شعار قسم ميدان

"استراتيجية الزرافة".. وصفات ناجحة لمواجهة القلق في حياتك

ميدان - زرافة
اضغط للاستماع

  

أن تستيقظ يوميا بالشعور المُرهق نفسه الذي اصطحبته معك لحظة الخلود للفراش، شعور بالتعب وكأنك ما أغمضت عينك. كُلما سحبت الغطاء عن وجهك ينتابك ذلك الخوف من تفاصيل يومك الذي لم يبدأ بعد، ولكنك ترى ملامحه في السقف الذي تُحدق به أعلى نظرك. القلق، المخاوف التي تتحول لتهديدات تُرهق حاملها والتي تعترض سياق يومه وتجعله محاطا بسيناريوهات قد لا تحدث حتى في أسوأ الحالات! كيف يُمكننا إدارةُ كل تلك الانفعالات وترويضُ ليونة الاستجابة للمواقف، قبل أن تتحول إلى اضطرابات معقدة تُفسد حياتنا؟

 

في هذا السياق، اقترح الكاتب الأميركي جيمس كلير في إحدى مدوناته على قُرائه أن يفترض الواحد منهم أنه عبارة عن زرافة، مجرد زرافة برقبة طويلة تمتد لسبعة أقدام، تلمح بين الحين والآخر مجموعة من البشر الرحالة الذين يلتقطون لها صورا. تجوع الزرافة، فتصل لأقرب شجرة وتأكل. تُحس بالعواصف القادمة، فتستكشف ما يُناسبها من ملاجئ الطبيعة. تشعر بتهديد الحيوانات المفترسة، فتهرب! ببساطة، استجابت الزرافة لكل مستجد في وقته، فهي تَعلم -قطعا- أن احتمالية افتراسها قريبة كل يوم، ولكن احتمالية الحدوث لم تمنعها من متعة التهام أوراق الشجر، الاحتماء من العواصف، رؤية بعض الرحالة، أو الهرب إن اضطرت لذلك! ليونة الاستجابة لكل مُتغير، هذا ما فعلته الزرافة، والليونة هي اللبنة الأولى التي تُشكّل الحياة بالعموم، والتي تؤثر تأثيرا فوريا على باقي سياق أيامنا وما بها من مستجدات، وحياتك موجهة بقوة نحو اللحظة الحالية واستجابتك لها وتأثيرها عليك! فهل يُمكن أن يبدو لنا الأمر بسهولة ما استقبلته الزرافة؟ [1]

   

   

كيف يجد القلق باب الدخول؟

من الضروري التفريق بين التوتر والقلق، إذ يبدو أن التشابه بين الاثنين كبير، القلق قد يحدث نتيجة للتوتر، ولكن التوتر قد يتجلى في صور عديدة. التوتر قد يجعل الشخص حزينا، غاضبا، مجهدا. ولكن القلق هو بالتحديد الشعور بالخوف الشديد، والرعب، والتهديد الواقع الحدوث في أي لحظة. وغالبا يحدث التوتر بسبب تأثيرات خارجية وينتهي بانقضاء هذه التأثيرات، على عكس القلق الذي يعتبر استجابة داخلية يصعب التحكم بها أحيانا أو إيقافها. [2]

 

فوفقا لإحصائيات منظمة الصحة العالمية (WHO) فإن 1 من كل 13 شخصا يعانون من القلق حول العالم، ويُصنف الاكتئاب -وهو صورة من صور القلق- على أنه السبب الرئيسي للإعاقة -أو تعطيل إنتاجية الفرد الحياتية- حيث يؤثر على 75% من الأشخاص الذين يعانون اضطرابات عقلية، ليس هذا وحسب، بل يموت نحو مليون شخص كل عام بسبب هذا الاضطراب الذي يصعب الكشف عنه أو تشخيصه وعلاجه، والذي يختلف بين ثقافة وأخرى، حيث تُعتبر بعض الثقافات غير منفتحة على مثل هذا النوع من الاضطرابات العقلية. تُفيد منظمة الصحة العالمية أن اضطرابات القلق هي أكثر الاضطرابات العقلية شيوعا في جميع أنحاء العالم والتي يُصاحبها رُهاب محدد، مثل اضطراب الاكتئاب الشديد، ويعتبر الخوف الاجتماعي هو أكثر اضطرابات القلق انتشارا. [3] [4]

   

undefined

   

جميعنا معرضون لاختبار نوع معين من القلق، سواء كنت مهددا من أن تستجوبك الشرطة، أو إن كنت على وشك إلقاء خطاب أمام حشد من الناس، ولكن هنالك من تُسيطر عليهم قوة القلق، القلق الذي لا ينتهي. كيف يجد القلق طريقا لأولئك، ولماذا هم دون غيرهم؟ علينا أولا أن نفهم أن القلق هو استجابة طبيعية بيولوجية، كالحزن والفرح والخوف، عندما تستجيب للخوف فأنت تضع إدراكك في مستويات عالية من الوعي حتى تكون متأهبا مستعدا لكل تهديد مُحتمل. ولكن الإفراط في الخوف والقلق ووضع الاستعداد والتأهب المستمر يجعل الجسم في حالة تأهب وفشل في ضبط نفسه والعودة للحالة الطبيعية بعيدا عن وضع الاستعداد لكل تهديد! مما يجعل الجسم والعقل يشعران بالتهديد المحتمل المستمر حتى لو لم يكن هنالك أي شيء محتمل! [5]

 

أنواع القلق وأعراضه

يبدو من المخيف معرفة أن اضطرابا عقليا كهذا يجتاح المساحة الكبرى من حياتنا دون الإحساس بالحاجة إلى تشخيصه أو علاجه، فأين يقع الخط الفاصل بين الإحساس بالقلق -الطبيعي- وبين المعاناة من القلق -كاضطراب عقلي-؟ تنقسم كل هذه المشاعر والاستجابات للظروف المختلفة لتحدد أنواعا مختلفة من نوبات القلق: [6]

 

اضطراب القلق العام (Generalized Anxiety Disorder (GAD)): وهو اضطراب مفرط ويصعب السيطرة عليه، حيث يُصاحب الأحداث اليومية التي يتوقع الفرد المصاب بها كارثة على الأبواب؛ قلق أكثر من اللازم بشأن المسائل اليومية مثل القضايا الصحية، والمال، والموت، والمشاكل الأسرية، ومشاكل الصداقة، ومشاكل العلاقات بين الأصدقاء، وصعوبات العمل، وتؤثر بشكل واضح على أدائه اليومي.

 

اضطراب القلق الاجتماعي (Social Anxiety Disorder (SAD)): هو الاضطراب الذي يصاحب الحديث لأول مرة مع أشخاص جدد، أو إلقاء خطاب أمام حشد من الناس، يشعر الفرد حينها أنه تحت المجهر وداخل حلقة التركيز وبأنه سيُحكم عليه بأحكام مختلفة وربما قاسية.

  

   

اضطراب الإجهاد اللاحق للصدمة (Post-Traumatic Stress Disorder (PTSD)): هو نوع من أنواع المرض النفسي حسب النظام العالمي للتصنيف الطبي للأمراض والمشاكل المتعلقة بها، يسبقه حادث واحد أو عدة حوادث كارثية أو تهديدات استثنائية. ليس من الضروري أن يكون التهديد موجها إلى الشخص ذاته، بل يمكن أن يكون موجها إلى أشخاص آخرين (مثلا إذا كان الشخص شاهدا لحادث خطير أو عمل من أعمال العنف). تظهر الأعراض النفسية والجسدية لاضطراب ما بعد الصدمة عادة في غضون نصف عام بعد الحدث الصادم. يؤدي إلى اهتزاز فهم الشخص لذاته والعالم من حوله وإلى تشكل أحاسيس العجز لديه.

 

الرُّهاب (Phobia): خوف متواصل من مواقف أو نشاطات معينة عند حدوثها أو مجرد التفكير فيها أو أجسام معينة أو أشخاص عند رؤيتهم أو التفكير فيهم. هذا الخوف الشديد والمتواصل يجعل الشخص المصاب عادة يعيش في ضيق وضجر لمعرفته بهذا النقص. ويكون المريض غالبا مدركا تماما بأن الخوف الذي يصيبه غير منطقي ولكنه لا يستطيع التخلص منه بدون الخضوع للعلاج النفسي لدى طبيب متخصص.

  

undefined

   

كيف تسد الباب في وجه القلق؟

"اعتدتُ في صباح كُل يوم خلال السنوات الثلاثة والثلاثين الماضية أن أقف أمام المرآة لأسأل نفسي: لو كان اليوم هو آخر يوم في حياتي؛ هل أريد أن أفعل ما أنا بصدد القيام به اليوم؟ ومع تكرار الجواب "لا" على التوالي، علمت بأنني بحاجة إلى تغيير شيء ما"

 ستيف جوبز

 

إن للقلق علامات واضحة قد تظهر على أدائك اليومي، وهذه العلامات قد تكون مفيدة في تحديد مدى الحالة التي وصلت لها. إن كان القلق والخوف الشديد يمتد للتأثير على العمل والدراسة فيجب حينها اللجوء لمختص، قد يكون القلق علامة أو عرضا جانبيا يدل على مشكلة صحية كأمراض القلب، والسكري، والربو. وأحيانا يكون القلق عرضا جانبيا لدواء معين. أما لو كانت النتائج تُثبت سلامتك صحيا فيجب حينها الاستعانة باستشارة نفسية يقدمها طبيب نفسي مختص. أما إن كانت علامات القلق لا تؤثر على أدائك بشكل كبير؛ فيمكنك حينها تجربة هذه النصائح: [7]

 

اغفر لنفسك وانتظر وقتا مناسبا للوم: تخيل أن لك صديقا لا يرى بك سوى أخطائك، يلومك باستمرار على كل فعل لم تكن حكيما به. هو ذات الشعور الذي تُشعر نفسك به، سيكون من الجيد أن تغفر لنفسك بعض الزلات. عليك بإسقاط الأفكار السلبية والبدء بتوجيه نفسك لمهمات جديدة دون التوقف عند الخطأ. [8]

 

البحث عن الغرض من الحياة من خلال مساعدة الآخرين: عليك أن تفكر كم من الوقت تمضيه مع الشخص الذي في دماغك، الذي تقلق من أجله. لا يهم حقيقة كم من الجهد الذي نبذله أو المال الذي نحققه دون وجود شخص يحتاج إلينا ويهبنا معنى حقيقيا للوجود، الاختلاء بالنفس ضروري وسلاح ذو حدين، والمبالغة في العزلة وانتقاد الذات هو أمر خطير يؤذي الفرد ويؤثر على أدائه. [9]

 

كن واعيا بحدودك: الوعي بنقاط الضعف والقوة لديك سيجعل من السهل عليك معرفة الوقت والظرف الذي ستحتاج به إلى المساعدة. [10]

 

استخدم المؤقتات: أداة مثيرة للاهتمام وفعالة جدا لأولئك الذين يعانون من الإجهاد، حيث يتم توقيت ساعة مثلا للعمل أو للراحة، فإن قمت بتحديد ساعة للعمل عليك أن تعمل بجد خلالها، وكافئ نفسك بـ 15 دقيقة للراحة بعد انقضائها. [11]

  

  

في كتاب "الإنسان يبحث عن معنى" (Man’s Search for Meaning) يستعرض طبيب الأمراض العصبية والنفسية فيكتور فرانكل تجربته في السجون النازية خلال الحرب العالمية الثانية، كتب ملاحظاته وخبرته التي اكتسبها والتي جعلته يصمد في السجن ويخرج حيا. يتنقل بين الفصول واصفا حالات المساجين النفسية وترتيبها، حتى يصل للمرحلة التي وصفها بوهم الإنقاذ، حيث يتخيل السجين أن هناك حدثا ما أو معجزة ستحدث لتنقذه من الموت. ومن ثم تليها مرحلة الدهشة، الدهشة من أنهم لا يُصابون بالأمراض رغم وقوفهم الطويل في البرد، الدهشة من عدم إصابتهم بالتقرح بالرغم من قلة نظافتهم وشح الماء. ومن ثم يصلون لمرحلة البلادة. الفكرة التي أراد فيكتور فرانكل توضيحها هي أن الإنسان كائن قادر على التمازج مع الظروف المحيطة به مهما كانت صعبة وباستطاعته تجاوزها إن أراد ذلك. وعلّق على أن كل الذين ماتوا في السجون لم يملكوا أي شيء يعيشون لأجله، وقال:

"ويل لمن لا يرى في حياته معنى، ومن يمتلك سببا يعيش لأجله فإنه يستطيع أن يتحمل أي حال وبأي طريقة كانت" 

المصدر : الجزيرة