شعار قسم ميدان

“الهوس باللايك والشير”.. نشوة مؤقتة ستصيبك بالاكتئاب والوحدة

midan - using mobile 1

"إنني أحب هذا النوع من المشاركة حيث يمكنك الذهاب إلى الموقع الإلكتروني ومن ثم مغادرته لأنك وجدت ما تبحث عنه"

– بيز ستون1، أحد مؤسسي تويتر

 

قبل عدة سنوات أثارت صورة لأحد الأشخاص، في بريطانيا، سخرية وسائل التواصل الاجتماعي حينما وقف منتظرا المترو على الرصيف دون هاتف ذكي في يديه، بينما وقف الجميع مطأطئ الرأس ليتأمل آخر مستجدات "منصات التواصل الاجتماعي"، في تلك الأثناء تحدث الناس عن التأثير الهائل لوسائل التواصل الاجتماعي على البشر. ولفهم ذلك، اخرج الآن إلى شوارع مدينتك، ابحث في أي منتزه قريب، أو تأمل الجالسين في أحد المجمعات التجارية الكبيرة، الكل تقريبا يفعل الشيء نفسه، خاصة حينما نتحدث عن فئة عمرية تتوزع بين المراهقة والشباب.

 

متى كانت آخر مرة كتبت فيها منشورا ما أو وضعت صورة على فيسبوك ولاقت الكثير من الإعجاب؟ لا بد أن ذلك قد ترك لك شعورا طيبا ربما بقي معك لأيام، في الحقيقة فإن هذه "الإعجابات" البسيطة تضعنا في حالة من النشوة تدفعنا للاستمرار في ملاحقة المزيد منها، لكن في أثناء ذلك، حينما نسأل: كم عدد الساعات التي تقضيها مع "منصات التواصل الاجتماعي" يوميا؟ أو كم عدد المرات التي تتفحص فيها هاتفك الذكي؟ فإن الإجابات لا شك ستصدمك، للوهلة الأولى ستتصور أن هؤلاء "الآخرين" يختلفون عنك، لكن ما إن تراقب نفسك قليلا حتّى تكتشف أنك تقضي أكثر من ساعتين يوميا على الهاتف الذكي، وأنك تتفحصه نحو 90 مرة، على الأقل. 

 

خلال السنوات القليلة الماضية تزايد المتوسط العالمي لعدد الساعات اليومي الذي نقضيه على وسائل التواصل بشكل كبير ليصل إلى 135 دقيقة، يدفعنا ذلك بالطبع للتساؤل عن أثر ذلك الوافد الجديد على حياتنا، كيف يمكن أن تغير وسائل التواصل الاجتماعي من هيكلة مجتمعاتنا وسلوكنا كوحدات في هذه المجتمعات، في تلك النقطة تتدخل ميليسا هانت2، متخصصة علم النفس من جامعة بنسلفانيا، مع فريق عملها، لتحاول أن تربط بين عدد ساعات التواجد على وسائل التواصل الاجتماعي وارتفاع نسب الاكتئاب والوحدة، بشكل مباشر.

 

نوع جديد من الاكتئاب

 

undefined

 

"تحدثت العديد من الأوراق البحثية عن العلاقة بين الاثنين لسنوات، ولكن لم يثبت وجود اتصال سببي بينهما"، تقول هانت، في حوارها مع محرر "ميدان"، مستكملة أنهم قد شرعوا، لهذا السبب، في إجراء دراسة أكثر شمولية ودقة وصلاحية توضح -للمرة الأولى- تلك العلاقة السببية المباشرة، وذلك عبر فحص تأثير كل من فيسبوك، وسناب شات، وإنستغرام على مزاج مستخدميهم، شملت التجربة 143 شخصا من طلبة السنة الأولى الجامعية، تم اختيارهم بشكل عشوائي تماما، ثم تقسيمهم إلى مجموعتين.

 

قبل التجارب3يخضع الفريق كاملا لاستقصاء بسيط يحدد حالاتهم المزاجية ودرجات شعورهم بالرضا والسعادة، كذلك -وخلال أسبوع كامل- يتحصّل منظمو التجربة على بيانات من الهواتف الذكية لهؤلاء تحدد مقدار استخدامهم لوسائل التواصل الاجتماعي الثلاثة، هنا تتشابه متوسطات المجموعة الأولى والثانية، تلك التي تُمثّل الوضع العام للشباب في هذه الفئة العمرية، لكن خلال الأسابيع الثلاثة التالية فإن إحدى المجموعات تُترك كما هي، بمعدلات الاستخدام نفسها، أما الأخرى فيُقيّد استخدامها بحد أقصى 10 دقائق يوميا لكل من التطبيقات الثلاثة.

 

هنا تأتي نتائج التجاربلتقول إن تقليل استخدام فيسبوك، سناب شات، وإنستغرام قد خفّض بشكل جوهري من علامات الاكتئاب والوحدة لدى الخاضعين للتجارب من المجموعة الثانية حينما تم إجراء استقصاء بنهاية المدة، بينما استمرت المجموعة الأولى في مستوياتها نفسها. "هذا هو بيت القصيد"، تقول هانت في أثناء حوارها مع محرر "ميدان" لتضيف أن "هذه التأثيرات أكثر وضوحا، وبشكل خاص، في هؤلاء الذين كانوا أكثر اكتئابا عندما دخلوا الدراسة".

undefined

التأثير السلبي ينتصر

تفتح الملاحظة الأخيرة بابا لتأمل دراسة5أخرى من جامعة سان بطرسبرج حاولت، قبل عدة أشهر، أن تبحث قدر التماثل في تأثير منشورات فيسبوك على روّاده، بمعنى أوضح، لنفترض -نظريا-أنك تعرضت لمجموعة من خمسة منشورات تسبب السعادة، وخمسة منشورات أخرى حزينة أو تدعو لمشاعر سلبية في العموم، هل يعني ذلك أنك سوف تشعر بحالة متعادلة بسبب التعرض لكم متماثل من المشاعر عبر فيسبوك؟

 

في تلك النقطة تقول الإجابة التجريبية: "لا"، فمع كل 10% زيادة في التجربة الإيجابية على فيسبوك تنخفض الأعراض الاكتئابية بقيمة 4% فقط، لكن مع كل 10% زيادة في التجربة السلبية على فيسبوك ترتفع الأعراض الاكتئابية بقيمة 20%، في الحقيقة فإن إحدى المشكلات البحثية في مجال علم نفس اللذة (Hedonic Psychology) هي التأثيرات السلبية التي لها قدرة أكبر على التعديل من حالاتنا النفسية، بالتالي تتفق هانت مع باحثي تلك الدراسة، في أنه على مرضى الاكتئاب تحديدا تطوير إستراتيجيات فعّالة لقصر التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي ضمن نطاق محدود للغاية.

 

كذلك فإن إحدى العادات التي ترفع بشكل سلبي من تأثيرات وسائل التواصل الاجتماعي هي ما تسميه هانت بالتمرير السلبي (Passive Scrolling)، ويعني أن تستمر بلا هدف واضح في تحريك الصفحة الرئيسية لوسائل التواصل الاجتماعي، فقط تتنقل من منشور لآخر ومن صورة لأخرى أو من فيديو لآخر بشكل يبدو عبثيا ولساعات طويلة، هذه الحالة تعني أنك أصبحت أكثر ارتباطا بشكل أصبح من الممكن اعتباره "قهريا" مع تلك التطبيقات، بحيث لم تعد تتمكن من منع نفسك من متابعتها حتّى مع عدم وجود هدف لذلك.

 

 

"هناك ثروة من الأبحاث التي تشير إلى أن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي أكثر من اللازم يقود الناس إلى الشعور بأنهم مستبعدون من خطط وأنشطة الآخرين" تقول هانت، في أثناء حديثها مع محرر "ميدان"، مستكملة: "ويدعو ذلك أيضا إلى مقارنة اجتماعية سلبية"، ينتهي الأمر بك أن تشعر بأن حياة كل شخص آخر أكثر سهولة ومتعة وأكثر نجاحا وشعبية منك، أضف إلى ذلك أن الوجود وحيدا لفترات طويلة يتسبب في شعور عميق بالوحدة، وهو واحد من أهم العوامل التي قد تدفع شخصا ما لتكوين أفكار انتحارية على المدى الطويل، يمتد هذا التأثير ليصبح أكثر سلبية في سنوات عمرك الحرجة، وهنا نقصد المراهقة.

 

جيل مكتئب من المراهقين!

يفتح ذلك الباب أمامنا لتأمل العمل البحثي الذي قدمته جين توينج6، من جامعة سان دييجو، وأثار انتباه وسائل الإعلام في السنوات القليلة الفائتة، حينما ألمحت إلى الدور القوي الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي في حياة المراهقين، وهي فئة عمرية حرجة، حيث أصبحوا أقل شعورا بالأهمية، وأقل استمتاعا بالحياة، وأقل انخراطا في الأنشطة المنزلية وفي العلاقات سواء كانت على مستوى الصداقة أو العلاقات العاطفية، وجدت توينج كذلك أن هؤلاء الذين يستخدمون الهاتف الذكي مدة أكثر 3 ساعات في اليوم هم أكثر عرضة، بمقدار الثُلث، للشعور باليأس، الإحباط، الوحدة، أو التفكير في الانتحار. 

 

لهذا السبب تعتبر توينج أن العام 2007، ونقصد هنا تحديدا تلك اللحظة التي ظهر فيها جهاز "آيفون" للمرة الأولى، كان مُفردة اجتماعية اختلّت بعدها نسب كل المعايير المهمة للسلامة النفسية. على سبيل المثال، بعد هذه النقطة ارتفعت نسب الاكتئاب والانتحار بين المراهقين بدرجة 50%، لم تقدم توينج روابط سببية بين الحالتين، لكن العام 2007 لم يحتوِ على أي شيء جديد في حياة المجتمع الأميركي، على وجه الخصوص كعيّنة لتجاربها، إلا ظهور الآيفون، وانتشاره المتسارع فيما بعد.

 

أضف إلى ذلك أنمؤسسة صحة صغار السن الرسمية البريطانية7كانت، قبل عام واحد، قد أوضحت أنه في استفتاء ضم أكثر من 1500 مراهق بريطاني لتقييم أي تطبيقات التواصل الاجتماعي أسوأ على صحتهم النفسية من الأخرى جاء الترتيب كالتالي: يوتيوب (الأفضل)، ثم تويتر، ثم فيسبوك، ثم سناب شات، وأخيرا إنستغرام (الأسوأ)، قاس الاستفتاء عددا من المعايير وضع المراهق درجة لكل منهم لكل تطبيق، تضمنت دور وسائل التواصل الاجتماعي في دعم تقبّل الآخرين لك، ودرجة تسببها فيالاكتئاب والقلق والوحدة أو التنمر، كذلك درجةتأثيرها على معدلات النوم الخاصة بك، وصورتك الذاتية عن نفسك، وعن جسمك، هويتك،إلخ. في مجموع تلك المعايير، وغيرها، أعطى من هم في سن المراهقة والشباب للإنستغرام درجة "أسوأ تطبيق ممكن".

 

 

معا.. وحدك!

لكن ما قد يدعونا للتأمل حقا، في تلك الحالة، هو أنه -بحد تعبير هانت-"من المثير للسخرية بدرجة ما أن تتسبب وسائل التواصل الاجتماعي، تلك التي من المفترض أن تعزز الشعور بـ "التواصل!"، في درجات واسعة من الوحدة بين مستخدميها"، لكن المشكلة كما يبدو تكمن في جوهر التواصل الاجتماعي نفسه، فعلى الرغم من أننا -نحن البشر-كائنات تواصلية خُلقت لتعيش في مجموعات، بحيث يعزز ذلك من بقائها، فإن التواصل الفعّال ربما يجب أن يتضمن حالة من اللقاء الحقيقي، بمعنى أن يراك من تتحدث معه، يسمع صوتك، يلاحظ لغة جسدك، ويوجد معك في بيئة واقعية، أما التواصل عبر الكلامالمكتوب فقط، أو عبر الصوت فقط، فإنه لا يتمكن من تحقيق تواصل فعّال، ليشبه الأمر في النهاية أن نتحصّل على جرعات من المخدر الذي لا يُسمن ولا يُغني من جوع.

 

إن تلك الحالة المجتمعية الغاية في الغرابة والتي نسميها بـ "معاوحدك" (Together Alone)، وتعني أن يوجد كلٌّ منّا معا، في الحجرة نفسها، في جلسة عائلية أو تجمع للأصدقاء، لكن على الرغم من ذلك يعيش كل منّا في عالمه الخاص عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لهي شيء يثير الكثير من التساؤل والشفقة في آن، كيف يمكن أن يجتمع هذا التناقض في نقطة واحدة؟ كيف يجلس ابنك المراهق ذوالسنوات الخمس عشرة بجوارك على الأريكة في المنزل ليكون -في تلك اللحظة نفسها- على درجة صلة أكثر قوة، وربما حميمية، مع شخص آخر يوجد الآن على مسافة 20 كيلومترا منكما؟!

 

تقول هانت لمحرر "ميدان": "إذا كنت تستخدم وسائل الإعلام الاجتماعية بشكل أقل، فإنك ستنفق وقتا أطول على الأنشطة التي تسهم في تقدير الذات (مثل إنجاز عملك) والعلاقات في العالم الحقيقي"، ثم تضيف أن الباحثين في هذا المجال لا يطالبونك بإلغاء تفعيل حسابك نهائيا على وسيلة التواصل الاجتماعي التي تفضلها، لكن لا شك أن استثمار وقت أطول في الأنشطة التواصلية الطبيعية مقارنة بالتواصل الاجتماعي سوف يحسّن بشكل واضح من حياتك. 

 

الحل إذن في الإرادة، في هذا العالم المحموم بالسرعة، الغارق في البهرجة، يبدو أنه قد أصبح لزاما علينا أن نتنبّه لانسياق عواطفنا تجاه هذا النوع الجديد من الغرائز، من أجل التحكّم في رغباتنا، الأقرب إلى كونها إدمانا، في تفحص وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بنا. لهذا السبب تنهي هانت حديثها مع محرر "ميدان" قائلة: "إن نصيحتي هي أن تكون مدركا بشكل أكثر وعيا لاستخدامك لوسائل التواصل الاجتماعي، حاول أن تحدّ نفسك لمدة نصف ساعة تقريبا يوميا".