شعار قسم ميدان

طيبون اليوم وأشرار غدا.. هل تتحكم تغيرات المخ بسلوكنا؟

مقدمة الترجمة

كيف نكون بالأمس شُخُوصًا طيبين وودودين ونصبح في اليوم التالي عدوانيين، ليتحول الشر كجزء من صبغتنا؟، هل تلبستنا أرواحٌ أخرى؟، أم اخترقت أجسادنا كائنات وأنفُس أُخرى غير التي كُنّا عليها؟.

قد يبدو السؤال ضربًا من ضروب الخيال، أو معتقدًا شرقيًا يتحدث عن فكرة تناسخ الأرواح، ولكن باحثة الدكتوراه في مجال علم النفس العصبي، ليان رولاندز، تذهب بنا إلى تفسيرٍ طبيّ ونفسيّ يفتح لنا الأبواب أمام هذه الإشكالية التي فُرِضت سنين عددًا، ولم يكن هنالك ثمة جواب عن مدى واقعية هذا السؤال ومآلاته.

نص الترجمة

طالما أُثير الجدل عبر التاريخ حول من نكون، وما يجعلنا على ما "نحن" عليه. وعلى المستوى الفردي، تتكون عناصر كينونة الشخص الفريدة في الغالب من مفاهيم الشخصية، وهي أشياء على شاكلة اللطف، والدفء، والعداء، والأنانية. إلا أن ما هو أعمق من هذا يتعلق بطريقة ردة فعلنا تجاه العالم من حولنا، واستجابتنا الاجتماعية، ومنطقنا الأخلاقي، وقدرتنا على إدارة عواطفنا وسلوكياتنا.

أرجع فلاسفة من أمثال أفلاطون وديكارت هذه التجارب إلى كيانات غير مادية، منفصلة تمامًا عن العقل. إذ إن "الأرواح"، حسبما وصفوها، هي المكان الذي تحدث فيه التجارب الإنسانية. وفقًا لهذا الاعتقاد، تأوي الأرواح شخصياتنا، وتُمكّن من حدوث المنطق الأخلاقي. ولا تزال الفكرة تحظى بدعمٍ كبيرٍ في يومنا هذا. يشعر كثيرون بالراحة مع الفكرة التي تفيد بأن الروح لا تحتاج إلى العقل.

وإذا كان ما نحن عليه يعود إلى جوهر غير مادي مستقل عن العقل (أي الروح)، فإن الضرر المادي في هذا العضو لا يجب أن يغير الشخص. ولكن يوجد كم هائل من الأدلة العصبية النفسية تقترح أن هذا في الواقع ليس ممكنًا وحسب، بل هو شائع نسبيًا. وتعد حالة فينس غيج نقطة مثالية يمكننا البدء من خلالها لتفسير هذا الأمر.

في عام 1848، كان غيج البالغ من العمر 25 عامًا، يعمل رئيس عمال بناء في شركة سكك حديدية. وخلال عمله، كانت هناك حاجة لمتفجرات من أجل تفجير صخرة كبيرة بهدف التخلص منها. تضمَّن هذا الإجراء المعقد  مسحوقًا قابلًا للانفجار وقضبان دكٍّ حديدية. وفي لحظة غفلة منه، فجر غيج المسحوق وتسببت موجة الانفجار في دخول القضيب الحديدي إلى خده الأيسر. اخترق القضبان جمجمته، ومرت من خلال الجزء الأمامي للمخ، وخرجت من أعلى رأسه بسرعة كبيرة. وقد كشفت الطرق المعاصرة منذ ذلك الحين عن أن الموقع المحتمل للضرر كان في أجزاء القشرة الجبهية.

رئيس عمال البناء "فينس غيج" (مواقع التواصل)

وقع غيج على الأرض وبدا ذاهلًا ولكنه كان مستفيقًا. استعاد جسده عافيته تمامًا في نهاية المطاف، إلا أن التغيرات السلوكية التي حدثت لغيج كانت عجيبة. إذ يقال إن غيج الذي كان دمث الأخلاق ومحترمًا ورجل أعمال ذكي، أصبح غير مسؤول ووقح وعدواني. صار غيج طائشًا وغير قادر على اتخاذ قرارات صحيحة. كما نُصحت النساء بألا يبقين في صحبته لفترة طويلة، وبالكاد كان أصدقاؤه قادرين على التعرف عليه.

وُجدت حالة أخرى كان صاحبها المصور ورائد صناعة الرسوم المتحركة، إدوارد مويبريدج، في عام 1860، كان مويبريدج ضمن من تأثروا بحادث مركبة جياد وتعرَّض لإصابة في الدماغ في القشرة الجبهية الحجاجية (وهي جزء من القشرة الجبهية). لم يتذكر مويبريدج الحادث، كما تطورت لديه مسارات شخصية على غير ما كانت عليه شخصيته من قبل. فقد صار عدوانيًا، وغير مستقر عاطفيًا، ومندفعًا، ومحبًا للتملك. وفي عام 1874، عندما علم بخيانة زوجته، قتل الرجل الذي خانته معه. التمس محاميه من هيئة المحكمة وضع جنونه في عين الاعتبار، نظرًا لمدى التغيرات الشخصية التي طرأت عليه عقب الحادث. إذ أكد الشهود المحلفون على أنه "بدا كما لو أنه رجل مختلف".

شخصيات مختلفة

لدى جميع هذه الحالات شيء مشترك: تلف في مناطق من القشرة الجبهية، وخاصة في القشرة الجبهية الحجاجية. على الرغم من أنها قد تكون أمثلة متطرفة، فالفكرة التي تقول إن حدوث تلف في هذه الأجزاء من المخ ينتج عنه تغييرات شديدة في الشخصية -أصبحت راسخة الآن. إذ تلعب القشرة الأمامية الجبهية دورًا في إدارة السلوكيات، وتنظيم المشاعر، والاستجابة بصورة ملائمة. لذا من المنطقي أن السلوك الفاضح وغير الملائم، والسيكوباتية، والسلوك الإجرامي، والاندفاعية- ارتبطت جميعها بوجود تلف في هذه المنطقة.

على الرغم من هذا، يمكن للتغيرات التي تعقب الإصابة أن تكون أقل من الأمثلة المذكورة من قبل. ولننظر إلى حالة السيد إل، الذي عانى من صدمة دماغية حادة بعد سقوطه من أحد الأسطح أثناء الإشراف على أعمال البناء. تسببت سلوكياته العدوانية، وغيرته الوهمية في اعتقاده بخيانة زوجته، وبالتالي، في انهيار علاقتهما. لم يعد بالنسبة إليها نفس الشخص الذي كان عليه من قبل.

من وجهة نظر عصبية نفسية، يتضح أن ما نحن عليه يعتمد على العقل.

ليست مصاعب إدارة العواطف المشابهة لهذا مسببة للضغط وحسب، بل إنها أيضًا تتنبأ بانخفاض التكيف النفسي، والتغيرات الاجتماعية السلبية، وشدة العوز للرعاية. يعاني عديد من الناجين من الإصابات الدماغية أيضًا من الاكتئاب، والتوتر، والعزلة الاجتماعية، أثناء صراعهم لضبط حياتهم بعد الإصابة.

ولكن في وجود تقدير متزايد لأهمية التكيف الشعوري في إعادة التأهيل، تطورت العلاجات للمساعدة في إدارة هذه التغيرات. في مختبرنا، طورنا برنامجًا يسمى "بايسيب" (وهو برنامج العواطف المصاحبة للإصابات الدماغية وحلولها)، وهو علاج جماعي فعّال من حيث التكلفة، ويستند إلى التعليم. يعالج هذا البرنامج عديدًا من الشكاوى الشائعة للناجين من الإصابات الدماغية ويشدد بقوة على تنظيم العواطف. يعلّم البرنامج المشاركين استراتيجيات يمكن استخدامها بتكيفٍ وباستقلاليةٍ من أجل المساعدة في إدارة عواطفهم والسلوكيات المرتبطة بها. وعلى الرغم من أنها في البداية، فقد حصلنا على بعض النتائج الأولية الإيجابية.

فمن وجهة نظر عصبية نفسية، يتضح أن ما نحن عليه يعتمد على العقل، وليس على الروح. يمكن لأي تلف يحدث في القشرة الجبهية الأمامية أن يغير ما نحن عليه، وعلى الرغم من أن الأمر يصعّب التعرف على الناس حسب ماضيهم وشخوصهم التي كانوا عليها،إلا أن استراتيجيات جديدة ستلعب دورًا في إحداث فارق كبير في حياتهم. قد يكون الأمر متأخرًا للغاية لغيج ومويبريدج وآخرين، غير أن الناجين من إصابات دماغية في المستقبل سوف يحظون بمساعدة ليعيشوا حياتهم مرة أخرى وبنفس الشخوص التي كانوا هم عليها في الماضي.

_______________________________________________

ترجمة: فريق الترجمة

هذا التقرير مترجم عن The Conversation ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : الجزيرة