شعار قسم ميدان

100 ألف "لاعب" لإثبات خطأ ألبرت أينشتاين!

اينشتاين

حسنا، طالما أننا في عالم الكوانتم، فإن أفضل ما يمكن أن نستخدمه هو مجموعة ممتعة من التجارب الفكرية، لنفترض أنك استيقظت فجأة من سبات عميق، لا تتذكر ما حدث قبل ذلك، أمامك -على طاولة خشبية بيضاء اللون- يمكنك أن ترى عُملة معدنية، وهاتفا نقّالا به رسالة مسجلة، تفتحها فتسمع أحدهم يخبرك أنك في لعبة ما، تشمل شخصا آخر في غرفة مجاورة. وسيكون شكل اللعبة كالتالي: عند سماع صوت الجرس سوف يقوم كل منكما بلف العُملة، لمدة ألف مرة متتالية، ولكي تنجحا في تلك اللعبة وتتفاديا مصيرا دمويا، يجب أن تتشابه قراءة العُملات بينكما (ملك، أو كتابة) ولو مرة واحدة فقط، النتائج تظهر على الشاشة القريبة على الجدار أعلى النافذة.

 

عقاب كمومي

بعد انتهاء الرسالة قد تتفاءل قليلا، يبدو أنك داخل أحد أجزاء فيلم "سو" (SAW)، لكن لعبتك ليست بصعوبة أجزاء الفيلم، فمن الطبيعي أن تتشابه بعض النتائج ويختلف البعض الآخر في حالات لف العُملة، كأن تحصل في إحدى المرات على "ملك" فيحصل الآخر على "كتابة"، أو أن تحصل على "كتابة" فيحصل الآخر على "كتابة" مثلك، وبذلك سوف تخرج سالما من اللعبة حسب القواعد البسيطة لنظرية الاحتمالات.

 

لكن حينما تبدأ اللعبة، وبعد خمسين مرة من اللف، يحدث أن يبدأ التوتر في التسرب إلى أعماقك، فنتائج كل مرة تختلف على الطاولتين، أما الرعب الحقيقي فسيبدأ بعد مئتي لفّة، حيث لم يحدث -ولو مرة واحدة- أن تشابهت نتائج عملتيكما، ماذا لو كان ذلك يحدث دائما؟ مهما حاولنا أو كررنا اللعبة لأي عدد من المرات، وبلا أي استثناء، سوف تنعكس القراءات بين طاولتيكما؟ هنا سوف تفكّر أن هناك من يتلاعب بكما، أو ربما يكون هذا اللاعب الآخر هو مصمم اللعبة، أو أن الشاشة تنقل نتائج معروفة سابقا.

 

هذا هو ربما -بشكل أكثر تعقيدا بالطبع- ما دار في ذهن السيد ألبرت أينشتاين حينما صاغ فرضية المتغيرات الخفية في محاولة لتفسير ظاهرة التشابك الكمومي(1) (Quantum Entanglement)، لكن في منتصف العام 2018 تمكنت تجربة كمومية رائدة، من كشف جانب من سلوك الجسيمات المتشابكة كمّيا، كل ما تطلبه الأمر(2) هو 12 فريقا من علماء الفيزياء، في 10 دول، وأكثر من 100 ألف لاعب، ونحو 100 مليون وحدة بيانات، تم توليدها بشكل عشوائي باليد، لكي نتمكن من إثبات أن ألبرت أينشتاين كان على خطأ!

في حواره مع محرر "ميدان" يقول مورجان ميتشل، أستاذ في البصريات الكمية في معهد العلوم الضوئية في مدينة برشلونة، إسبانيا، والمؤلف المشارك في الدراسة: "لقد أظهرنا أن رؤية أينشتاين للطبيعة، والتي تسمّى بالواقعية المحلية (Local Realism)، وتضم معيارين هما أن تمتلك الأشياء خصائص سواء كنت تلاحظها أم لا، ولا يمكن أن ينتقل أي تأثير أسرع من الضوء، لا يمكن أن تكون صحيحة، على الأقل يجب أن يكون واحد من معياريها السابقين كاذبا".

 

تشابك كمومي

لكن لفهم آلية تلك التجربة المعقدة بصورة مبسطة، وكيف أثبتت أن رؤية ألبرت أينشتاين للعالم خاطئة، دعنا نبدأ بالتعرّف إلى إحدى الخصائص الأساسية للجسيمات دون الذرية، وهو الدوران أو اللف(3) (Spin)، يشبه دوران الجسيمات دوران الأرض حول نفسها، ليس الأمر كذلك تحديدا؛ لكنه أقرب مثال نعرفه، مع فارق مهم، وهو أن الأرض تدور لأنها دُفعت للدوران في بداية حياتها، أما دوران الجسيمات دون الذرية فهو خاصية جوهرية محددة لها، لا تدور؛ لأن أحدهم دفعها للدوران؛ لكنها مستمرة دائما في ذلك، يشبه الأمر صوتك أو ضحكتك، إنه جزء من تركيبك كبشري، وهكذا بالنسبة للجسيمات، لكل جسيم نمط دوران محدد لا يتغير أبدا.

 

undefined

يشير التشابك الكمّي لوجود نوع من الارتباط بين الجسيمات المتشابكة كميا مفاده أنه حينما نقرأ دوران الجسيم "أ" في لحظة ما فإنه عند قراءة دوران الجسيم "ب" المتشابك معه كميا في اللحظة نفسها سوف تكون معاكسة، مهما قمنا بتكرار التجربة، وبأي طريقة، وعلى أي عيّنة كمومية، كانت جزيئا، أو ذرة، أو رقائق فائقة التوصيل، ويحدث ذلك على أي مسافة بين الجسيمات، حتى لو قررنا وضع كل جسيم منهما في أحد جانبي مجرة عرضها 220 ألف سنة ضوئية، أو حتى حينما نضعهما في جانبي الكون نفسه.

 

يناقض ذلك، بالطبع، أحد أسس النظرية النسبية المهمة، وهي أنه لا يمكن لتأثير أن يتم بأسرع من سرعة الضوء، للتوضيح دعنا نفترض أن الشمس قد اختفت من الوجود في اللحظة التي تقرأ بها هذه الجملة، هنا على الأرض لن نشعر بالأمر إلا بعد 8 دقائق كاملة لأن تأثير جذبها لنا لن يختفي فجأة، بل بسرعة الضوء كحد أقصى، لذلك فإن هذا الجسيم الذي يقرأ دورانا متعاكسا مع رفيقه الموجود في طرف المجرة الآخر يكسر تلك القاعدة، بشكل ما.

 

لذلك تصور ألبرت أن الأمر الخاص بالتشابك الكمومي يجب أن يحوي ما سمّاه بالمتغيرات الخفية(4) (Hidden Variables)، أي مجموعة من الظروف التي تتحكم في تلك الأرصاد فتجعل النتائج تبدو كذلك، لنفترض مثلا أن كلًّا من "عبد الرحمن" و"رهف"، وهما طفلان لم يتخطيا العاشرة بعد، قد ادعيا أنه يمكن لهما التواصل مع بعضهما البعض بشكل تخاطري، لكي نثبت خطأ ادعائهما سوف نطلب من كل منهما الدخول إلى متجر ألعاب مختلف عن الآخر، في اللحظة نفسها، وشراء لعبة "سيّارة"، شرط أن يخرجا من متجري الألعاب، في كل مرة نعيد فيها التجربة، بسيّارة ذات لون مختلف عن بعضهما، إما أحمر وإما أخضر.

 

أصابع خفيّة

في تلك النقطة قد يخرج الطفلان، في كل مرة، بسيّارات ذات لون متعاكس بالفعل، لكنك سوف تسأل نفسك: ماذا لو كان كل من عبد الرحمن ورهف قد اتفقا قبل التجربة؟ ماذا لو كتبا قائمة طويلة، وأخفياها في جيب كل منهما، للحالات التي سوف يقوم كل منهما باختيارها، فتختار رهف سيّارة حمراء في المرة الأولى للتجربة، وخضراء في الثانية والثالثة وحمراء في الرابعة، وهكذا، بينما يعرف عبد الرحمن أنه سوف يفعل العكس، وهكذا تستمر التجربة إلى أي عدد من المرات، هذه القائمة التي كتباها ووضع كل منهما نسخة منها في جيبه، هي "المتغيرات الخفية" التي قصدها أينشتاين.undefined

رهف وعبد الرحمن هما جسيمات كمومية متشابكة، يفترض أينشتاين أن تلك الجسيمات لديها ما يشبه القائمة بكل الحالات الممكنة، لكن جون ستيوارت بيل(5) (John Stewart Bell)، الفيزيائي الأميركي، في الستينيات من القرن الفائت، كان قد تنبه لأن فكرة القائمة التي تحتوي على تلك المتغيرات الخفية غير ممكنة، لفهم ذلك دعنا نغير قواعد اللعبة الخاصة بالطفلين.

 

إنها التجربة نفسها لكن مع متجرين لا يقدمان سيارات فقط، بل يقدمان سيارات أو طائرات أو سفنا بشكل عشوائي، بمعنى أن كلًّا من عبد الرحمن، ورهف، سيدخل لمتجر الألعاب الخاص به، ويطلب لعبة، فيدخل البائع لغرفة مغلقة ومظلمة ليمسك بأول لعبة تقابله، ويخرج بها، هنا تخبر عبد الرحمن ورهف بقواعد اللعبة الجديدة، حيث على كل منهما أن يخرج بلعبة ذات لون مختلف عن الآخر، إلا في حالة واحدة، وهي حينما يقدم البائع لكل منهما اللعبة نفسها، هنا يجب أن يختارا اللون نفسه.

 

في تلك المرحلة تبدأ المشكلة، يمكن لكل من عبد الرحمن ورهف أن يكتبا قائمة سابقة تحدد لون اللعبة في كل مرة، لكن ماذا عن حالات تشابه اللعبة؟ في عيّنة عشوائية سوف يحدث ذلك في ثلث المرّات فقط، وفي ثلثيها يمكن لعبد الرحمن ورهف أن يكونا على صواب عبر طريقة القائمة، بالتالي فإنه في حالة التخاطر يجب أن ينجح عبد الرحمن ورهف في الخروج بلعبة تتفق مع القاعدة في أكثر من 66% من المرات التي نكرر فيها التجربة، الآن لنقف قليلا ونتحدث عن الجسيمات.

undefined

كيف نحصل على نمط عشوائي؟

الطفلان هما جسيمان كموميان، أما لون اللعبة هو الدوران الخاص بكل جسيم، أما نوع اللعبة فهو الطريقة أو الاتجاه الذي نقيس به هذا الدوران، وبغض النظر عن الآلية الخاصة بالقياس أو معنى أن نقيس الدوران الخاص بجسيم ما، فإن بيل قد طور ما نسميه "مبرهنة" (Bell’s theorem)، أو إثبات، يقول إنه يمكن أن نصمم مجموعة من التجارب، يقوم الباحثون خلالها -كأصحاب المتاجر- باختيار عشوائي بين اتجاهات القياس، لنتأكد من صواب أو خطأ فكرة أينشتاين، فقط إن تخطت القياسات حدا معينا يمكن القول إنه: حتما يوجد تواصل بين الجسيمات دون متغيرات خفيّة.

 

تتشابه لعبتنا الفكرية الخاصة بالطفلين، إلى حد كبير، مبرهنة بيل. مع الكثير من التعقيد ومئات الصفحات المكتوبة بطلاسم الرياضيات القاسية بالطبع، وعلى مدى السنوات التالية للمبرهنة، بداية6 من تجربة فريدمان وكلاوزر 1972، تم اختبار فرضية المتغيرات الخفية، وفي كل مرة كانت النتائج تؤكد أنه لا يوجد متغيرات خفية، لا يمكن للجسيمين أن يتفقا سابقا على شيء، ذلك لأن نتائج التوقعات تتجاوز الثلثين في كل مرة.

 

لكن المشكلة التي ظهرت، في أثناء ذلك كله، كانت دائما ذات علاقة بتلك "العشوائية" المطلوبة لإجراء التجارب، يتطلب اختبار بيل وجود قياس عشوائي تماما، وهذا أمر يصعب تنفيذه، لأن الكثير من العوامل الخفية يمكن أن تؤثر على اختيار الباحثين، وحتى حينما يتم توليد البيانات العشوائية في الحواسيب فالأمر ليس عشوائيا بالصورة التي تتصورها، يترك ذلك ثقبا في خط سير اختبارات بيل يسمى "ثغرة حرية الاختيار" (freedom-of-choice loophole)، أي إن هناك إمكانية لمتغير خفي ما أن يؤثر على الإعدادات المستخدمة في التجارب. إذا لم تكن القياسات عشوائية تماما، ونحن متأكدون من ذلك، فإن اختبارات بيل لا يمكن أن تكون حاسمة بشكل قاطع.

 

يجب إذن أن نضمن في تجربة بيل، بشكل ما، تأكيدا على أن صاحبي متجري الألعاب لم يتفقا سابقا مع الطفلين، وبالتالي يتحايل الطفلان علينا ويخرجان بألعاب مختلفة اللون إلا في حالة تشابه اللعبة، وكان الحل في التجربة الجديدة، والتي تسمى اختبار بيل الأكبر(7) (The Big Bell Test)، هنا لن يكون هناك صاحب متجر واحد فقط هو من يدخل ليختار اللعبة عشوائيا، بل 100 ألف شخص، "نعتقد أن البشر لديهم إرادة حرة ولا يتأثرون بالجسيمات المتشابكة" يقول ميتشل في حواره مع محرر "ميدان" مستكملا: "ولهذا السبب يمكن للتجربة مع البشر أن تغلق تلك الثغرة تماما".

 

الفكرة بسيطة، وأشار إليها جون بيل نفسه حينما قال(8) إن الإرادة الحرة البشرية يمكن لها أن تخلق أفضل صور العشوائية، لكن في الوقت الذي وضع فيه بيل ذلك الاقتراح كان استخدام البشر غير عملي، فنحن نحتاج إلى تكرار التجربة عددا ضخما من المرات، أما حاليا في عصر التواصل، أمكن للباحثين دمج أكثر من 100 ألف شخص في لعبة إنترنت تكافئهم بشكل أكبر كلما كانت ضغطاتهم غير متوقعة، على عدة مراحل، مع واجهة رسومية ممتعة، كذلك فإن اللعبة تسمح لك بمشاركة جهودك في دعم العلم على وسائل التواصل لاستقطاب العديد من اللاعبين.

لعبة بيل التي شارك فيها أكثر من 100 ألف شخص

تسمح اللعبة فقط باختيار من اثنين: (صفر) أو (واحد)، خلال 12 ساعة متتالية، يوم 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، قام اللاعبون بالانضمام للعبة، وإنتاج نحو 100 مليون وحدة بيانات، تقول (صفر) أو (واحد)، توجّهت تلك البيانات بشكل فوري إلى 12 معملا متخصصا في القارات الخمس، في كل منها قام الباحثون بعمل التجارب عبر اختيار القياسات حسب تعليمات اللاعبين العشوائية.

 

هنا جاءت نتائج التجربة لتؤكد أنه، مع تلك الدرجة من العشوائية الخالصة المعتمدة على حرية البشر في الاختيار، ومع هذا الكم الضخم منها، فإن حالات التشابك الكمومي أظهرت علاقة واضحة بشكل يدحض توقعات ألبرت أينشتاين بوجود متغيرات خفية، بذلك تمكّن باحثو الدراسة، والتي نُشرت(9) في دورية نيتشر منتصف العام الماضي، من غلق تلك الثغرة التي يمكن للمتغيرات الخفية أن تدخل منها، ليثبتوا أن ميكانيكا الكم أغرب بلا شك مما يمكن أن نتخيل في أي وقت مضى.

 

لنسافر إلى سيبيريا

مع إغلاق تلك الثغرة في تجارب بيل تقرّبنا ميكانيكا الكم من احتمالين يفرضهما تفسير كوبنهاجن لطبيعة الكون، يقول ميتشل في أثناء حواره مع محرر "ميدان": "فإما أننا نتدخل للتأثير في واقع الكون فنغيره في كل مرة ننظر إليه، وإما أن هناك علاقة -لا يمكن إلى الآن تصوّر طبيعتها- بين الجسيمات المتشابكة كموميا، أو أو ربما كلاهما"، وهو ما يعني أننا لا شك بحاجة إلى فيزياء جديدة تصف سلوك هذا الكون على مستوياته الدقيقة، لكن لفهم سر وقوعنا في تلك الاحتمالات التي يعرضها ميتشل دعنا نضرب مثالا بسيطا.

undefined

لدينا فقط (10) برتقالة وتفّاحة في الغرفة، الجميع يعرف ذلك، وبينما أنت مشغول بالحديث مع صديق لك يشاركك التجربة، وضع أحدهم التفاحة في حقيبتك والبرتقالة في حقيبته، بعد ذلك سوف تسافر إلى سيبيريا، ويسافر هو إلى جنوب أفريقيا، حينما تصل سوف تفتح حقيبتك فترى التفّاحة، هنا ستعرف على الفور أن حقيبة صديقك تحتوي على البرتقالة، ليس لأنك قد تسببت في ذلك، ولكن لأن هناك "معلومة خفية" تقول إن كل ما لدينا هو تفّاحة وبرتقاله فقط، هكذا تصوّر أينشتاين مشكلة التشابك الكمّي.

 

ذلك لأن هاتين الثمرتين لو كانتا متشابكتين في عالم كمومي، فإن حقيبتك المغلقة لن تحمل واحدة فقط منهما، بل سوف تحمل كل الاحتمالات الممكنة معا، التفاحة والبرتقالة في آن، لفهم الفكرة دعنا نتأمل تجربة شرودنجر الفكرية الشهيرة، سنضع قطة في صندوق مغلق مع كمية صغيرة من مادة مشعة يُحتمل بمقدار 50% مثلا أن تتحلل ذرة منها خلال مدة محددة، إذا تحللت تلك الذرة سوف تتسبب في عمل عداد جايجر الذي يقيس الإشعاع، هنا سوف يُفلت العداد المطرقة لتسقط على زجاجة السم فينتشر في المكان وتموت القطة.

 

الآن نقف أنا وأنت أمام ذلك الصندوق قبل أن نفتحه لنسأل: هل القطة حية أم ميتة؟ في تلك النقطة يتدخل تفسير كوبنهاجن لميكانيكا الكم للإجابة بـ: "كلا الحالتين معا، حية وميتة"؛ لأن هذه الذرة ذات موجة احتمالية تصفها في كل الحالات؛ أي كـ متحللة وغير متحللة في الوقت ذاته، أما حينما نفتح الصندوق لن نجد أي مفاجآت، تكون القطة إما حية وإما ميتة، هذا هو ما حدث حينما نحاول إدخال عملية قياس أو رصد لعالم الكوانتم، وذلك لأن الجسيم يفقد وضعه الكمومي، وضع توجد كل الحالات فيه معا، لوضع ذاتي، حالة واحدة محددة. (لفهم سبب حدوث ذلك تأمل (11) تجربة الشق المزدوج في تقرير سابق)

 

بين الواقعية وغرائب الكوانتم

حينما تفتح حقيبتك فترى التفّاحة، فإن ذلك يعني أنك قمت بالتدخل للتأثير على الحالة الكمومية في الحقيبة فتغيرت إلى حالة عادية، لكن ذلك يعني أيضا أنك ربما قمت بالتأثير على الحالة الكمومية في الحقيبة الأخرى، ما يشير أنه قد أصبح لك تأثير على جسيم يبتعد عنك آلاف الكيلومترات، وبشكل لحظي، وهو ما يتناقض مع ما أسماه أينشتاين بالواقعية المحلية (12) (Local Realism).

ما أخطأ فيه أينشتاين لم يكن رأيه في كون ميكانيكا الكم على صواب من عدمه، في الحقيقة ما أخطأ فيه هو تصور أنه يمكن جمع نظرية الكم بالواقعية المحلية في بوتقة واحدة

التجربة في عالم أينشتاين تشبه إلى حد كبير أن نقوم برصد مجرة بعيدة عبر تلسكوباتنا، لا يمكن أن تؤثر تلك التلسكوبات في المجرة التي ترصدها، أما في عالم الكوانتم فالتجربة تشبه تذوق قطعة كيك، حينما تقوم بالرصد أنت تتفاعل مع التجربة، يمكن فهم الأمر بتجربة فكرية أخرى، سوف نتخيّل أنك عالم أنثربولوجيا من جامعة عريقة، تود أن تسافر إلى منطقة أناتشيري في الغابات البوليفية المطيرة لتسكن مع شعب التشيماني، وهي مجموعة مكونة من 16 ألف شخص تسكن في قرى متفرقة، هدفك من تلك الرحلة هو أن تقوم بدراستهم.

 

حينما نسأل: هل تحصل بالفعل على نتيجة دقيقة من دراساتك؟ فإن الإجابة ستكون: "ليس بالضبط"، لأن هدفك سيكون هو دراسة نمط حياتهم النقي، بينما لم يعد نقيا بوجودك، لقد تأثروا بملابسك، أحذيتك، الموسيقى التي تسمعها، كاميراتك أنت وفريق العمل، وكل شيء آخر أدخلتموه لدراستهم، بالتالي تؤثر عملية الرصد الخاصة بك في واقع التجربة، هذا -بدرجة واسعة من التبسيط- هو ما نقابله في حالة الكوانتم.

 

في الحقيقة تختلف الواقعية المحلية بالكامل عن وجهة النظر الكمومية، "في الواقعية المحلية، فإن كل شيء يمكن قياسه له قيمة، يحدث ذلك سواء قمنا بقياس أم لا"، بحد تعبير ميتشل في أثناء حديثه مع محرر "ميدان"، والذي يضيف قائلا إنه "في الواقعية المحلية كذلك لا يمكن أن يحدث أي تأثير بأكبر من سرعة الضوء"، بالتالي فإن ذلك يتناقض مع النظرة الكمومية للعالم، حيث إن القياس نفسه مسؤول عن بعض الخصائص التي نلاحظها.

 

لكن ما أخطأ فيه أينشتاين لم يكن رأيه في كون ميكانيكا الكم على صواب من عدمه، في الحقيقة نحن لا نعرف إن كانت ميكانيكا الكم على صواب أو على خطأ، ما أخطأ فيه ألبرت أينشتاين هو تصور أنه يمكن جمع نظرية الكم بالواقعية المحلية في بوتقة واحدة، لكن نتائج تجربة بيل الأكبر، وسابقاتها من التجارب، تميل ناحية تأكيد أنه لا يمكن تفسير عالم الكوانتم بلغة الفيزياء الكلاسيكية، يقول (13) جون ستيوارت بيل: "بالنسبة لي، المشكلة الحقيقية مع نظرية الكم هي التعارض الواضح بين معادلاتها الصارمة والنظرية النسبية، ربما لا يتطلب إجراء تركيب حقيقي بين النظريتين مجرد تطورات تقنية، بل تجديد جذري في المفاهيم".

 

في الجملة الأخيرة لجون بيل يمكن أن نتفهّم جيدا المشكلة الرئيسية التي تطرحها نظرية الكوانتم على الفيزياء، والعلم ككل. دعنا نتصوّر موقف العلماء في اللحظة التي ظهرت فيها ميكانيكا الكم وبدأت تكتسب درجات واسعة من الثقة، يبدو ذلك محبطا، كل ما بناه الفيزيائيون قبلها يتعرض لهزة عنيفة، مفاهيم ببساطة "الواقعية المحلّية" تنقلب لحالة من الحيرة، لكن ما يحدث هنا يذكرنا بسؤال مهم وأخير: ما العلم؟ إذا كان محاولة جاهدة من المجتمع البشري لفهم الطبيعة فيجب أن نحترم طريقة هذه الطبيعة في التعبير عن نفسها كما تريد، لا كما نريد، ويعني ذلك أنه حينما تظهر المفاجآت فنحن على الطريق الصحيح، قال ريتشارد فاينمن ذات مرة: "ينشأ التناقض من التعارض بين الواقع وتصورك عما يجب أن يكونه ذلك الواقع".

المصدر : الجزيرة