شعار قسم ميدان

حياة على كوكب آخر.. حقيقة أم خيال؟

الحياة

قبل عام واحد من الآن كانت الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء (NASA) قد أعلنت عن اكتشاف(1) مذهل تسبب في موجة واسعة من الاهتمام عبر وسائل الإعلام في الكوكب كله، إنه نظام شمسي جديد يحتوي على سبعة كواكب تدور حول النجم المركزي الخاص به، وما أثار دهشة الجميع حقا هو أن ثلاثة من تلك الكواكب قد تواجدت في النطاق الصالح للحياة الخاص بهذا النجم، وهو ما لفت انتباه باحثي العالم في هذا المجال الذين أقبلوا من كل حدب وصوب لدراسة هذا التجمع النادر، والذي يبتعد عنّا أربعين سنة ضوئية فقط، وهي مسافة قريبة بالمعايير الفلكية، فوجود ثلاثة كواكب يرفع من احتمالات وجود حياة، أو على الأقل قابلية وجودها.

 

بدأ الأمر في سبتمبر 2015 حينما استخدم فريق الباحثين التلسكوب ترابيست التابع لمرصد "لاسيلا" في صحراء أتكاما بشيلي لمراقبة النجم واكتشاف أنه يحتوي في محيطه على ثلاثة كواكب، سجل الفريق نتائج بحثهم في ورقة بحثية نُشرت في مايو/أيار 2016 بدورية "نيتشر" الشهيرة، ثم بعد استخدام فريق العمل للتلسكوب سبيتزر إذا بهم قد اكتشفوا أربعة كواكب جديدة ليصبح المجموع سبعة كواكب، تم تأكيد وجود ثلاثة منها في النطاق الصالح للحياة بينما هناك احتمالات أن تقع الكواكب الأربعة الأخرى في نطاق الحياة أيضا.

 

لهذا السبب وجهت مجموعة مكونة من خمسة تلسكوبات متخصصة(2) -منها التلسكوب الشهير هابل وسبيتزر التابعين لناسا- انتباهها ناحية هذه المنظومة، والتي سمّي نجمها "TRAPPIST-1" لمدة عام كامل لدراسة أكثر تفحصا لها، ومحاولة للبحث الدقيق حول مداراتها وكتلها وأحجامها، وكذلك طبيعتها الجيولوجية، وتكوين الغلاف الجوي الخاص بها، ووجود الماء من عدمه على سطحها، ثم -أخيرا- طبيعة النجم الذي تدور حوله، لتخرج لنا بأربع دراسات جديدة، صدرت فقط قبل عدة أيام، لكن؛ قبل الولوج إلى نتائج تلك الدراسات لا بد أنك تتسائل الآن عن: كيف يمكن لنا أن نعرف مكونات الغلاف الجوي لكوكب لا يمكن أن نزوره؛ كوكب يقع على بُعد أربعمائة تريليون كيلومتر؟!

 

كيف نعرف ذلك كله؟

هنا يجب أن نعود بالزمن قليلا حتّى نصل إلى إسحاق نيوتن(3)، والذي علّمنا أن الضوء العادي الذي نراه بشكل طبيعي أبيض اللون يمكن تحليله عبر منشور ثلاثي إلى سبعة ألوان، إنها حزمة ألوان الطيف التي نراها في أثناء المطر، والتي تمتد من البنفسجي إلى الأحمر، لكن يحدث حينما يمر الضوء خلال بعض الغازات أن تمتص تلك الغازات بعض المناطق من تلك الحزمة وتترك مكانها خطوطا سوداء كتلك التي نراها في الباركود الخاص بأي شيء في السوق، نراها كذلك في طيف الضوء الصادر من جسم ما، هنا تأتي الفكرة الذكية.

   undefined

فما يحدث ببساطة هو أننا سوف نستقبل -هنا على الأرض بمقاييس طيفية خاصة(4) "Spectroscopy"- الضوء الخارج من هذا النجم، لكن حينما يمر عبر طقس الكوكب بينما يعبر من أمامه، وحينما يصلنا الضوء نبحث في حزمة الطيف الخاصة به؛ حيث سوف نجد خطوطا سوداء مقابل ما امتصه عنصر الأكسجين، أو الميثان، أو الماء مثلا، أو غيرها من المركبات والعناصر، في أماكن محددة من هذا الطيف، وعبر دراسات مكثفة يمكن في النهاية أن نصل إلى إشارات، بدرجة كبيرة من الاحتمال، تقول إن هذا العنصر أو ذاك موجود في غلاف هذا الكوكب الجوي، لكن يدفعنا ذلك لسؤال آخر هام، وهو كيف نعرف بالأساس أن هناك كوكبا ما يدور حول أحد النجوم؟

 

هناك طرق كثيرة لذلك، لكن دعنا هنا نتحدث عن ترابست1؛ لقد تمكن العلماء من رصده عن طريق قياس كمّية الضوء أثناء وبعد عبور(5) الكوكب أمام النجم، لنتخيل أننا نقوم بتمرير كرة حديدية صغيرة أمام مصباح مضيء، في أثناء مرور الكرة بينك وبين المصباح سوف تقل كمّية الضوء القادمة منه إلى عينيك، هذا هو بالضبط -على مستوى غاية في الصغر والدقة- ما يحدث حينما نوجّه تلسكوباتنا إلى نجم ما لمدة طويلة، فبين فترات محددة نجد أن كم الإشعاع الضوئي يقل لمدة محددة ثم يرتفع مرة أخرى، يحدث ذلك لأن الكوكب يمر أمام النجم، ويمكننا ذلك من التعرف على نصف قُطر مدار الكوكب، وكذلك قطر الكوكب نفسه (وبالتالي حجمه) والذي يتناسب مع كم الضوء المفقود.

  undefined

ثم؛ من جهة أخرى يمكن لنا أن نتعرف إن كان الكوكب صخريا أو لا من قياس كتلته(6)، وهي مهمة صعبة لكنها ممكنة عبر تطبيق قانون الجذب العام نيوتن والذي تعلمناه في المرحلة الإعدادية، والذي يقول إن قوى الجاذبية بين جسمين تتناسب طرديا مع كتلتيهما وعكسيا مع مربع المسافة بينهما، والمسافة هي نصف قطر مدار الكوكب الذي تعلمنا كيف نحسبه منذ قليل، أما كتلة النجم(7) فيمكن حسابها عبر طيفه وضيائيته ضمن عدة طرق أخرى، ثم بعد ذلك يمكن مقارنة كتلة الكوكب بحجمة، حيث إن الكواكب الصخرية ذات كثافة أعلى من الكواكب الغازية، فمثا كوكب المشتري له 318 مرة ضعف كتلة الأرض، لكن 1000 مرة ضعف حجمه.

 

مجموعة مثيرة للانتباه

كما ترى، فإن الفكرة الأساسية هي أن نقيس -بشكل غير مباشر- أشياء لا يمكن قياسها مباشرة، وذلك عبر ابتكارنا لقوانين تحكم العلاقات بين أشياء نعرفها وأخرى لا نعرفها، وهذا في الحقيقة الأساس لما يعنيه العلم، إنها ممارسة قديمة جدا تعود جذورها إلى -ربما- "إراتوستينس"(8) (Eratosthenes) الفلكي القوريني قبل أكثر من ألفي سنة؛ حينما استطاع أن يقيس قطر الأرض بدقة شديدة فقط عبر ملاحظة لميل ظل الأشياء على الأرض في مناطق مختلفة، ثم تطورت شيئا فشيئا لنتمكن اليوم من قياس كل شيء له علاقة بكوكب يقع على مسافة مهولة كتلك.

 

undefined

الآن نعود إلى ترابيست-1، حيث كشفت الدراسات الجديدة(9) أن الكوكب الأول من المجموعة الأكثر قربا للنجم والمسمى "ترابيست-1بي"؛ يحتمل أن يحتوي على نواة صخرية، محاطة بغلاف جوي أكثر سمكا من ذلك الخاص بالأرض، وبينما احتوى الكوكب التالي له "ترابيست-1سي" على درجة سمك في الغلاف الجوي أقل، لكن كلا منهما مع قربه من النجم وغلافه الجوي السميك ذي النسب العالية من الهيدروجين؛ يجعله من غير المحتمل أن يحتوي على حياة، وذلك لأن غلافا جويا سميكا يعني احتباسا حراريا قويا، ما يرفع درجة حرارة سطح الكوكب.

 

أما عن عضو المجموعة الرابع(10)؛ الكوكب "ترابيست-1دي"، فإن تكوين غلافه الجوي لا يزال موضع شك، حيث تشير الإحصائيات إلى أنه يحتوي على طقس كثيف، أو ربما محيط ضخم، أو طبقة ثلجية سميكة، لكن الأكثر إثارة للانتباه في نتائج تلك المجموعة من الدراسات كان خامس الكواكب؛ "ترابيست-1 إي"، حيث إنه هو الكوكب الوحيد فيهم الذي يقترب في كثافته من كوكب الأرض، وهو مثل رفيقه السابق قد يحتوي على محيط ضخم، أو طبقة ثلجية كثيفة، ما يجعلهما معا محط انتباه العلماء في الأبحاث القادمة.

 

ثم أخيرا؛ نصل إلى الرفيقين الواقفين في نهاية المجموعة؛ "جي" و"اف"، ومشكلتهما أنهما أبعد من أن يتمكن الماء من التواجد عليهما بصورة سائلة، ربما في شكل ثلجي، لكن المثير للانتباه هنا هو أن الثلاثي "دي" و"اي" و"اف" لايبدو(11) أنه يحتوي على كميات هيدروجين كبيرة في الغلاف الجوي، كما في كواكب كـ"نبتون"، وهذه المهمة -مهمة قياس كميات الهيدروجين بدرجة أكثر دقة- سوف تكون من نصيب وريث هابل الذي سوف ينطلق خلال عام من الآن؛ وهو "التلسكوب جايمس ويب" (James Webb).

 

وما الهدف؟

لدينا إذن كوكبان مثيران للانتباه في مجموعة شمسية غاية في الندرة، ما يعني أن هناك فرصة بالفعل لوجود حياة عليهما؛ أو لصلاحيتهما لوجود حياة عليهما؛ حيث إن الماء -مثلا- هو ما نسميه بـ"بصمة حيوية" (Bio-Signatures)، علامة تشير إلى أن الحياة يمكن أن تتواجد ضمن هذا النطاق، خاصة في كوكب يتواجد بالفعل ضمن حدود ما نسميه بـ"النطاق الصالح للحياة" الخاص بنجمه، في تلك النقطة يمكن أن تراجع تقريرا سابقا للكاتب يتحدث -بدرجة أكبر من التفصيل- عن كيفية البحث عن حياة على كواكب أخرى بعنوان(12)؛ "كيف نبحث عن حياة خارج الأرض؟"

القمر

في تلك النقطة من رحلتنا معا سوف تسأل ربما عن فائدة ذلك كله، وهناك في الحقيقة اعتراضات سياسية كثيرة على هذا النوع من النشاط العلمي، فمثلا؛ يطرح البعض أسئلة مشروعة عن جدوى الإنفاق على مثل هذه الأبحاث، ألا يمكن أن نستغل كل تلك المليارات في تقليل حجم الفقر أو البطالة؟  أو على الأقل يمكن إنفاقها في مجال بحث علمي آخر كالطب؛ عسى أن نجد علاجات أفضل للسرطان، أو أن نجد مضادات حيوية أكثر فاعلية -بعد أن تهدمت كل خطوط دفاعنا الأساسية تقريبا- ضد البكتيريا المقاومة؟

 

من جهة أخرى؛ فإن هناك حججا كثيرة تقف في صف هذا المجال البحثي، فإلى جانب أنه قد أصبح هو نفسه نموذج عمل تتحرك فيه رؤوس الأموال كأي عمل؛ -ودور هذا النوع من النطاقات المعرفية في خلق قوى سياسية ناعمة للدول التي تتزعمها عالميا- هناك أيضا سؤال آخر هام يبحث في كيفية خروجنا من كوكب الأرض؛ حيث إن الظن أننا سوف نستمر في هذا الكوكب طويلا هو ربما وهم. في مرحلة ما؛- يتوقع البعض أنها لن تمتد لتصل الألف سنة(13) سواء لأسباب خارجية أو داخلية كالتغير المناخي مثلا- سوف نضطر للرحيل من هذا الكوكب، وهو أمر يتصور البعض أنه يستحق أن نبدأ في البحث عن بديل، أو مُنقذ من الآن.

 

أضف إلى ذلك أن البحث عن حياة في هذا الكون الواسع له هدف آخر أكثر دفعا للتأمل، حيث يبدأ السؤال حول وجود حياة في كوكب آخر، أو إمكانية أن يحدث ذلك من عدمه. من مشكلاتنا الخاصة مع ذواتنا؛ تصورنا للوهلة الأولى أن ذلك أمر لا يعنينا، ثم بعد القليل من التأمل نكتشف أن له علاقة بكل شيء تقريبا في حياتنا؛ لأن حياتنا ترتكز بشكل أساسي على الموضع الذي نعطيه لأنفسنا بالنسبة لهذا الكون، كيف نراه؟ وهل نعتقد أن الكون قد خلق بالكامل لأجلنا؟ لكن؛ ماذا لو كانت هناك المئات؛ أو ربما الآلاف والملايين من الحضارات الأخرى العاقلة؟ ثم ما الذي تعنيه الحياة حقا؟ أو من نحن؟

المصدر : الجزيرة