شعار قسم ميدان

هكذا تحول مطاعم الوجبات السريعة أطفالنا إلى مدمنين!

اضغط للاستماع
    

يمكن أن نتعامل مع أي نظام غذائي غير صحي، بدرجة البساطة نفسها التي تصفه، باعتباره قاتلا مأجورا، ولن نخسر الكثير من الدقة. في الحقيقة تقتل الأمراض المزمنة، كالضغط، والسكري، نحو 35 مليون فرد سنويا (1)، 80% من تلك الوفيات هم من سكّان بلاد منخفضة أو متوسطة الدخل، ويمثل النظام الغذائي غير الصحي أحد أهم مسببات تلك النوعية من الأمراض، بل وتحتل السمنة، حسب تصريح منظمة الصحة العالمية، المرتبة الخامسة من عوامل الخطر التي تؤدي إلى الوفاة.

أما عن الأطفال، فالأرقام لا تبشر بالخير، حيث تمثل سمنة الأطفال أحد أهم الكوارث المعاصرة والتي تتفرع بدورها إلى مجموعة ضخمة من الأضرار على المستويات الصحية والاجتماعية والاقتصادية بالطبع.

مثلا، بحلول عام 2016 كان عدد الأطفال، تحت الخامسة، المصابين بفرط الوزن 41 مليون طفل (2)، نصفهم يعيش في آسيا والربع في أفريقيا، وكلما تقدمنا بالفئة العمرية ارتفعت أعداد الأطفال بصورة أكثر كارثية، ما ينبئ أن هناك مشكلة من نوع جديد تماما تواجه البشر حاليا، لكن ما علاقة مشكلة كتلك بحديثنا عن شركات الوجبات السريعة؟

كم إعلانا يضرب وجه طفلك يوميا؟

لفهم المشكلة دعنا نبدأ من دراسة جديدة (3)، نُشرت يوم 17-4-2018 في دورية "طب الأطفال وصحتهم اليوم" (Journal of Pediatrics and Child Health Today)، تحاول حصر عدد المرات التي يتعرض خلالها الأطفال للإعلانات الخاصة بالوجبات السريعة سنويا، حيث تمكّن الباحثون من تسجيل سنة كاملة، العام 2016، مما تقدمه شبكة تلفزيونية تجارية للمواطنين في جنوب أستراليا، ثم استخدام آلية برمجية لحصر عدد الساعات التي قدمت إعلانات لأنواع الطعام المختلفة للجمهور.

هنا جاءت النتائج (4) لتقول إنه ضمن 35 ألف ساعة كانت هناك 500 ساعة للوجبات السريعة، بمقدار 100 ألف اعلان في السنة، لكن ما يهم بشكل أكبر هو البحث خلف الإعلانات التي تُقدّم في الفترات المعتادة لجلوس الأطفال أمام التلفاز، لنصل إلى أنه يُقدَّم 800 إعلان في السنة لكل طفل، مع إشارة إلى أن إعلانات الطعام غير الصحي المقدم للأطفال تفوقت بمقدار نحو مرتين ونصف عن الطعام الصحي، ويمكن أن نتحدث عن أضعاف هذه الأرقام في القنوات التي لا تلتزم بالمعايير القانونية أو الأخلاقية، وما أكثرها في الوطن العربي، لكن هل تؤثر تلك الإعلانات في أطفالنا بالفعل؟

دعنا هنا نعيد صياغة (5) هذا التساؤل: هل يؤدي التعرض للإعلانات التجارية الخاصة بالطعام غير الصحي إلى قيام الأطفال باستهلاك منتجات ضارة بصحتهم ومؤثرة بقوة على رفاهية حياتهم؟ على سبيل المثال، هل تلعب الإعلانات دورا في الاستهلاك المفرط للحبوب المحلاة والسكريات بأنواعها أو المواد التي لا تحتوي على مكونات مفيدة، أو تلك التي تحتوي على نسب عالية من الكربوهيدرات، الدهون، الملح، أو تلك التي تحوي كميات كبيرة من السعرات الحرارية في المجمل؟ والإجابة هي "نعم"6، يؤكد النشاط البحثي في هذا المجال أن الإعلان التجاري يحقق عادة التأثيرات المرجوة منه، فالأطفال بالفعل يتذكرون الإعلانات التي تعرضوا لها في أثناء اختيار وجباتهم.

بيع المرض

بل ويُشار(7) إلى أن تفضيل المنتج (أيا كان) يحدث بأقل قدر ممكن من التعرض التجاري له، ومع التعرض المتكرر للإعلانات ترتفع درجات اهتمام الأطفال بهذا المنتج ورغباتهم في شرائه، وهو ما نراه منعكسا على مبيعات ذلك المنتج بوضوح، بل والأهم من ذلك، كما تشير الجمعية الأميركية لعلم النفس، أن تفضيلات المنتجات لا تؤثر فقط على طلبات شراء منتجات الأطفال، بل وتؤثر بوضوح على قرارات الشراء الخاصة بالوالدين، بل ويتطور الأمر لما هو أبعد من ذلك، حيث تشير مجموعة أخرى من الدراسات إلى أن تعرض الأطفال لإعلانات التبغ، والكحول في الدول التي تُصرّح بذلك، وإلى أن تلك الأنواع من الإعلانات، سواء كانت مباشرة أو عبر شخصية مشهورة، يطور فكرة إيجابية عند الأطفال تجاه تلك المنتجات.

ولفهم أفضل لتلك العلاقة بين الإعلانات والغذاء دعنا نتأمل عدد القرارات التي نتخذها، كبارا أو أطفالا، كي نختار طعاما دون غيره في وجبة ما، وكانت مجموعة من الدراسات (8) من جامعة كورنل قبل نحو عشرة أعوام قد حاولت بالفعل التوصل إلى هذا الرقم عبر إخضاع مجموعة من قرابة 300 فرد لنوع من الاستقصاء حول عدد القرارات التي يتخذونها بشكل يومي من أجل اختيار وجباتهم، هنا كان معدل الإجابات هو نحو 15 قرارا فقط، لكن عبر إخضاع المجموعة نفسها لاستقصاء يحتوي على عدد أكبر من الأسئلة التي تتعلق بتفاصيل اختياراتهم وصل العدد إلى 200 قرار يومي في المتوسط.

نعم، 200 قرار في اليوم لأجل أن تختار الطعام الخاص بك، لكن اللافت للانتباه بشكل أكبر (9) في تلك الجزئية هو أننا، كبشر، بسبب زيادة أعداد تلك القرارات ومحدودية قدراتنا الإدراكية والوقت الخاص بنا، لا ندرك بسهولة كم الأشياء التي تؤثر بنا أثناء اتخاذ تلك القرارات، فمثلا، ضمن الدراسة نفسها كانت مجموعة من 192 فردا قد أكلت بمعدل أكبر بنسبة 31% عن الطبيعي فقط لأن الطعام المقدم لها كان في طبق أكبر أو في وجود عدد أكبر من الأشخاص أو في وجود كمية أكبر من الطعام.

في النهاية فإن جسم الإنسان قد صُمّم ليقوم باكتساب الوزن في فترات توفر الطعام، فيقوم بتخزين الدهون التي تستهلك فيما بعد بفترات المجاعات، لذلك فنحن كبشر نميل إلى اشتهاء الأطعمة الأعلى في نسب الدهون والكربوهيدرات والسكريات، هذا هو ما ورثناه عن أسلافنا الذين عاشوا حالة فقر المصادر قبل 85 ألف سنة في حشائش السافانا الأفريقية، لذلك يمكن القول إن خفض الوزن سيكون دائما مهمة شاقة، لعدة أسباب تتضمن رغبة الدماغ في ألا يحدث هذا.

undefined

 منع استهداف الأطفال

هناك إذن ارتباط واضح بين تزايد استهداف صناعة الغذاء للأطفال، وارتفاع نسب السمنة في الأطفال من الجهة المقابلة، بمعنى آخر، ترتفع نسبة السمنة في الأطفال بارتفاع عدد الساعات اليومية (10) التي يشاهدون خلالها التلفاز، حيث يرتفع استهلاكهم بمقدار نحو 50 كيلوكالوري يوميا لكل ساعة مشاهدة إضافية، وهذا رقم ضخم على ما يبدو من ضآلة، لأننا هنا نتحدث عن استهلاك يومي، فمثلا تعتبر زيادة في قدر استهلاكنا للطاقة بقيمة 150 كيلوكالوري إضافي يوميا هو أحد أسباب السمنة، لذلك فإن متابعة طفل للتلفاز لمدة تزيد عن ثلاث ساعات فقط يوميا تعني أن هناك احتمالا بنسبة 50% أن يصاب بالسمنة مستقبلا!

لهذا السبب تحذر منظمة الصحة العالمية بشكل مستمر من مشكلة تسويق الطعام للأطفال، بل وكانت قد أصدرت وثيقة (11) تتضمن مجموعة من التوصيات بشأن تسويق الأطعمة والمشروبات الغازية للأطفال، تحث خلالها على اتخاذ إجراءات أكثر صرامة من أجل الحد من الآثار الكارثية التي يتسبب بها تسويق تلك الأطعمة التي تحتوي نسبا عالية من الكربوهيدرات، والسكر، والملح، للأطفال، ووضعت المنظمة خطة عمل تتضمن مجموعة من السياسات الواجب اتخاذها تجاه تلك المشكلة من منطلق أثرها على انتشار وتغلغل الأمراض المزمنة بشكل عالمي، كالعمل على الحد من تعرض الأطفال لتلك الإعلانات، خاصة في أماكن تجمعات الأطفال كالمدارس والحدائق والعيادات، بل وطالبت الحكومات بوضع أهداف سياسية واضحة في خطط عملها تجاه تلك الأزمة.

وكانت عدة دول (12) قد أعلنت بالفعل عن حظر الإعلانات التي تروج للأطعمة والمشروبات غير الصحية للأطفال، وكانت ولاية كيوبك في كندا هي أول من وضع هذا النوع من الحظر في قوانين وسياسات التسويق للمواد الغذائية المقدمة للأطفال، نعرف كذلك أن دولا كبريطانيا، والنرويج، والمكسيك، وأيرلندا، وتايوان، وشيلي، قد اتخذت سياسات صارمة مشابهة لحظر ذلك النشاط بعد التأكيدات المتتالية على العلاقة بين سمنة الأطفال ومعدلات مشاهدة الإعلانات الخاصة بالطعام غير الصحي.

لعنة معاصرة

في عام 1980 كان هناك 5000 مادة غذائية على أرفف المحلات التجارية، بينما ارتفع (13) هذا الرقم إلى 35 ألف منتج عام 2000، هذه الزيادة في المواد الغذائية هي بالأساس زيادة في الوجبات السريعة والتي تكون غالبا كثيفة الطاقة ومحفزة للشهية، وعلى مر السنين نلاحظ أن هناك تزايدا واضحا في نسب استهلاك ذلك النوع من الأطعمة من قِبَل الكبار والأطفال على حد سواء، بل وقد أثّر ذلك على الآلية الاجتماعية التي يتناول الناس الطعام بها، حيث لم تعد العائلات تميل إلى الجلوس على الطاولة الخاصة بالطعام كمجموعة، بل صار تناول الطعام أمرا أكثر فردية، ما أثّر بدوره على ارتفاع مستوى البدانة عالميا.

وخلال السنوات الأربعين الماضية، في المقابل، ارتفعت (14) أعداد المصابين بالسمنة من الأطفال والمراهقين من 11 مليون شخص إلى نحو 120 مليون شخص، بل ويُعتقد أنه بحلول عام 2022 سيكون عدد الأطفال والمراهقين المصابين بالسمنة أكبر من عدد الأصحاء، وكانت مناطق العالم التي شهدت أكبر زيادة في عدد الأطفال والمراهقين الذين يعانون من السمنة هي شرق آسيا، وإقليم البلدان الناطقة بالإنجليزية ومرتفعة الدخل، والشرق الأوسط، وشمال أفريقيا، هذا الارتفاع الكارثي يعكس (15) تأثير تسويق الأغذية والسياسات الموضوعة بشأنها في أنحاء العالم أجمع، بحسب تصريح منظمة الصحة العالمية، علما بأن أنواع الغذاء المفيد والصحي مكلفة جدا بالنسبة إلى الأسر والمجتمعات الفقيرة.

إن الأرقام السنوية ذات العلاقة بارتفاع نسب الإصابة بالسمنة تُنذر بخطر شديد قادم، بل إن لجنة الصحة في مجلس العموم البريطاني أشارت في تقريره (16) سنة 2003 قائلة إنه "لو تحولّت السيناريوهات الأسوأ الخاصة بالسمنة لتصبح حقيقة فإن منظر هؤلاء مبتوري الأطراف سيصبح مشهدا مألوفا في الشوارع، سوف يكون هناك الكثير من المكفوفين، وسوف يكون هناك طلب كبير على غسيل الكلى، وسوف يكون هذا هو الجيل الأول حيث يموت الأطفال قبل آبائهم نتيجة لسمنة الطفولة"!

المصدر : الجزيرة