شعار قسم ميدان

"انت مش انت وانت جعان".. هل أصبحنا عبيدا للجوع؟!

midan - hungry
اضغط للاستماع
     

في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1944 سكن 36 شابا في الغرف التابعة لملعب جامعة مينوسوتا الأميركية، لم يكونوا ضمن فريق كرة القدم، بل فريق آخر -غاية في الخصوصية- خضع لواحدة من التجارب التي لاقت جدلا أخلاقيا منذ حدوثها وإلى الآن، إنها تجربة مينوسوتا للتجويع1 (Minnesota Starvation Experiment) الشهيرة، والتي حاولت اختبار تأثير الجوع على هؤلاء المتطوعين، في فترة من تاريخ العالم، أثناء الحرب العالمية الثانية، انتشرت فيها المجاعات وحاولت السلطات في الكثير من الدول التجهز بشكل أكثر صرامة لكل الكوارث المتوقعة.

        

كانت مدة التجربة عاما كاملا، في الأشهر الثلاثة الأولى خضع هذا الفريق إلى حمية غذائية طبيعية، بمعدل 3200 سعر حراري يوميا2، مع فحص دائم للمعايير النفسية والفيسيولوجية الخاصة بهم والتأكد من سلامتها، تلا ذلك ستة أشهر من التجويع بتناول 1570 سعرا حراريا يوميا فقط، مقسمة بين وجبتي إفطار وغداء فقط، ثم إعادة تأهيل خلال الشهور الأخيرة، أثناء فترة الشهور الستة كانت معظم وجباتهم من البطاطا والخضراوات الجذرية والخبز والمعكرونة، وكان مطلوبا منهم أداء عدة نشاطات أسبوعية مرهقة، منها العمل 15 ساعة في المختبر، والمشي مسافة 35 كيلومترا، والمشاركة في مجموعة متنوعة من الأنشطة التعليمية لمدة 25 ساعة.

   

الجوع بجنون!

خلال التجربة، قام الباحثون بقياس التغيرات الفسيولوجية والنفسية التي حدثت بسبب ذلك التجويع، وكانت تلك التغيرات، في الحقيقة، درامية للغاية، وهذا هو بالأساس ما دفع البعض إلى انتقاد هذا النوع من التجارب، بالطبع يمكن أن نتوقع انخفاضا واضحا في قوة تلك المجموعة من الرجال وقدراتهم على التحمل، كذلك انخفضت دوافعهم الجنسية، ومعدلات ضربات القلب، ودرجة حرارة الجسم، لكن الآثار النفسية كانت أكثر لفتا للانتباه، حيث أصبحوا مهووسين بالطعام، حلموا بالطعام بينما هم نائمون، وتخيلوه في أحاديثهم معا، وبحثوا عنه في سلّات القمامة، بل وقرأوا عنه، أضف إلى ذلك الارتفاع الواضح في معدلات حالات التهيج والاكتئاب، واللامبالاة.

       

undefined

  

وعلى الرغم مما قدمته تلك التجربة من دلائل حول تأثير الجوع، لكن الآليات التي يؤثر بها الجوع في النفس البشرية ليست مفهومة كليا، بالطبع نعرف أن هناك علاقة مباشرة بين فيسيولوجيا الجسم البشري والجوع، فما تأكله يتحول في النهاية إلى ثلاث صور أهمها هو سكر الجلوكوز، إنه ما نحصل عليه من هضم الكربوهيدرات (كالخبز، والأرز، إلخ)، وهو ما يمد أجسامنا بالطاقة بشكل رئيس. مع مرور الوقت بعد آخر وجبة حصلت عليها، تبدأ كمية هذه العناصر الغذائية في الانخفاض بمجرى الدم، وتصل بذلك إشارات هرمونية (من نواحٍ عدة) إلى دماغك، تحديدا منطقة تحت المهاد3 (hypothalamus) والتي تحتوي على مركزين أساسيين لهما علاقة بالجوع، الأول يحفز الشعور به، والثاني، بعد أن تأكل، يحفز شعورك بالامتلاء.

   

لكن، على الرغم من ذلك، لا يمكن لتلك التعقيدات الفيسيولوجية، التي ذكرناها أو غيرها، أن تشرح تأثير الجوع في المشاعر البشرية، سواء على نطاق بسيط (كالغضب أو التوتر أو ربما التهور)، وصولا إلى ما هو أعقد من ذلك (سنخوض في هذا الجانب بعد قليل)، خذ مثلا تلك النظرة إلى قطعة لحم في طبق حينما تكون جائعا وحينما تصل إلى مرحلة الشبع، في الحالة الأولى ستقول لنفسك4: "يا لها من قطعة صغيرة، سوف أحتاج إلى المزيد" وفي الثانية ستقول: "يا لها من قطعة كبيرة، بالتأكيد لن أنهيها".

    

ولفهم ذلك الأثر النفسي للجوع دعنا نتأمل الجذور التطورية لهذا الشعور، حيث عاش البشر في فترة مبكرة من تاريخهم، قبل 80 إلى 90 ألف سنة من الآن مثلا، في حالة من المجاعة الدائمة، لم يكن من السهل الحصول على الطعام، ولذلك تطورت أدمغتهم بحيث تشتهي الطعام أينما تراه وليس فقط عند الحاجة الفيسيولوجية إليه، لأن تلك الحاجة الفيسيولوجية كانت مستمرة دائما، ولأن تخزين الطعام الزائد على هيئة دهون في الجسم ساعد على بقائهم، لكن حينما نقارن ذلك الوضع بالعالم المعاصر حيث تنتشر الأطعمة في كل مكان، في التلفاز، وعلى الإنترنت، وفي الشارع، فإن ذلك بدوره يطور مشاعر مختلفة تجاه الطعام لا علاقة لها بإشارات الفيسيولوجية.

   

الأكل بجنون!

يشير اصطلاح "لذة الجوع" (5 Hedonic hunger) إلى الدافع لتناول الطعام من أجل الحصول على المتعة في غياب أي عجز في الطاقة، أي في غياب الدافع الفيسيولوجي، فمثلا، في إحدى التجارب6، حينما تقوم بتعريض مجموعتين من الأفراد، إحداهما جائعة، والأخرى وصلت إلى مرحلة الشبع، لمؤثرات حسية (تذوق قطعة شيكولاتة) أو بمجرد رؤية صورة لقطعة شيكولاتة، أو حتّى إدراكيا عبر قراءة مقال عن الشيكولاتة، فإن كلا من المجموعتين سوف يُقبل على أكل الشيكولاتة بالقدر نفسه تقريبا، كانوا جوعى أو ممتلئة بطونهم، إن مجرد رؤية الطعام، أو حتّى إدراكه بأي حاسة أخرى، يكفي لتحفيز الجوع.

       

undefined

   

وكانت مجموعة من الدراسات في جامعة كورنل7 قبل نحو عشرة أعوام قد حاولت بالفعل التوصل إلى عدد القرارات التي يأخذها الفرد الواحد، من أجل أن يشبع جوعه يوميا، عبر إخضاع مجموعة من قرابة 300 فرد لنوع من الاستقصاء حول عدد القرارات التي يتخذونها بشكل يومي من أجل اختيار وجباتهم، هنا كان معدل الإجابات هو نحو 15 قرارا فقط، لكن عبر إخضاع المجموعة نفسها لاستقصاء يحتوي على عدد أكبر من الأسئلة التي تتعلق بتفاصيل اختياراتهم وصل العدد إلى 200 قرار يومي في المتوسط، لكن اللافت للانتباه بشكل أكبر ضمن الدراسة نفسها أن مجموعة من 192 فردا قد أكلت بمعدل أكبر بنسبة 31% عن الطبيعي فقط لأن الطعام المقدم لها كان في طبق أكبر أو في وجود عدد أكبر من الأشخاص أو في وجود كمية أكبر من الطعام.

  

في الحقيقة، سوف تتعجب حينما تعرف أننا، نحن البشر، نميل إلى إنهاء الطبق مهما كانت كمية الطعام فيه، نحن نأكل دائما حتّى نكمل مهمتنا، بل إن بعض الباحثين8 يقارن بين ارتفاع نسب السمنة في الولايات المتحدة (35% في دراسة عام 2014) مقابل فرنسا (7% فقط) ويربط ذلك بأن متوسط حجم قطع الحلوى في الولايات المتحدة أكبر بقيمة 41% عن فرنسا، وأن متوسط حجم عبوة المشروبات الغازية أكبر بقيمة 52%، وأن متوسط عبوة الزبادي أكبر بقيمة 82%، وفي إحدى التجارب9 الشهيرة بجامعة كورنل، أجراها براين وانزينك، استهلك الخاضعون من الحساء ما قيمته 73% إضافية، فقط لأن طبق الحساء كان أكبر في الحجم، بغض النظر عن كل شيء آخر له علاقة بالجوع أو الامتلاء الفيسيولوجي!

 

بل ويشير براين وانزينك، في كتابه الشهير "الأكل بجنون: لماذا نأكل أكثر مما نظن؟" (Mindless Eating: Why We Eat More Than We Think) إلى أن الدافع الرئيسي للجوع هو المحفزات الحسية الموجودة حولك، في إحدى التجارب10 حصل الحاضرون إلى السينما على علب بها فشار أُنتج قبل خمسة أيام كاملة، كان باردا وجامدا وذا طعم مختلف وغير سهل  للأكل، رغم ذلك، وحتّى مع التأفف الأوّلي من طعمه، أكل 60% من هؤلاء الخاضعين للتجربة من الفشار ما هو أكثر من الكمية الطبيعية وأنهوا العلبة في كل مرة، ما يعني أن المشكلة لم تكن بالأساس في الجوع، فقد كانوا ممتلئين قبل الذهاب إلى السينما بنصف ساعة، ولا لأن الفشار جيد الطعم، لأنه لم يكن كذلك، ولكن لأن وجودهم في السينما ورؤيتهم للآخرين يأكلون ووجود عبوة الفشار قد حفزهم، أو قل "أجبرتهم"، على الشعور بالجوع مرة أخرى.

         

undefined

       

الجوع إذن هو حالة عقل، ما تشتهيه يُحدد عبر معايير فيسيولوجية بالطبع، لكن ما يمثل الجزء الأكبر من الجوع هو التأثيرات الاجتماعية والحسية تجاه الطعام، لذلك فإن الكثيرين من الخبراء في هذا المجال يشيرون إلى أن الحميات الغذائية الصحيحة يجب أن تتضمن تعريفا إدراكيا واضحا للخاضع للحمية بما يعنيه الجوع الفيسيولوجي والجوع الناتج عن المؤثرات الخارجية، حيث إن معظمنا يقيم الشبع على أنه فقط الشعور بالامتلاء، وذلك غير صحيح، سوف نشعر بالامتلاء في كل مرة نأكل فيها قطعة شيكولاتة، لكن إن حدث ونسينا أننا أكلناها، فسوف نأكل واحدة أخرى بالرغبة نفسها!

    

لماذا نضطرب أثناء الجوع؟
لكن الأكثر غرابة هنا هو تأثير الجوع نفسه على الإنسان، فمثلا كان براد بوشمان، من جامعة أوهايو، قد رصد11 أن نسب الجلوكوز المنخفضة في الدم، بمعنى آخر (الجوع)، قد تسببت في ارتفاع نسب العنف بين المتزوجين، دعنا نتعلم القليل عن تلك التجربة فهي تدعو للتأمل، حيث على مدى 21 يوما تم قياس نسب السكر في دم 107 من الأزواج، ولاختبار ارتفاع العنف أو انخفاضه ابتكر فريق العمل طريقة تتضمن وضع كل زوج منهم، أو زوجة، عددا من الدبابيس في دمية تمثل شريك الحياة، وسُمح لهم باختيار يقع بين 0 و51 دبوسا، طريقة أخرى كانت إدخال الأزواج في مسابقات وهمية بحيث يسمح للذي يكسب المسابقة بتطبيق عقاب على الآخر، وذلك باختيار أن يتعرض لدرجة من درجات الصوت العالي (من 1 إلى 10).
     

هنا جاءت النتائج لتقول12 إن هؤلاء الأزواج الأكثر جوعا، الأقل في نسب السكر بالدم، كانوا أكثر رغبة في عقاب شريك الحياة بعدد الدبابيس أو بدرجة الصوت، هنا يشير بوشمان إلى أن السبب الرئيسي في الأثر النفسي للجوع هو أن قدرة البشر على التحكم في تصرفاتهم تتأثر بانتظام نسبة السكر في الدم، مع انخفاضها تفقد قدرتك على التحكم في نفسك، لذلك سوف تتوتر، تغضب، تتلعثم، تنسى، يضطرب تركيزك وتنهار قدراتك على التفكير المنطقي، وتنشغل عن الاجتماع الذي تحضره للتفكير في قطعة الهامبرغر التي سوف تنسفها بعده.

    

لكن وجهة نظر أخرى لافتة للانتباه تطرح نفسها، في ورقة بحثية نشرت فقط قبل ساعات قليلة13، لتقول إن للآثار السلبية للجوع، ونعني هنا كل ما يدور حول الغضب، سببين رئيسيين، الأول يتعلق بالسياق الذي يحدث الجوع فيه، والثاني يتعلق بمدى وعيك بذاتك أثناء الجوع، لفهم ذلك دعنا نتأمل التجارب، حيث سُئل 400 متطوع، قبل البدء، عن حالاتهم (جائع، ممتلئ)، بعد ذلك تعرض كل منهم لمجموعة صور تعرض مشاعر سلبية، أو إيجابية، أو متعادلة (عادية)، ثم بعد ذلك عُرض على كل منهم تصميم جداري صيني غامض لا معنى له، وطلب إليهم تقييم هذا التصميم بدرجة من 1 إلى 7.

        

undefined

    

هنا قامت مجموعة الجوعى التي تعرضت لصور تحفز مشاعر سلبية بتقييم التصميم الصيني بأقل درجات، أما تلك التي تعرضت لصور تحفز مشاعر إيجابية أو معتدلة فقد تساوت في المتوسط في تقييمها مع المجموعة غير الجائعة، ما يعني أن للسياق الذي تشعر أثناءه بالجوع دورا في آثار هذا الجوع كالتوتر والغضب، لكن تلك الدراسة تعطينا فكرة أخرى مهمة عن كيفية التحكم في آثار الجوع النفسية، حيث كانت تجربة أخرى ضمن الدراسة نفسها قد دعت 200 طالب للاختيار بين أن يصوموا عن الطعام أو يأكلوا.

     

عالم جريء جائع

بعد ذلك تعرضت مجموعة منهم لاختبار كان الغرض منه هو تنبيههم للتركيز على حالاتهم الشعورية، ثم خضع الجميع لمهمة شاقة جدا تتطلب عملا على الكومبيوتر، في أثناء عملهم تتعمد مجموعة الباحثين، دون علم الخاضع للتجربة، أن تتسبب في تلف نسخة نظام التشغيل، ويُطلب إلى الخاضعين للتجربة البدء من جديد بعد أن بذلوا جهدا لساعات طويلة، هنا جاءت النتائج14 لترصد رد فعل سلبيا بدرجة أكبر، يتضمن الغضب، أو الرفض، أو الكره، أو تقييم التجربة على أنها قاسية أو غير مفيدة، من هؤلاء الذين لم يتعرضوا للاختبار الأولي الذي ينبههم للتركيز على حالاتهم الشعورية، أما تلك المجموعة التي تعرضت للاختبار فقد انتبهت بالفعل لسبب ذلك الغضب، فلم يحدث، وتساوت متوسطاتها مع الأخرى غير الجائعة بالأساس.

    

يعني ذلك إذن أنه رغم كل تلك التأثيرات السلبية للجوع على مشاعرنا، فإنه يمكن لنا التحكم به عبر إدراك أن تلك المشاعر هي نتيجة للجوع، كذلك دعنا هنا نتأمل قليلا نتائج التجارب الشهيرة للصيام عن الطعام، فعلى الرغم من أن تجربة مينوسوتا قد رصدت حالة هوس بالطعام طوال مدة ستة الأشهر، لكن ذلك قد حدث فقط لأن الخاضعين للتجربة قد تلقوا جرعات طعام يومية، أما في حالات الصيام الطويلة15، عدة أيام مثلا، أو حتّى القصيرة، والتي امتنع فيها الصائمون عن أي شيء سوى الماء، فقد غادرهم الشعور القاسي والجنوني بالجوع بعد فترة16، وكأنهم لا يعرفون أصلا ما الطعام!

       

undefined

       

بالطبع كلنا نشعر بالجوع قبل طعام الغداء وبالشبع بعده، لكن يبدو، في النهاية، أن تلك اللحظات هي فقط قمة جبل جليدي ضخم، فالجوع هو عملية موجودة دائما، وفعّالة، ومستمرة في خلفية وعيك بينما لا تدرك ذلك، تؤثر في قراراتك اليومية العادية، وتغير في تصوراتك الحسية بشكل عميق، تشكل أولوياتك واهتماماتك واستثمارك العاطفي. الجوع -شأنه شأن الجنس، والرغبة في الانضمام إلى مجموعة- هو أحد المحركات الرئيسية لسلوكنا، ولتاريخنا كبشر، بل ويمكن بسهولة أن نقول إن تاريخ البشرية هو تاريخ للمجاعة.

     

في تلك النقطة يمكن تأمل اقتباس منسوب للمهاتما غاندي يقال فيه إن "هناك، في هذا العالم، أناسا وصل بهم الجوع إلى درجة أن الله لا يظهر لهم إلا في صورة خبز"، يعيش العالم فترة من تاريخه ترتفع فيها نسب السمنة17،18 إلى أرقام مجنونة لم تكن في الحسبان، وفي المقابل ما زال هناك نحو19 800 مليون فرد في العالم عرضة لنقص في التغذية، ورغم أن عدد هؤلاء يتناقص بشكل تدريجي من عام إلى عام، لكن ما يدعو للتأمل حقا هو أن علاقتنا كبشر، في حياتنا المعاصرة، بالطعام، تلك التي تتعقد بسرعة وقوة شديدتين، فنحن ننكفئ على الطعام جيلا بعد جيل، ونحول الجوع إلى ديكتاتور يتحكم فينا دون أن نعرف حينما لا ننتبه لمشاعرنا، فننتقل من الحالة الشهيرة "نأكل لنعيش" إلى رفيقتها "نعيش لنأكل"، لكن ذلك بدوره يدعونا لنسأل: هل يعني هذا أن الجميع يعيشون في مجاعة.. وليس الفقراء فقط؟