شعار قسم ميدان

"Split".. لماذا تخطئ السينما في تقديم المرض العقلي؟

midan - رئيسية سلبت

في العام 2015 اكتشف مجموعة من الأطباء الألمان حالة غاية في الغرابة لسيدة(1) مصابة باضطراب تعدد الشخصية، المعروف الآن باسم "اضطراب الهوية التفارقي"، وفيه توجد شخصيتان أو أكثر بداخل نفس الإنسان، في هذه السيدة كانت مجموعة من الشخصيات الخاصة بها عمياء والأخرى مبصرة، حينما حاول الباحثون فحص مناطق المخ المسؤولة عن الإبصار وجدوا أنها غير نشطة في حالة الشخصيات العمياء، بينما تنشط فقط في حالة الشخصيات المبصرة!

 

لتحقيق فهم أفضل لطبيعة هذا النوع من الاضطراب سيكون من المهم أن ترجع إلى تقرير سابق للكاتب بعنوان(2) "العيش بوجهين.. ما الذي يقوله علم النفس عن تعدد الشخصيات؟"، نحن نعرف بالفعل أن تعدد الشخصيات يعني أن لكل واحدة منها أسلوب حديث، ولغة جسد، وسلوكا، ومشاعر مختلفة، ليس ذلك فقط بل قد تكون للشخصيات المتعددة أعمار مختلفة فيكون أحدهم صغيرا في السن أو قد تكون إحدى الشخصيات ذكرا والأخرى أنثى، لكن السؤال الذي تطرحه هذه الحالة هو: هل اضطراب الهوية التفارقي بهذه الغرابة؟

 

50 درجة للهوس

نعم، بدرجة ما، وهو أحد أكثر الاضطرابات النفسية لفتا لانتباه العلماء، والمخرجين كذلك، في الحقيقة يمكن القول إن كلًّا من "السيكوباتية" و"اضطراب الهوية التفارقي" قد نالا شهرة واسعة فقط بسبب السينما، لكن على الرغم من ذلك، نقلت السينما لنا صورة خاطئة تماما عن هذا الاضطراب، في تلك النقطة يمكن أن نبدأ من فيلم(3) "مي ماي سيلف آند آيرين" (Me, Myself & Irene) الصادر في العام 2000، من إخراج بيتر فالي وبوبي فارلي. شارلي، بطل الفيلم الذي يلعب دوره "جيم كاري" هو جندي مصاب باضطراب الهوية التفارقي، إحدى شخصيات شارلي طيّبة إلى أقصى حد، هادئة، تتجنب المواجهات المباشرة، في مقابل شخصية أخرى -"هانك"- تقف على النقيض تماما، فهي مغرورة فوضوية لا تحسب نتائج أفعالها، يبدأ تبادل الشخصيات حينما ينسى شارلي أن يأخذ دواء الفصام الخاص به، فيظهر هانك من حين لآخر بسبب ذلك.

 

     

حسنا، ذلك هو الخطأ الأول في فهم "اضطراب الهوية التفارقي"، فهو لا يتعلق(4)بمرض الفصام (schizophrenia)، في حالات الفصام هناك أعراض كالأوهام (Delusions)، وهي مجموعة من المعتقدات الخاطئة، كأن يعتقد أحد الأشخاص أن شخصا ما يتجسس عليه أو أن شريك الحياة يخونه، ويكون متأكدا من ذلك رغم عدم وجود دليل عليه، من جهة أخرى فالفصام يتميز بوجود الهلاوس (Hallucinations) وهي أن يرى الشخص أو يسمع أو يشم رائحة أشياء ليست موجودة، في بعض حالات اضطراب الهوية التفارقي يمكن للمريض أن يسمع أصواتا لكنه يكون متأكدا أنها غير حقيقية، على عكس حالات الفصام.

 

في الحقيقة فإن نقطة الخطأ في الفهم ربما ليست ذلك الخلط بين اصطلاحات "الانفصال عن الواقع" في حالة تعدد الشخصيات و"فقدان البصيرة" في حالة الفصام، لكن ربما لأن هذه التركيبة لافتة للمخرج، كون الشخصية مصابة بالفصام يعطيها بُعدا مُرعبا، بمعنى أنه لا يمكن توقّع أفعالها. في تلك النقطة يمكن أن تتأمل أفلاما كـ "بيوتيفل مايند" (a Beautiful Mind) في العام 2001، أو "هيريديتاري" (hereditary)، في العام 2018، ويعرض الأخير لحالة ممتزجة من الرعب مع صورة متطرفة للغاية من أعراض الفصام.

 

هذا المكوّن الفصامي ضروري بالنسبة لصنّاع السينما كي يتمكنوا من التعبير عن كامل رغباتهم في خلق الشخصية التي يريدونها، والتي دائما ما تأتي في صورة (الطيب ضد الشرير) داخل نفس الشخص، إنها "قضية الدكتور جيكل والسيد هايد الغريبة"، الرواية الأشهر لروبرت لويس ستيفنسون والتي صدرت قبل نحو قرن ونصف، هنا يكون إضافة جانب فصامي هلاوسي ضلالاتي للجزء الشرير من الشخصية، مع هذا التناقض بين الشخصيتين، هو فرصة ثرية تُمكّن الكاتب والمخرج من تشكيل الفيلم بدرجة أكبر من المرونة. لكن حتّى هذه الفكرة، عن الثنائي (طيّب مقابل شرّير)، تلك التي تسببت الأفلام في رواجها بين الناس عن "اضطراب الهوية التفارقي"، خاطئة أيضا.

 

ذلك لأن المصابين باضطراب الهوية التفارقي هم أشخاص طبيعيون من ناحية العنف(5)، بمعنى أن الشخصيات الإضافية نادرا ما تكون عنيفة، على العكس تماما فإن المصابين بهذا الاضطراب أكثر عرضة للاضطهاد والاستغلال من عموم الناس، وغالبا ما ترتبط الشخصيات المتعددة -بشكل أكبر- بحادثة طفولة قاسية، السبب الرئيسي للإصابة باضطراب الهوية التفارقي هو بالأساس استغلال أو اضطهاد جسدي أو نفسي أو جنسي قاسٍ في فترة الطفولة، خاصة في أجواء لا يمكن للطفل الهرب منها، الآن قارن ذلك مع ما يظهر في أفلام السينما.

 

    

أفكار خاطئة، وعنيفة

فارق شاسع لا شك، في الحقيقة يمكن القول إن فيلما واحدا هو ما يقترب(6) من حقيقة المصابين بهذا الاضطراب، إنه "سيبيل" (Sybil) الفيلم التليفزيوني الصادر سنة 1976 والذي يحكي دراميا تفاصيل قصة حقيقية بطلتها مريضة اضطراب هوية تفارقي تُدعى شيرلي أرديل مايسون، يهتم الفيلم بشكل رئيسي بالآلية التي يستخدمها الطبيب في علاج "سيبل"، المريضة التي تمتلك 16 شخصية مختلفة، أما في أفلام كـ "فايت كلوب" (Fight Club) أو "هالك" (Hulk) فيبدو لنا واضحا قدر الخلط بين الفصام واضطراب الهوية المعرفية، لإضفاء أجواء أكثر اشتعالا للشخصيات كذلك يبدو واضحا زرع الفكرة القائلة بأن الوجوه الأخرى للشخصية يجب أن تكون دائما عنيفة أو تقف على النقيض تماما من الشخصية الأساسية للمريض.

 

من جهة أخرى فإن أحد الأخطاء الشهيرة في الفهم، تلك التي تسببت فيها السينما، بالنسبة لاضطراب الهوية التفارقي، بسبب دفعها لتلك الثنائية (طيّب/شرير)، هي تصوّر البعض أن هناك انفصالا تاما(7) بين الشخصيات في نفس الإنسان، الأمر في الحقيقة يحدث بطريقة تبدو كذلك، لكن دعنا نتعامل معها كحالات متعددة للذات نفسها، قد تكون مكتئبا في بعض الأحيان، أو تشعر بالعظمة، أو تتشكك قليلا، أو تكون حزينا، من خلال وجهة نظر كل من تلك الحالات يمكن أن تعبر عن ذاتك، لو حدث واستمعت إلى أغنية ما فسوف تراها مختلفة في كل مرة، في حالة تعدد الشخصيات يحدث شيء شبيه، لكن بصورة أكثر قسوة، ولفترات أطول في الزمن، وبدرجة واسعة من الانفصال عن ذكريات الحالة السابقة.

 

أما في فيلم "سبليت" (Split)، الصادر قبل أقل من عام، فإن إم. نايت شيامالان، مؤلف ومخرج الفيلم، كان على دراية واضحة بأنه ينقل عمله الفنّي من مجرد فيلم رعب يستخدم اضطراب الهوية التفارقي إلى إعلان لميلاد شرير خارق جديد، تواصل شيامالان(8) مع بيثاني براند، أستاذة علم النفس الإكلينيكي من جامعة "تاوسون"، في العام 2015، من أجل الحصول على مجموعة من المعلومات الدقيقة عن المرض، ثم انطلق لنسج بطله، الذي سيلعبه بحرفية جيمس مكافوي، والذي يمتلك 23 شخصية تتجهز لظهور شخصية الشرير رقم 24، في الحقيقة فإن متوسط(9) عدد الشخصيات للحالة الواحدة يصل إلى 12 شخصية، رغم ذلك فقد سُجلت حالات نادرة جدا بها 100 شخصية.

 

يعتبر "سبليت" نموذجا مثاليا يوضح المشكلة التي يواجهها المرض النفسي مع السينما، حيث يميل صنّاع الأفلام إلى المبالغة في تكبير حجم وتأثير الأعراض الخاصة بالمرض، في مقابل حالة أكثر هدوءا في أرض الواقع. على سبيل المثال، فإن اضطراب الهوية التفارقي يحتاج إلى فترة قد تصل إلى سبع سنوات، في المتوسّط، حتّى يتم اكتشافه من قِبل الأطباء الذين يعالجون المريض، بسبب خفوتها وتداخلها.

 

    

لذلك فإن تلك القفزات المفاجئة من شخصية "دينيس" إلى "باتريشا" إلى "هيدويج" الطفل ذي السنوات التسع، تظهر في "سبليت" بصورة مبالغ فيها في كل شخصية، يتنقل المرضى الحقيقيون بين الشخصيات بسرعة في بعض الأحيان، وببطء في أحيان أخرى، لكن دعنا هنا نوضح أن العلاج، وهو نفسي في معظم الأحوال، يتضمن أن يتمكن المريض من تحقيق فصل واضح بين الشخصيات ليتمكّن بسهولة من التكيّف مع المرض، وليس العكس، كما رأينا في "فايت كلوب" (Fight Club) مثلا، بالتخلّص من الشخصية الإضافية.

 

وصمة عار من أجل الأوسكار!

حينما نسأل: لِمَ تُقدّم الأمراض النفسية، اضطراب الهوية التفارقي بشكل خاص هنا، بتلك الحالة من المبالغة في السينما؟ فإن الأسباب واضحة، بالنسبة للمخرج أو المؤلف هناك فرصة جيدة جدا للتلاعب بتنوع الشخصيات ومناسبتها للمواقف، درجة غرابة الشخصية تخدم بشكل جيد في هذا النطاق كما تحدثنا منذ قليل عن دور الفصام، كذلك فإن هذا التنقل بين الشخصيات يساعد بدرجة من السهولة في تنويع حالة الفيلم وإضفاء لحظات درامية، لكن الأهم هو قدرة هذا النمط من الاضطرابات على تسهيل خلق اللحظات الفارقة في العمل السينمائي، تلك التي تكتشف فيها أن بطل الفيلم، على سبيل المثال، هو الشرير الذي كان يفعل كذا وكذا وكذا، وأن الطيّب الحقيقي هو شخص كنت تظنه لا يهم.

 

كذلك فإن هذا النوع من الأدوار يجذب الممثلين،(10) لأنها، بشكل ما، تُعد أدوارا إبداعية يمكن أن يفجر الممثل طاقاته خلالها ويحصل على الجوائز، وبالفعل لاقى ماكفوي إعجاب النقاد في "سبليت"، كذلك فاز جوان وودوارد بجائزة الأوسكار عن فيلم "ذا ثري فايسس أوف إيف" (The Three Faces of Eve)، ورونالد كولمان فاز كذلك بجائزة الأوسكار عن فيلم "دوبل لايف" (A Double Life)، في حين تم منح سالي فيلد جائزة إيمي عن فيلم "سيبيل".

 

في المقابل من ذلك كله، هناك كارثة واحدة لا يمكن الاستهانة بها، على سبيل المثال كانت الدكتورة جاريت ماري ديكل، متخصصة الأمراض النفسية، قد ألمحت قبل عدة أشهر، في خبر لقي انتباها كبيرا من وسائل الإعلام(11) في الوقت نفسه الذي اشتعلت فيه حملة الترويج لفيلم "سبليت"، إلى رسالة عبر البريد الإلكتروني جاءتها من مريض لها مصاب باضطراب الهوية التفارقي يقول فيها، قبل أن يرى الفيلم: "هناك فيلم جديد عن اضطراب الهوية التفارقي، وهو فيلم رعب وإثارة، هل أتسبب لكِ في الرعب؟".

   

تثبّت الأفلام في أذهان الناس الاعتقاد الخاطئ بأن الذين يغادرون مستشفيات الأمراض العقلية هم أناس عنيفون وخطيرون
تثبّت الأفلام في أذهان الناس الاعتقاد الخاطئ بأن الذين يغادرون مستشفيات الأمراض العقلية هم أناس عنيفون وخطيرون
  

يشرح سيمون ريندر، أستاذ علم الأعصاب من كلية لندن الجامعية، تلك المشكلة في حوار له مع الغارديان حينما يقول(12): "في الأفلام، يبدون كما لو أن المرضى الذين يعانون من اضطراب الهوية التفارقي هم أشخاص عنيفون للغاية وعرضة لارتكاب أفعال سيئة، هذا في الواقع غير صحيح، وهو يسيء إليهم بدرجة كبيرة"، ثم يستكمل بعد قليل، معلقا على فيلم "سبليت": "على العكس تماما، من المؤكد أن الأفراد المصابين بهذا الاضطراب أكثر ميلا لإخفاء مشاكلهم العقلية بدلا من إظهارها في صورة مسيئة أو عنيفة، أنا قلق للغاية بشأن أثر الفيلم على المرضى، والطريقة التي يرى بها عامة الناس هذا المرض"، ويقصد ريندر أن الناس، بسبب الفيلم، ربما سيكونون أكثر تشككا تجاه من يعرفونهم من مرضى اضطراب الهوية التفارقي، وأكثر وصما لهم كذلك!

 

أمّا داني ويدنج، الطبيب النفسي الأميركي، في كتابه "الأفلام والمرض العقلي"، فيقول(13) إن أفلاما مثل "سايكو" (Psycho) لهيتشكوك، تصنع ارتباكا كبيرا في تحديد العلاقة بين الفصام واضطراب الهوية التفارقي، على سبيل المثال. يضيف ويدنج أن أفلاما كـ "13th الجمعة" (Friday the 13th) (1980) و" كابوس في شارع إلم" (A Nightmare On Elm Street) (1984) تثبّت في أذهان الناس الاعتقاد الخاطئ بأن الذين يغادرون مستشفيات الأمراض العقلية هم أناس عنيفون وخطيرون، من جهة أخرى فإن أفلاما كـ "أحدهم طار فوق عش الوقواق" (One Flew Over the Cuckoo’s Nest) (1975) تعطي انطباعا أن مستشفيات الأمراض النفسية هي ببساطة سجون لا يوجد فيها أي احترام لحقوق المريض. هذه الأفلام -بحد تعبير ويدنج- تمثل وصمة عار مستمرة للمرض العقلي.

 

هل نمنع هذه الإهانة للمرضى مستقبلا؟ أم أن ذلك سيُعدّ تقويضا للعمل الفنّي الذي لا يلتزم، أو لا يهتم بالالتزام، حسب طبيعته، بالحقائق الموضوعية الطبية؟ في كل الأحوال فإن الجدل ما زال دائرا في الأوساط العلمية، والفنية، والقانونية كذلك، من أجل الوصول إلى حلول نهائية لتلك المشكلات الكارثية، التي ربما قد تعتبرها مبالغة، لكنك فقط لست قريبا من أحد المرضى النفسيين لتفهم شكل المعاناة التي يواجهها هو أو أهله. إلى ذلك الحين، سيظل اضطراب الهوية التفارقي هو المفرخة الرئيسية لأبشع أبطال السينما على الإطلاق!

المصدر : الجزيرة