شعار قسم ميدان

خرافات نفسية.. هل يجعلنا التعبير عن الغضب أفضل حالا؟

midan - angry
اضغط للاستماع

 

جاك هو شخص عادي، يعمل موظفا دائم السفر في شركة سيارات، حياته مملة للغاية، ويعاني من الأرق وبعض الاضطرابات النفسية، لكنه لا يتكيف بسهولة مع الأدوية الموصوفة له، ما يدفع الطبيب إلى نصحه بالذهاب إلى مجموعات دعم المرضى لكي يتأمل قصص معاناة الآخرين وكيفية تكيفهم معها، يستجيب جاك لنصائح طبيبه، وبالفعل، فإن ذلك التنفيس عن مكنوناته يساعده كثيرا في التخفيف من الأرق والتوتر، مما يجعله مدمنا على الذهاب إلى تلك المجموعات، لكن الأمر يتطور به إلى ما هو أبعد من ذلك، فيقوم بخلق شخصية من خياله، يظن في البداية أنها حقيقية، نعرفها باسم تايلر ديردن، تاجر الصابون الغاضب.

 

ديردن هو النقيض الفوضوي لجاك، في الفيلم الشهير "نادي القتال" (Fight Club) يصل إلى ابتكار غاية في الغرابة، فيقوم بإنشاء نادي قتال له عدة قواعد صارمة، يجد هذا النادي قبولا وانتشارا واسعين، والفكرة أن تلك الجولات من القتال بين فردين قد تساهم في التنفيس عن الغضب الكامن بداخل كل منهما، الغضب الذي سببته الحياة المعاصرة بتضييقها الدائم على أحلامنا وتعليبنا كأننا قطع من السردين، الفكرة نفسها نجدها في أفلام كثيرة، فمثلا، في فيلم "إدارة الغضب" (Anger Management) يخضع ديف، دون علمه، لتجربة يحاول خلالها د. بادي رايدل دفعه إلى التعبير عن غضبه، لأن كتمانه للغضب يتسبب في الكثير من الكوارث بحياته.

   

عبّر عن غضبك

تحتل الفكرة التي تقول إن "التعبير عن الغضب يخفف منه"، والتي تترافق مع أخرى تقول إن "كتمان الغضب يجعلك أسوأ حالا" مكانا واسعا في ثقافتنا الشعبية، وتنتشر على مستوى يشمل كل دول العالم، بل نجد أن نطاقها يمتد إلى طلبة كليات علم النفس أيضا، فمثلا حينما أخضع لاري براون، مدرس علم النفس بجامعة أوكلاهوما، مجموعة مكونة من 219 طالبا1 في قسم النفس بالجامعة لاختبار بسيط تضمن التأشير بـ "صواب" أو "خطأ" على عدة أسئلة تتضمن أخطاء شهيرة في فهم علم النفس كان منها أن "التنفيس عن الغضب هو آلية فعّالة لتخفيف العنف" أشار 66% منهم أن هذا صحيح، وامتدت النتائج نفسها لتشمل 28 فصلا دراسيا أيضا.

       

undefined

   

في الحقيقة تجد فكرة "التنفيس عن الغضب" جذورا غاية في العمق في تاريخنا، تبدأ من مفهوم التطهير (Catharsis)، وكان أرسطو، في العديد من كتبه، قبل أكثر من ألفي وثلاثمئة سنة، قد طرح التطهير بمعنى2 الانفعال الذي يحرر من المشاعر الضارة، وقال إنه هدف التراجيديا التربوي والطبي، فمشاهد العنف والخوف تعمل على تنقية شحنات الغضب والعنف الكامنة بداخل الجماهير، وتمتد تلك الفكرة لتشرح الطقوس الراقصة التي مارستها العديد من الشعوب لطرد الأرواح الشريرة وصولا إلى مفهوم "الزار" في التراث الشعبي، من جهة أخرى تطرق نيتشه في فلسفته إلى اعتبار الطقوس اليونيسية الراقصة المتحررة من ملل المدينة وسيلة للتطهر والتنفيس عن غضبنا وتحرير رغباتنا الحقيقية.

   

ما زال هذا التصور عن تفريغ الغضب بمشاهدة الأفلام العنيفة أو أفلام الرعب عالقا إلى الآن في أذهاننا، لكن إدخال هذا المفهوم إلى علم النفس كان على يدي جوزيف بروير رفيق سيجموند فرويد، الذي استخدم تلك الطريقة (آلية التطهير3 Cathartic Method) في علاج حالة الهيستيريا لدى مريضة تدعى "آنا أو"، حيث دفعها بروير، وباقي مرضاه، عبر التنويم الإيحائي، إلى تذكر التجارب المؤلمة التي مرت بها، وبعد قيام المرضى بالتعبير عن المشاعر الأصلية الغاضبة أو الحزينة، التي تم قمعها ونسيانها وقت الحادثة، خفّت أعراض المرض النفسي عندهم وأصبحوا أفضل حالا، وكان مفهوم التنفيس محوريا لدى فرويد أيضا الذي رأى أن كتم الغضب يشبه كتم البخار في قدر الضغط، مع ازدياده ستأتي لحظة وينفجر.

      

  

استمر ذلك المفهوم في التغلغل داخل المحتوى الثقافي للمجتمعات ووصل، لا شك، إلى كتب التنمية البشرية وتحفيز الذات، تلك التي كانت، وما زالت، تحث الناس على "إفراغ" غضبهم عبر الصراخ في مكان مغلق أو ضرب أشياء أو تكسيرها، وكانت قد نشأت عدة مجموعات تقوم بعمل لقاءات منتظمة للتجمع وتكسير سيارات أو أجهزة منزلية كالتلفاز أو الأثاث أو أي أدوات أخرى معدة خصيصيا لذلك، ومؤخرا ظهر ما نسميه بغرفة الغضب (4 Anger room)، وهي غرفة تحتوي على قطع من الأثاث القابل للتحطيم والتدمير يتم تأجيرها لشخص ما، حيث يقوم بتفريغ غضبه عبر تحطيم هذه الأشياء، وعلى الرغم من أن الدحض العلمي لذلك المفهوم قد بدأ مبكرا في الخمسينيات من القرن الفائت، فإنها ما زالت موضع تصديق لدى الغالبية من الناس.

 

اُلْكُمْ وسادة

فمثلا، حاول روبرت هورنبرجر5، أستاذ علم النفس بجامعة أيوا، في الخمسينيات اختبار تلك الفرضية بصورة تجريبية، وفكرة هورنبرجر بسيطة ومنطقية، تقول إنه إذا كانت طريقة التنفيس عن الغضب صحيحة؛ فلا بد إذن أنها سوف تساعد هؤلاء الذين مارسوها على تقليل درجات العنف لديهم، بالتالي يمكن لنا أن نقسم مجموعة من الأفراد الخاضعين للتجربة إلى مجموعتين، تتلقى كل منهما قدرا من الإهانة، ثم بعد ذلك تمرنت المجموعة الأولى لمدة عشر دقائق على تفريغ الغضب عبر دق المسامير بمطرقة ضخمة، وهو تمرين مشهور، بينما لم تتلق المجموعة الثانية أي تمرين.

 

بعد ذلك يُسمح للأفراد من المجموعتين بانتقاد هذا الشخص الذي كان قد أهانهم من قبل، هنا من المفترض أن نتوقع أن يكون هؤلاء الذين تعرضوا لتمارين التنفيس عن الغضب أقل عنفا من رفاقهم في المجموعة الأولى، لكن النتائج الإحصائية للدراسة أشارت إلى العكس، الأفراد الذين نفّسوا عن غضبهم كانوا أكثر عنفا في الانتقادات التي وجهوها إلى الشخص الذي أهانهم، ما يعني أن فكرة التنفيس عن الغضب لم تكن فقط خاطئة، بل وضارة أيضا.

 

توالت بعد ذلك التجارب التي تؤكد أن مفهوم التنفيس عن الغضب، من وجهة نظر علم النفس، ليس خاطئا فقط، وإنما ضار أيضا، وربما كانت أشهرها هي أبحاث براد بوشمان6 في التسعينيات، التي ما زالت مستمرة إلى الآن7، وفي تجاربه الأولى أحضر فريق العمل مجموعة من 180 طالبا قسّمها إلى ثلاث مجموعات، قرأت الأولى مقالا عاديا، والثانية قرأت مقالا يدحض فكرة تنفيس الغضب، أما الثالثة فقرأت مقالا يؤيد صحة فكرة تنفيس الغضب عبر بحث مفبرك، بعد ذلك طُلب إلى كل فرد من أفراد المجموعات الثلاثة كتابة تقرير عن موضوع مثير للانتباه وقتها، قضايا الإجهاض، ثم ينتظر كل منهم التقييم الخاص بمقاله، وكان فريق التجربة قد قال له إن زميلا له في الدفعة هو من سيقيم تقريره.

       

undefined

  

بعد فترة يجيئ التقييم لكل مجموعة، يتلقى نصفها تقييما يقول: "هذا سيئ، هذا هو أسوأ تقرير قرأته في حياتي"، بينما يتلقى النصف الآخر تقييما يقول إنه تقرير ممتاز، ثم بعد ذلك نقوم بعرض بعض النشاطات على المجموعات الثلاثة، من ضمن تلك النشاطات أن يقوم الخاضع للتجربة بلكم وسادة لفترة زمنية قصيرة، هنا يرتفع إحصائيا قبول أفراد المجموعة الثانية لذلك النشاط الأخير، بينما ينخفض قبول المجموعة الثالثة لفكرة لكم الوسادة، وتبقى المجموعة الأولى في المعدلات العادية، ما يعني تأثرا واضحا بفكرة التنفيس فقط بعرضها على الخاضع للتجربة، لكن هنا يرفع بوشمن من مستوى تجربته.

 

حيث في المجموعة التالية من التجارب8، يحاول بوشمان اختبار صلابة فكرة تنفيس الغضب عبر لكم الوسائد بصورة أكثر دقة، هنا يُقسّم الأفراد الذين تلقوا تقييما سيئا ومهينا إلى مجموعتين، تلك التي لكمت الوسادة بغرض التنفيس والتي اختارت نشاطا آخر، والفكرة الذكية هي أن نقول للخاضع للتجربة إن الشخص الذي قام بتقييمه سوف يدخل معه في مسابقة فردية عبارة عن مجموعة أسئلة يتلقاها كل منهما، الذي يجيب أولا يُسمح له بتطبيق عقاب على الآخر، وذلك باختيار أن يتعرض لدرجة من درجات الصوت العالي (من 1 إلى 10)، مع كون 10 تمثل 105 ديسبل (وحدة قياس شدة الصوت).

 

هنا جاءت النتائج أكثر وضوحا وتحديدا من تلك السابقة في هذا المجال، حيث كان اختيار هؤلاء الذين لكموا الوسادة لعقاب منتقديهم في المتوسط هو 8.5، بينما كان متوسط اختيارات المجموعة التي لم تحاول التنفيس عن غضبها هو فقط 2.47، ما يعني أن عملية تنفيس الغضب عبر لكم الوسائد كانت لها نتائج عكسية، لقد رفعت من معدلات العنف لدى ممارسيها، وكانت تلك النتائج هي نفسها مع تغيير نمط التجربة، فمثلا حينما خُيّر أفراد مجموعة الوسائد، اختاروا في المتوسط درجات أعلى لسخونة الصلصة المقدمة في طعام الشخص الذي انتقدهم، وهكذا.

 

بل ويبتعد الأمر إلى ما هو أكثر من ذلك9، فحينما تم تقديم كل من المجموعتين (تلك التي نفثت الغضب في لكم الوسائد والتي لم تنفس عنه) إلى اختبار إكمال كلمات بسيط يطلب منهم وضع الحروف الناقصة في بعض الكلمات اختارت مجموعة لكم الوسادة تكميل الكلمات بحروف تجعلها أكثر عنفا، على سبيل المثال، نضربه هنا باللغة العربية للتقريب، حينما يُخيّر الخاضع للتجربة بين وضع "ن" أو "ف" بين حرفي (خ) و(ق) اختارت مجموعة لكم الوسائد تكميل الكلمة لتكون "خنق" بدرجة أكبر إحصائيا في مقابل "خفق" للمجموعة التي لم تنفس عن غضبها بلكم الوسائد.

    

undefined

  

خرافة نفسية

على مدى نحو 40 سنة10 أكد النشاط البحثي في هذا المجال، عبر عدد كبير من التجارب المتعلقة بالفكرة نفسها التي تربط بين الغضب والعنف الجسدي، على أن فكرة التنفيس عن الغضب تتسبب في رفع العنف، من جهة أخرى أشارت العديد من التجارب إلى أن تحويل الغضب إلى طريق آخر كممارسة الرياضة هو أيضا مسبب آخر لرفع درجات العنف، لكن، ماذا عن الغضب نفسه، هل يمكن لكتمانه أن يجعلنا أسوأ حالا؟ هل من الممكن أن يصيبنا بالأمراض، كالقرحة، مثلا؟!

  

في تلك النقطة يمكن أن نبدأ بتوضيح خطأ آخر شهير11 في الفهم يقول إن هناك، بالأساس، علاقة طبية معروفة بين كتمان الغضب أو التعبير عنه وقرحة المعدة، حيث لا توجد دلائل علمية واضحة تؤكد تلك العلاقة، وما نعرفه الآن هو أن المسببات الرئيسية لمعظم حالات القرح المعدية هي الإصابة بميكروب "هيليكوباكتر بيلوري" أو استخدام المسكنات (مضادات الالتهاب اللاستيرويدية)، أما بالنسبة إلى العلاقة بين الغضب وأمراض القلب فإن كتمان الغضب، على عكس ما يمكن أن يتصور البعض، يحافظ على الصحة بشكل أفضل.

  

فمثلا، في دراسة12 ضمت 13 ألف مريض بجامعة نورث كارولينا، قام الخاضعون للتجربة بملء استقصاء يطلب منهم تقييم درجات ميلهم إلى التعبير عن غضبهم من 1 إلى 10، ثم بعد ذلك قام فريق عمل الدراسة بمتابعة هؤلاء الأشخاص بشكل مستمر لعدة سنوات لاحقة، لتقول النتائج إن هؤلاء الأكثر ميلا إلى إطلاق غضبهم، مع تثبيت عوامل أخرى كالتدخين أو الوزن الزائد أو الإصابة بالسكري وغيرها، كانوا أكثر قبولا للإصابة بأزمة قلبية من المجموعة الأكثر ميلا إلى كتمانه، وأشارت تجارب أخرى13 في هذا المجال ذي العلاقة بين التعبير عن أو كتمان الغضب والإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية إلى النتائج نفسها، ويمكن فهم ذلك -ببساطة- في إطار الطبيعة الفيسيولوجية لعملية الغضب نفسها، والتي ترفع ضغط الدم وتجهز الجسم لاستجابة "الكر والفر" (fight-or-flight response)، لكن ربما تسأل نفسك الآن: كيف يمكن إذن أن أتجاوز غضبي؟

     

ترويض الغضب

undefined

   

ينصح الخبراء14 في هذا المجال بعدة إستراتيجيات لمواجهة لغضب، بالاسترخاء مثلا وممارسة تمارين التنفس أو ممارسة أي من الآليات المعروفة للاسترخاء كاليوغا بشكل منتظم، كذلك بمحاولة التعامل مع المشكلة التي تسببت أصلا في الغضب وعدم تجاهلها، لكننا نفهم تلك الفكرة دائما بشكل خاطئ، حيث نعتقد، في داخلنا، بالمقولة التي تقول إن "لكل مشكلة حلا"، وحينما نفشل في إيجاد هذا الحل -فإيجاد حل ليس هو الحال دائما- نُحبط ونغضب، والفكرة أن نمرن أنفسنا على التركيز مع التعامل مع المشكلة بدلا من إيجاد الحلول.

   

أضف إلى ذلك أن مواجهة الغضب معرفيا سوف تساعدك كثيرا على تجنب حالات الغضب، ونعني هنا تغيير طريقة تفكيرك. حيث يميل الأشخاص الغاضبون إلى اللعنة أو الشتم أو التحدث بعبارات متطرفة للغاية تعكس أفكارهم الداخلية، لكن محاولة استبدال هذه الأفكار بأخرى أكثر عقلانية يمكن له أن يساعدك كثيرا. على سبيل المثال، نقتبس هنا من دليل الجمعية الأميركية لعلم النفس، بدلا من أن تقول لنفسك: "أوه، إن هذا فظيع، فظيع، كل شيء مُدمر" أخبر نفسك: "إنه أمر محبط فعلا، ومن المفهوم أني مستاء من ذلك، ولكنها ليست نهاية العالم والغضب لن يصلحه على أي حال".

 

لكن في النهاية، فإن التعبير عن الغضب، أو توجيهه إلى نشاط عنيف آخر، هو -كما يبدو- خرافة نفسية شهيرة وجدت لنفسها مكانا واسع الانتشار في تركيبتنا الثقافية، ويمكن فهم ذلك في إطار أن هذا التنفيس عن الغضب يحقق بالفعل نتائج جسدية وجيزة بعد الانتهاء منه مباشرة، لكن تلك الراحة التي تحصل عليها بعد تكسير غرفة نوم كاملة هي فقط راحة جسدك بعد بذل جهد عضلي، كذلك فإن الغضب، أي غضب، يتضاءل شيئا فشيئا مع الوقت، فيظن البعض أن ذلك كان نتيجة لعملية التنفيس عنه، سواء بالانفجار غاضبا في وجه الآخرين، أو لكم الوسائد، أو اللجوء -حتّى- إلى الرياضة تنفيسا عنه.

  

الحالة الوحيدة التي يمكن استثمار الغضب فيها هي مواجهة المشكلة، بمعنى آخر، لن يفيد أن تملأ الأجواء صراخا أمام أحدهم إلا في رفع درجات غضبك، لكنه سيفيد إذا أوضحت له المشكلة بشكل جاد وواضح قدر الإمكان كي يمتنع عن الإساءة لك مثلا، يمكن هنا أن نفهم قول أرسطو الشهير في كتابه "الخطابة": "يمكن لأي شخص أن يغضب، هذا سهل، ولكن أن تكون غاضبا من الشخص المناسب، بالدرجة المناسبة، وفي الوقت المناسب، للغرض المناسب، وبالطريقة الصحيحة، ليس في نطاق سلطة الجميع، وليس سهلا".