قد يكون دليلا لبراءة قاتل.. ماذا تعرف عن السير أثناء النوم؟
في ليلة الـ 24 من مايو/أيار عام 1987، كان كينيث باركس رب الأسرة البالغ من العمر 24 عاما يجلس أمام التلفاز في غرفة المعيشة غارقا في همه، يعاني من القلق والأرق الشديد بسبب مشكلاته المستعصية مع المقامرة وتبعاتها من بطالة ودين، حتى غلبه النعاس. [1] بعد بضع ساعات نهض باركس وارتدى حذاءه، ثم التقط مفاتيحه وغادر المنزل تاركا الباب مفتوحا على مصراعيه. ثم قاد سيارته لنحو 23 كيلومترا حتى وصل إلى منزل والدي زوجته في مدينة تورنتو، ركن باركس سيارته بلطف والتقط مفتاح الإطارات الحديدي من صندوق السيارة، ثم استخدام المفتاح الذي حصل عليه سابقا من حماه لدخول المنزل. [2]
توجه باركس مباشرة إلى غرفة النوم الرئيسية بالمنزل، وبدأ بخنق حماه حتى أفقده الوعي، وضرب حماته بمفتاح الإطارات على رأسها حتى نزفت، ثم استخدم سكين المطبخ لطعنها 6 طعنات متتالية بالكتف والصدر والقلب حتى أرداها قتيلة. ركض باركس إلى السيارة مسرعا، وقادها حتى وصل إلى أقرب مركز شرطة في 4.45 صباحا وهو مغطى بالدماء، قائلا: "أعتقد أنني قتلت شخصين للتو، لا أعرف ماذا حدث! يا إلهي! لقد قتلت شخصين بيدي العاريتين، لقد قتلتهم. لقد قتلت والدي زوجتي، طعنتهم وضربتهم حتى الموت. كل هذا خطأي". [3]
إن كنت تقرأ عن هذه القصة للمرة الأولى فلا داعي للتعجب، إذ إن حالة باركس ما هي إلا واحدة بين عشرات الحالات الأخرى المشابهة التي لا يوجد بينها أي عامل مشترك سوى السير أثناء النوم. يُعرّف السير أثناء النوم (السير النومي) على أنه اضطراب سلوكي يحدث أثناء النوم العميق، يمكن أن يستمر من عدة ثوانٍ حتى نصف ساعة أو أكثر، ويدفع الشخص إلى السير وأداء سلسلة من السلوكيات المعقدة الأخرى أثناء النوم، بدءا من الجلوس في السرير والتأمل في المكان المحيط به والمشي حول الغرفة أو المنزل والقيام بالأنشطة الروتينية مثل: ارتداء الملابس أو التحدث أو تناول الطعام.
وليس انتهاء بمغادرة المنزل وقيادة السيارة لمسافات طويلة والقيام بسلوكيات غير معتادة، أو حتى الانخراط في نشاط جنسي أو ارتكاب جريمة دون وعي. [1] فوفقا للمعاهد الوطنية للصحة ومؤسسة النوم الوطنية فإن السير أثناء النوم يحدث بشكل أكثر شيوعا عند الأطفال منه عند البالغين، ولا سيما أولئك الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و12 عاما، إذ يقدَّر معدل انتشار نوبات السير النومي عند الأطفال بنحو 40%، أي إن ما يتراوح بين 2% و3% من الأطفال يسيرون أثناء نومهم أكثر من مرة شهريا. [2]
رغم أن السير النومي أكثر شيوعا عند الأطفال فإنه آخذٌ في الارتفاع بين صفوف البالغين والكبار عكس المألوف، فيقول موريس أوهايون أستاذ الطب النفسي والعلوم السلوكية في مركز ستانفورد لطب النوم: "أود أن أصحح الانطباع السائد بأن السير أثناء النوم نادر بين البالغين، إذ إنه بات أكثر انتشارا مما كان مقدرا في السابق، حيث يؤثر على ما يُقدّر بنحو 4% من البالغين، وهذا عدد هائل من الناس". [3] [4]
تقسّم الأكاديمية الأميركية لطب النوم عملية النوم إلى حالتين رئيسيتين هما نوم حركة العين السريعة، ونوم حركة العين غير السريعة التي تنقسم غالبا إلى 3 مراحل تتدرج تصاعديا في العمق، كل حالة منهما تنظّم من قِبل جزء مختلف في الدماغ، والفرق بين الحالتين عميق للغاية كالفرق بين النوم والتيقظ.[1] يمر الإنسان أثناء نومه بعدة دورات من الحالتين، فيقضي 50% من فترة نومه في المراحل الخفيفة من نوم حركة العين غير السريعة، وما بين 20 و25% في المرحلة العميقة منها، في حين تشكل الحالة الأولى ما يتراوح بين 20 و25% من فترة النوم الكلية.[2]
من المفارقات الساخرة أن السير أثناء النوم يحدث في مراحل النوم العميقة التي يفترض أن تكون أكثر هدوءًا من مراحل النوم الأخرى، لأن خلالها يندر حدوث الأحلام وتنعدم حركة العين وتقل فاعلية المؤثرات الصوتية والحركية المختلفة التى تسبب الاستيقاظ. ورغم الجهود المضنية التي يبذلها الباحثون والعلماء في سبيل الوصول إلى السبب الرئيسي لحدوث حالات السير أثناء النوم، فإنه لا يوجد سبب مؤكد حتى الآن. أفضل تكهنات العلماء تنص على أن السير أثناء النوم يحدث عندما يقفز الدماغ من دورة النوم العميقة إلى مرحلة الاستيقاظ مباشرة بدلًا من المرور بدورات النوم الطبيعية الأخرى التي تؤدي فى النهاية إلى الاستيقاظ، مما يجعل العقل أسيرا لمتاهة من النوم والاستيقاظ تعرف ظاهريًا بالسير أثناء النوم.[3]
السير أثناء النوم هو مقدار الوقت الذي يمضيه الناس في هذه المرحلة العميقة من النوم. [1] لذا من الطبيعي أن يساعد الحرمان من النوم والحمى والإرهاق المفرط والنوم المتقطع غير الفعال المصحوب بتوقف التنفس في زيادة احتمالات السير أثناء النوم. وليس من المفاجئ أيضا أن أدوية علاج الاضطرابات النفسية التي تؤثر على مراحل النوم العميقة كالمنوِّمات والمهدئات وبعض الأدوية الأخرى تسهم في حدوث السير النومي. [2] فبحسب الدراسة سالفة الذكر التي تمت في مركز ستانفورد لطب النوم، فإن السير أثناء النوم يرتبط ارتباطا إيجابيا بعدد من الاضطرابات العقلية مثل: الاكتئاب والإدمان على الكحول واضطراب الوسواس القهري.
تُعتبر العوامل الوراثية هي الأخرى من العوامل الجوهرية في حدوث السير أثناء النوم، فتنتشر حالات الإصابة بالسير النومي بين أفراد العائلة، وتكون أكثر شيوعا إذا كان أحد الوالدين أو كلاهما لديه تاريخ من الإصابة بهذا الاضطراب. فوفقا لإحدى الدراسات البحثية المنشورة في مجلة ذا لانسيت لطب الأعصاب (The Lancet Neurology) والتي تمت في مركز البحوث المتقدمة في طب النوم بمستشفى جامعة مونتريال التعليمي، فإن نحو 80% من البالغين المصابين باضطرابات السير أثناء النوم لديهم فرد واحد على الأقل من أفراد العائلة يعاني من الاضطراب نفسه. [3]
في كثير من الأحيان يكمن علاج نوبات السير أثناء النوم في تحسين جودة عملية النوم مع معالجة المسببات المعروفة التي قد تساهم في تطوير هذه الاضطرابات، فمثلا إذا كان الاضطراب ناجما عن تناول بعض الأدوية أو ناتجا عن الحرمان من النوم والنوم غير الجيد أو أحد اضطرابات النوم أو العوامل الأخرى كالتعب والإجهاد، حينها يكون الحل يسيرا بمعالجة السبب سواء كان مشكلات النوم أو جرعات الأدوية. [1]
قد يشمل علاج السير النومي لدى الأطفال والبالغين على حد سواء طريقة الاستيقاظ التوقعي أو الصحوة المجدولة، حيث يتم فيها إيقاظ الشخص المصاب قبل 15 دقيقة تقريبا من توقيت تعرضه لنوبات السير أثناء النوم، وإبقاؤه مستيقظا لبضع دقائق قبل أن يغفو مرة أخرى. يُعتبر التنويم المغناطيسي كذلك من طرق العلاج الكافية للسيطرة على الاضطراب في الكثير من الحالات، كذلك قد تكون العلاجات الدوائية مثل المسكنات المنومة أو مضادات الاكتئاب ذات فاعلية قوية في الحد من حدوث نوبات السير لدى بعض الأشخاص. [2]
تأتي بعد ذلك خطوة الحفاظ على إيقاع الساعة البيولوجية الخاصة بك عبر إنشاء نمط يومي منتظم لأوقات النوم والغفوة والتمسك به جيدا للحصول على القدر الكافي من النوم العميق وبالتبعية التخلص من حرمان النوم والسيطرة على نوبات السير. مع اتباع روتين يومي يحث على الاسترخاء والتخلص من التوتر والقلق من خلال ممارسة الأنشطة الهادئة المريحة للأعصاب كالقراءة والاستماع للموسيقى أو حل الألغاز والقيام بتمارين الاسترخاء والتأمل. [4]
إضافة إلى الخطوات السابقة، يجب التقليل من كمية السوائل التي تستهلكها في المساء مع تجنب تناول الكافيين والنيكوتين والمواد الكحولية خاصة بالقرب من وقت النوم، مع التأكد من الذهاب إلى الحمام قبل النوم، وتجنب التعرض لأي من مسببات التوتر والقلق، مع ممارسة الرياضة حتى ولو 20 دقيقة يوميا، والتعرض لأشعة الشمس وضوء النهار بشكل كافٍ يوميا لتعزيز إيقاع النوم الخاص بك.
في النهاية، رغم أن اضطراب السير أثناء النوم قد يُمثّل عائقا مخيفا للبعض يمنعهم من الاستمتاع بحياتهم، وقد يُمثّل تهديدا مقلقا كذلك للبعض الآخر يجعلهم أكثر خوفا على أطفالهم وأصدقائهم وأفراد عائلاتهم ممن يعانون من تلك النوبات، فإنه لا يوجد داعٍ حقيقي لهذا القلق، لأن خطوات التأقلم مع الاضطراب التي ذكرناها سابقا قادرة على الحد من الاضطراب والسيطرة عليه وعلى نتائجه، ناهيك بأن العلاجات المتاحة في الوقت الراهن ذات فاعلية قوية قادرة على تحجيم نوبات الاضطراب بل والتخلص منها شبه نهائيا.