عدد السكان ليتأرجح عند الحد الفاصل بين المجاعة واللا مجاعة، هذا التأرجح سيكون -حسب مالتوث- هو الحالة الرسمية والدائمة للمجتمع البشري، فحسب قوانين البقاء البسيطة سوف يحدث في مرحلة ما أن يصل البشر إلى هذا الحد المتأرجح، ومع كل زيادة في كم الموارد الطبيعية سوف يستمر البشر في التكاثر، بالتالي يظل الجميع على الحافة باستمرار، لكن مشكلة تلك الحافة هي أنها معرضة دائما للخطر، فمع أي وباء، أو اختلال مناخي، أو ضغط سياسي أو اجتماعي، فإن هناك فرصة كارثية لانتشار المجاعات، هكذا تصور مالتوث أن البشر سيعيشون أبدا في "دورة للبؤس" (Cycle of Misery).

 

وما علاقة البطاطس بالسياسة؟

لكن الخطأ الذي وقع فيه ثانوس، ضمن أخطاء كثيرة، هو حينما قال إنه الوحيد الذي امتلك الرغبة في العمل على خطة مجنونة للحد من أعداد البشر. فمثلا بين عامَيْ 1846-1851، واجهت أيرلندا مجاعتها الكبرى(4)، مجاعة البطاطس (The Potato Famine). كان السبب هو فطر خطير يسمى "اللفحة المتأخرة" يمكن تقصّي جذوره حتّى المكسيك وبيرو. تفشّت الإصابة في محاصيل البطاطس، التي كانت الغذاء الرئيس للشعب الأيرلندي وقتها، والأكثر ملاءمة لمناخ وتربة البلاد الفقيرة. خلال تلك المجاعة مات مليون شخص، وهاجر مليون آخرون، وفقدت البلاد ربع سكّانها في المجمل، إنها واحدة من أسوأ الكوارث في التاريخ.

 

لكن في أثناء المجاعة نفسها تدخلت عوامل مهمة لزيادة معاناة الشعب الأيرلندي. في تلك الفترة كانت البلاد خاضعة للاستعمار البريطاني، الذي حدد سياسة لعدم التدخل أقرَّها مندوب الاستعمار في أيرلندا "تشارلز تريفيليان"، وتتضمن تلك السياسة عدم إعطاء مساعدات لأيرلندا، وعدم السماح للمساعدات بالقدوم من أي مكان آخر، كذلك استغلت بريطانيا الأراضي الأيرلندية وقتها لزراعة محاصيل أخرى غير البطاطس وتصديرها لبريطانيا بأسعار زهيدة، بالطبع كانت هناك درجات من العداء الديني من البريطانيين تجاه الأيرلنديين وقتها، لكن هناك نقطة إضافية.

(مواقع التواصل)

تزايدت أعداد الأيرلنديين قبيل سنوات المجاعة بشكل ملحوظ، ما دعا بعض المفكرين البريطانيين إلى تصور اقتراب أزمة مالتوثية، السلوك السياسي البريطاني تجاه الأزمة يمكن فهمه في اقتباسات "تشارلز تريفيليان"، الذي قال (5) وقتها: "قضاء الله هو ما أرسل الكارثة لتعليم الأيرلنديين درسا، لذلك يجب ألا تكون الكارثة مُخففة"، وأضاف أيضا: "الشر الحقيقي الذي يجب علينا مواجهته ليس الأثر الجسدي للمجاعة، ولكن الشر الأخلاقي لطابع الناس الأناني، المنحرف، والمضطرب".

 

ويقصد تشارلز تريفيليان هنا أن الأيرلنديين الجهلاء، هؤلاء الذين يعيشون كالوحوش -كما دأب البعض على تسميتهم وقتها- هم الشر الحقيقي وليست المجاعة التي تسرق أطفالهم يوميا! في ذلك الوقت قال جون ميتشل -وهي الجملة التي انتشرت بعد ذلك لتصبح حكمة أيرلندية شهيرة إلى الآن-: "لقد أرسل الله الآفة الزراعية، وصنع الإنجليز المجاعة". في مايو/أيار 1997 قدَّم توني بلير كلمة اعتذار (6) للشعب الأيرلندي، كانت أول اعتراف رسمي أن للبريطانيين دورا في المجاعة.

 

أما في العصر الحديث فقد ظهرت الفكرة المالتوثية من جديد في أواخر الستينيات من القرن الفائت، حيث انتشرت الكتابات البحثية والعامة التي تتنبأ بكارثة سكّانية قريبة، مع المقترحات المالتوثية (أو الثانوسية) التي تحدثنا عنها قبل قليل. لكن على قمة هذا الجبل الجديد من التهديدات المفزعة تربَّع كتاب "القنبلة السكّانية" (7) (The Population Bomb) للبيولوجي "بول إيرليش" (Paul Ehrlich) من جامعة ستانفورد. كان السبب الرئيس في تلك الهجمة الجديدة هو التطور المتلاحق لأعداد السكّان في العالم، لفهم ذلك دعنا نتأمل قليلا حكايتنا، حكاية البشر.

 

قنبلة السكّان

في عام 1 ميلادية كان عدد البشر نحو(8) 250 مليون شخص (رُبع مليار)، احتاج الأمر إلى نحو 1600 سنة لكي نصبح نصف مليار شخص، لكن الزيادات التالية لذلك لم تكن بالتردد نفسه، فخلال مئتي سنة فقط تضاعف عدد السكان في العالم ليصبح مليارا كاملا، نحن الآن عند النقطة التي فزع فيها توماس مالتوس، في تلك الفترة انفتح العالم الجديد وجاءت كميات كبيرة من الطعام (البطاطس، القمح، والذرة) إلى العالم القديم، من جهة أخرى سافر العديد من البشر إلى أميركا الشمالية، مع أرض واسعة وعدد قليل من الناس كان المتوقع هو ارتفاع أعداد المواليد. في الفترة نفسها كانت هناك ثورة زراعية قائمة شرقي آسيا، ما تسبَّب أيضا في ارتفاع إنتاج الغذاء، وبالتالي المواليد.

undefined

في تلك النقطة اتخذ نمو السكان منحى أكثر تصاعدا ودرامية(9)، حيث احتاج الأمر إلى نحو 130 سنة فقط لتتضاعف أعدادنا فنصبح مليارَيْ شخص، كان ذلك بعد الثورة الصناعية التي بدورها طوَّرت وسائل النقل، فانتقلت الموارد إلى البشر في كل مكان، أما التضاعف التالي لأعداد البشر فقد حدث فقط بعد 44 سنة في عام 1974، عندها أصبح العالم يحوي 4 مليارات شخص، إنها تلك الفترة التي نشأت فيها الثورة المالتوثية الجديدة التي تحدثنا عنها قبل قليل، بعد تلك الفترة احتاج الأمر فقط إلى 12 سنة لكل مليار إنسان إضافي، وصولا إلى اللحظة الحالية، حيث يحوي العالم 8 مليارات شخص!

 

من جديد، ظهرت المخاوف من ازدياد مطّرد في أعداد البشر بحيث توقّع البعض أننا سوف نصل حتما إلى مرحلة المجاعة، تلك التي أشار إليها مالتوث في كتابه، وامتلأت وسائل الإعلام بأحاديث متوترة تقول إن أعداد البشر أصبحت تزيد بوضوح كل أسبوع، وإذا لم نتمكن من السيطرة على أعدادنا فإن المجاعة والفقر والعنف الناتج عن نقص الموارد مقارنة بأعداد السكان سوف يفعل، هنا يظهر بول إيرليش، الذي كان يعمل بالأساس في بيولوجيا الفراشات ثم حدث أن زار الهند وتفاجأ بحجم الكثافة السكانية هناك، ليقول -بينما يتجول بشكل كثيف في برامج الصباح والمساء التلفزيونية-: "إن العالم لن يصمد أكثر من عقد أو اثنين في مواجهة تزايد السكان، في لحظة ما سوف يُنتزع فتيل القنبلة السكّانية وينهار كل شيء"، بل وتوقّع إيرليش أن بريطانيا لن تكون موجودة بحلول عام 2000.

 

يقول إيرليش في كتابه: "المعركة من أجل تغذية كل هؤلاء البشر قد انتهت، في السبعينيات سيجوع مئات الملايين من البشر حتّى الموت على الرغم من أي برامج تنموية". والمشكلة هي أن الجميع ـوقتهاـ تصوّر أننا بالفعل في أزمة سكّانية، لذلك كانت اقتراحات إيرليش بسيطة لكنها صارمة، تضمنت الإجبار القانوني إذا لم ينصَع المواطنون لسياسات تقليل عدد السكّان، وعقاب أيٍّ من الهيئات أو الشركات أو الأفراد المروجة ضد وسائل تقليص عدد السكان أو رفع عدد الأطفال في العائلة الواحدة، مع إعطاء جوائز مالية لحالات الزواج التي قررت ألا تُنجب، وفرض ضرائب على تلك الأخرى التي أنجبت أعدادا أكبر مما يحددها القانون، وصل الأمر إلى مقترحات بوضع مواد كيميائية في المياه تقلل من خصوبة الأفراد!

 

انتشرت أفكار إيرليش خارج الولايات المتحدة إلى كل مكان في العالم تقريبا، في تلك الفترة قامت الهند بحملات تعقيم (10) شملت النساء بعدد أكبر من الرجال، نتحدث هنا عن ملايين الحالات، معظمها كان إجباريا، والبقية بسبب وعود الدولة بالمال والمنزل والأرض لمَن يقرر خوض التجربة. في بنغلاديش(11) وصلت حالات التعقيم إلى 50 ألف في الشهر، أما في الصين(12) فقد انطلقت سياسة الطفل الواحد التي تحظر بالقانون أن تنجب المرأة أكثر من طفل واحد، كانت تلك القوانين صارمة لدرجات أدت إلى انتشار الإجهاض ووأد الأطفال، خاصة في المجتمعات التي تُفضِّل البنين على البنات.

 

في الصين مثلا، يمكن إرجاع 50 مليون حالة فقد للفتيات لحالات الوأد، في الوقت نفسه الذي تطورت فيه مشكلة جديدة تتعلق بالفارق بين أعداد الرجال والنساء، فأصبح(13،14،15) هناك 100 امرأة لكل 117 رجل، ما سوف يتسبب في فارق إضافي قدره 30 مليون رجل ليس هناك نساء في مقابلهم، ما قد يؤثر بشدة في البنية الاجتماعية للبلاد، كذلك ظهرت مشكلة جديدة (4،2،1)، ذلك لأن القانون الصيني يفرض على الفرد رعاية والديه وأجداده، ما يعني أن طفلا واحدا لأسرة ما حينما يكبر سيكون عليه رعاية أبوين، وأربعة أجداد (اثنين لكلٍّ من والديه) ما يُحمِّله الكثير من التكاليف، في حين يُحتمل أن تصل نسبة كبار السن في البلاد من 12% للعام 2013 إلى 34% بحلول عام 2050.

 

8 مليارات خطأ

MUMBAI, INDIA - JANUARY 6, 2014: Huge Crowd in India's largest City, Mumbai
(شترستوك)

حسنا، لنستنشق بعض الأنفاس الهادئة، ثم نقوم بقفزة زمنية إلى العالم المعاصر، ها نحن أولاء في عام 2022، مع 8 مليارات شخص (16) على سطح الكوكب، لم يكن مالتوث أو إيرليش أو أيٌّ من المنظرين للتوجه المالتوثي أن يتصوروا بأية حال أن نصل إلى هذا الحد أو إلى هذا العام، لقد كانوا جميعا على خطأ، تزايدت أعداد السكان وتخطَّت كل التوقعات، ولم نقع أسرى للجوع،[1] بل على العكس تماما، نحن نقوم بتوزيع الطعام على الفقراء في الأعياد، وأصبح المرض المميز لعالمنا المعاصر هو "السمنة"، عدد الجوعى اليوم هو 828 مليون شخص وفق تقديرات الأمم المتحدة عام 2022، إنه رقم ضخم، لكنه الأقل في تاريخنا بالنسبة لعدد السكّان، في تلك النقطة ربما قد تتساءل عن السبب في ذلك، ما الخطأ الذي وقع فيه كلُّ من مالتوث وإيرليش؟

 

يقول رونالد بايلي في كتابه "نهاية العذاب القادم" (The end of doom): "لا يمكن لهؤلاء التخلي عن فكرة بسيطة، ولكنها خاطئة بوضوح، مفادها أن البشر لا يختلفون عن قطيع الغزلان عندما يتعلق الأمر بالتناسل"، في الحقيقة يجمع ذلك الاقتباس البسيط كل أسباب هذا الخطأ، لقد كان مالتوث ينظر إلى الأرانب حينما تصور أننا حتما سوف ندخل إلى (دورة البؤس)، حينما تضع مجموعة من الأرانب في أرض زراعية محدودة الإنتاج فإن معدلات الإنجاب المتسارعة مقارنة بإنتاج الأرض سوف تتقاطع لا محالة، لكن مالتوث لم يكن يعرف تلك الحقيقة البسيطة والرائعة التي تقول: إننا لسنا بأرانب، لكن لماذا لسنا بأرانب؟

 

ربما يعود الفضل جزئيا إلى هذا الرجل: "نورمان بورلوج" (17) (Norman Borlaug)، المهندس الزراعي والبروفيسور الأميركي الحاصل على جائزة نوبل للسلام سنة 1970، بورلوج هو أبو الثورة الخضراء الذي تمكن بذكاء شديد في ستينيات القرن الماضي من تحقيق اكتشاف خطير يقول إن إنتاج نوعيات من القمح بساق أقصر سوف يوفر الطاقة التي تُستغل في إنتاج سنابل أكبر، استطاع بورلوج إنتاج أنواع من القمح تتمكن، في أكثر الحالات المناخية قسوة، من أن تعطي أربع مرات ضِعْف الإنتاج المعتاد.

"نورمان بورلوج" (Norman Borlaug)
"نورمان بورلوج" (Norman Borlaug) (رويترز)

انتشرت فكرة بورلوج كالنار في الهشيم في كل دول العالم تقريبا، في الهند مثلا، ومع ازدياد أعداد السكان، تبنَّت الحكومة الهندية فكرة بورلوج، وبجانب التكنولوجيا الجديدة تدخلت عوامل أخرى تضمنت استثمارات أكبر في قطاع الزراعة وأسواقها مع إعطاء نسبة ربح أكبر للفلاحين، وخلال عقد إلى عقد ونصف قضت الهند تماما على احتياجها إلى القمح وانتقلت إلى تصديره، حتّى إن الحكومة الهندية أصدرت عام 1968 طوابع بريدية جديدة رُسِم عليها الفارق في إنتاجه بين عامي 1951-1968 احتفالا بثورة القمح، لكن تأمل معي قليلا هذا التاريخ، إنه العام نفسه الذي أصدر فيه إيرليش كتابه "قنبلة السكّان"، وقال فيه إن الهند لن تتمكن من أن تغذي نفسها بأية طريقة ممكنة، بسبب هذا التزايد المطرد في أعداد سكّانها.

 

في الثمانينيات من القرن الفائت كان بول إيرليش لا يزال مؤمنا بفكرته، هنا تحدّاه أستاذ إدارة الأعمال من جامعة ميريلاند "جوليان سيمون" (Julian Simon) أن يدخل في رهان(18) بسيط، يقتضي الرهان أن يجمع إيرليش في سلّة صغيرة ما يحب من المواد الخام ثم ينتظر لعشر سنوات كي يرى إن كانت أسعارها قد ارتفعت أم انخفضت، حسب إيرليش من المفترض أن ترتفع أسعار تلك المواد، لأن معدل النمو السكّاني أكبر من معدلات إنتاجها. قبِل إيرليش بالرهان، واختار النيكل، الكروم، القصدير، التنجستن، والنحاس، لكنه خسره، وكان على خطأ لمرات لم نعد نعرف عددها، حيث انخفضت أسعار تلك المواد الخام بعد عشر سنوات في أكتوبر/تشرين الأول 1990.

 

نورمان بورلوج هو نموذج للفكرة التي لم يدركها كلٌّ من ثانوس، أو مالتوث، أو إيرليش، وهي أن طبيعة الاقتصاد ليست لعبة صفرية النتيجة(19) (Zero-Sum Game) تقول إنه إذا كان هناك ناجح بخمس نقاط إضافية فلا بد أن يكون هناك خاسر لخمس نقاط، فتكون النتيجة دائما صفراا. فعلى الرغم من أن الموارد قد تكون محدودة، ففإن حدها الرئيس ليس في كميتها بقدر ما هو في قدرتنا -نحن البشر- على الإبداع في استخدامها، قدرتنا على الاختراع، ابتكار أفكار جديدة للتعامل مع مواردنا تفتح الباب للمزيد من التقدم والرخاء للبشر، كلما ازداد تعمّقنا بالعلوم والتكنولوجيا، وكلما ازداد تواصلنا معا، أصبحنا أكثر قدرة على أفكار جديدة ثورية، كابتكار بورلوج. كل شخص إضافي في هذا العالم، إذن، ليس فقط وِحدة صمّاء ذات فم يحتاج إلى الطعام والشراب، لكنها أيضا عقل يمكن أن يفكر ويد يمكن أن تُنتج.

 

من جهة أخرى فإن مالتوث قد تصور أن أعداد السكان سوف تزيد كلما ازدادت الموارد، لكننا لا نرى ذلك واضحا في الدول المتقدمة، بالعكس تماما(20)، كلما ازداد تقدم الدولة وارتفعت مستويات معيشة ساكنيها انخفضت المعدلات الإنجابية بها، في الحقيقة فإن أعداد السكان في العالم، بعيدا عن خط سير نمو الموارد الطبيعية، يتخذ توجُّها للثبات، بداية من منتصف القرن الفائت بدأت معدلات ازدياد السكان في التناقص من 2% تقريبا سنويا وصولا إلى 1.09% سنويا للعام 2018، ونتوقع أنه بحلول عام 2050 سوف نصل إلى مرحلة الثبات، عندها سيصل عدد السكان إلى نحو 10 مليارات شخص، ويتصور البعض أنه لن يصل إلى 12 مليارا أبدا (إلا ربما لو قررنا الذهاب لاحتلال المريخ).

undefined

تُشير الملاحظة المهمة الأخيرة إلى أن حل مشكلة الزيادة السكانية ربما ليس بإجبار الناس على إنجاب عدد أقل من الأطفال، لقد أظهرت سياسات التعقيم الإجباري عدم جدوى هذه التجربة، لكن الحل الرئيس كما يبدو -بحد تعبير مايكل شريمر(21)- هو رفع الفقر من خلال التأسيس لحكم ديمقراطي، وتجارة حرة، وتعليم المرأة وتمكينها اقتصاديا، هؤلاء الذين يروِّجون للفكرة القاتلة القائمة على أن "الناس هم السبب" كانوا دائما مخطئين في تصوراتهم، أو ربما قرروا فقط اختيار أساليب تعامل تُثبِّت وجود الاستبداد أينما حل عبر إلقاء التهمة على الشعوب. إن ما نعرفه، وتؤكده البيانات الاقتصادية، هو أنه حينما جاءت الثورة الخضراء كانت الدول الأكثر نموا هي(22) الأكثر فقرا والأكثر اكتظاظا بالسكّان.

 

هل يموت البعض لتعيش البقية؟

قبل عدة أعوام اعتمدت(23) إدارة الأغذية والأدوية الأميركية (FDA) نوعا جديدا من الأسماك للاستهلاك الآدمي، حيث كان العلماء قد نجحوا في تعديل جينات أحد أسماك "السلمون الأطلسي" عبر تقنية "كريسبر" (CRISPER) للتحرير الجيني. الإنتاج الجديد كان سمكة أكبر في الحجم بفارق واضح، وتصل إلى حجم التسويق أسرع بمرتين من السمكة الطبيعية الأصغر حجما، يستهلك السمك الجديد غذاء أقل ويمكن تربيته في مزارع بجوار المدن التي تحتاج إليه فنوفر تكاليف النقل، هذه فقط عيّنة مما يمكن أن تساعدنا التكنولوجيا على تحقيقه من تقدُّم، ثورة كريسبر تفتح أبوابا جديدة يوما بعد يوم، وتتدخل في كل شيء بداية من الطعام وصولا إلى المرض، قد تكون تلك هي الثورة الخضراء القادمة.

 

لم يكن أحد ليتصور يوما ما، على سبيل المثال، أن نعالج البكتيريا عبر المضادات الحيوية، شلل الأطفال، جنون البقر، الجدري، الملاريا، إلخ. في كتابه "هل انتصرت البكتيريا؟" يسأل "هيو بننجتون" أستاذ علم البكتيريا في جامعة أبردين في إسكتلندا قائلا: لماذا تبقى المخاوف تحاصرنا رغم أن تاريخنا مع المرض هو رحلة انتصار لا هزيمة؟ لماذا تنتشر وتلقى كل هذا القبول؟ لا نعرف السبب تحديدا، لكن نتصور أن المخاوف بضاعة رائجة، والحديث عنها يجلب الكثير من الجمهور وبالتالي الكثير من الشهرة للمتحدث، لهذا السبب ربما تجد أن البعض قد يتجاهل الآراء العلمية التي تفتح أبواب التفاؤل المبني على دلائل تجريبية في مقابل الترويج للبؤس، لا نقول إنه لا توجد مخاطر جمة معاصرة تواجه عالمنا، ولكن نقول إن البعض يروج للجانب المظلم فقط. نعم، قد يكون هذا صحيحا، البؤس للأسف يباع جيدا، بالضبط كما أن نظرية المؤامرة وأكاذيب العلم الزائف والأخبار الكاذبة تلقى اهتماما واسعا من الجمهور".

"هل انتصرت البكتيريا؟" لـ "هيو بننجتون"
كتاب "هل انتصرت البكتيريا؟" لـ "هيو بننجتون" (مواقع التواصل)

في السنوات الفائتة(24) عادت الادعاءات المالتوثية لأرض النقاش من جديد، وهي تفعل ذلك دائما كلّما كانت مجتمعاتنا البشرية أكثر هشاشة، وأقل إيمانا بالإنسان. استغل مروجوها أزمات التغير المناخي والفوضى الاقتصادية التي بدأت عام 2008، التي هي بالفعل مشكلات خطيرة تستحق الدراسة والاهتمام. لكن تلك الفكرة جاءت لتغذي بعض العقول الخائفة من عالم الـ10 مليارات إنسان بالتوقعات الخاطئة والحلول الكارثية نفسها.

 

ورغم أن تاريخنا مع الغذاء قد أثبت خطأ تلك الفكرة، فإنها رغم ذلك تلقى قبول الكثيرين، خاصة أن العالم يمر بفترة يأس، وهو يأس يتزايد للدرجة التي تمنعنا من رؤية ما أحرزناه من تقدُّم خلال ثلاثمئة ألف سنة مضت من تاريخنا على الأرض، في ظل تلك الحالة من البؤس يفقد البشر إيمانهم بإنسانيتهم، ما قد يسمح من جديد بمرور القناعة الأكثر خطورة في تاريخ البشر، تلك التي طالما استخدمها المستبدون لتبرير القتل تحت اسم العدل، ولتبرير التعذيب تحت اسم الخير الأكبر، تلك التي تقول: "لا مشكلة من موت البعض، لكي يعيش البقية".

المصدر : الجزيرة