لا شك أن أهم وأروع حدث فلكي في العام 2019 بالنسبة للجزيرة العربية، وربما على مدى عقود قادمة، سيكون كسوف الشمس الذي ستشهده في يوم 26 ديسمبر/كانون الأول القادم، سوف تشرق الشمس صباحا وجسمها مغطى بالقمر عدا حوافها التي ستظهر كأنها خاتم من النور، في هذه الحالة نحن أمام ظاهرة بديعة تُسمى بـ "الكسوف الحلقي".

        

     

الكسوف هو ظاهرة طبيعية تحدث حينما يمر القمر أمام الشمس، لفهم الفكرة ضع مصباحا كبيرا في منتصف حجرتك وأغلق باقي الأضواء، الآن دُر بكرة تنس أرضي أمام هذا المصباح على مسافة مترين مثلا، حينما تمر الكرة بينك وبين المصباح فإنها تمنع ضوء المصباح من المرور إليك، هذا هو الكسوف (Solar Eclipse)؛ أما حينما تعطي ظهرك للمصباح وتمر كرة التنس الأرضي في الظل الممتد أمامك، بسبب جسمك، فهذا هو الخسوف (Lunar Eclipse)، الآن ضع الشمس مكان المصباح، والأرض مكانك، وستكون كرة التنس الأرضي هي القمر.

  

الشمس نجم عملاق، وهو عملاق لدرجة أنه يمكن لنا أن نضع بداخله مليونا و300 ألف بلية بحجم الأرض، لكنه بعيد جدا بحيث يبدو في السماء بمساحة القمر نفسها تقريبا، فما إن يمر القمر أمام الشمس حتى تظلم الدنيا كأننا بالليل، وتظهر النجوم الواقعة في خلفية الشمس، هناك ثلاثة أنواع للكسوف، فإما أن يكون كاملا أو حلقيا أو جزئيا، في ديسمبر/كانون الأول 2019 سيرى معظم سكان الجزيرة العربية نوعين منهما، الحلقي والجزئي.

    

   

لكن لفهم طبيعة ما يحدث في كلٍّ منهما لا بد أنك تتساءل الآن قائلا: إذا كان الكسوف يحدث كلما مر القمر أمام الأرض، ونحن نعرف أن القمر يدور حول الأرض مرة كل شهر، لماذا -إذن- لا تحدث أيٌّ من تلك الظواهر كل شهر؟ سؤال جيد، يحدث ذلك لأن القمر لا يدور في المستوى نفسه الذي يضم الأرض والشمس معا، بل ينفصل بنحو الـ 5 درجات للأعلى أو للأسفل، يشبه الأمر أن تُمسك بطائرة صغيرة تدور بها حول كرة قدم بمستوى مائل، فترتفع قليلا عن مستوى الدوران ثم لا تلبث أن تنخفض قليلا أثناء دورتها حول الكرة.

  

هذا هو بالضبط ما يحدث أثناء دوران القمر حول الأرض، فهو يعلو قليلا عن مستوى مداره ليبلغ أقصى ارتفاع ممكنا، ثم بعد ذلك ينخفض مرة أخرى ليتقاطع مع مستوى الأرض والشمس في نقطة نسميها بالعقدة النازلة (Descending Node)، ثم يبلغ أقصى انخفاض له، ثم يرتفع من جديد ليقطع مستوى الأرض والشمس في نقطة نسميها بالعقدة الصاعدة (Ascending Node)، وهكذا يستمر القمر في الدوران حول الأرض صعودا ونزولا.

       

    

يحدث الكسوف، فقط، حينما يكون كلٌّ من الشمس والقمر والأرض في الخط نفسه، وبالتالي سنتوقّع أن يحدث ذلك فقط في الحالات التي يكون القمر أثناءها في العقدة الصاعدة أو النازلة، وبما أن وجود القمر في العقدتين هو حالة لا تتكرر كثيرا، فإن الكسوف كذلك لا يتكرر كثيرا، أضف أن ميل الأرض بقيمة 23.4 درجة يضيف للأمر فرصة أكبر للتنوع، لأن الكسوف قد يوجد في أماكن دون غيرها على سطح الأرض، بحسب موعده.

   

الآن دعنا نتعلّم قليلا عن طبيعة الكسوف الحلقي، حيث نعرف أن القمر، وأي جسم آخر في الكون، لا يدور في دائرة تامة حول الأرض، بل يشبه مداره الشكل البيضاوي، يقترب منها في بعض الأحيان (الحضيض)، ويبتعد عنها في بعض الأحيان (الأوج)، وحينما يحدث الكسوف في حالة الأوج فإن مساحة القمر في السماء تكون أصغر قليلا من الشمس، فتُبقي حواف الشمس الخارجية ظاهرة أثناء الكسوف لنرى مشهدا بديعا، ولو حدث الكسوف في حالة وجود القمر في الحضيض أو حوله، فإنه يكون كُليًّا.

   

لكن في بعض الأماكن فإن الكسوف لا يظهر كُليًّا ولا حلقيًّا وإنما جزئي، لفهم الفكرة دعنا نرجع إلى تجربة كرة التنس الأخيرة، في اللحظة التي تُغطي فيها كرة التنس المصباح حرّك رأسك مسافة صغيرة جدا لليمين أو اليسار، هنا سيظهر لك المصباح جزئيا، هكذا يحدث الأمر نفسه على الأرض، مواطن في قطر يقف تماما على الخط الواصل بين الشمس والقمر، لكنّ مواطنا في السعودية يبتعد قليلا إلى اليسار فيرى جزءا من الشمس أثناء الكسوف.

   

   

جميل جدا، انتهينا من الجزء النظري وبقي أن نتحدث بدرجة من التفصيل عن كيفية رصد تلك الظاهرة الممتعة بعينيك المجردتين، سيتمكّن سكّان قطر، والإمارات العربية المتحدة، وعمان، والبحرين، وبعض الأجزاء من جنوب السعودية (تأمل الخارطة المرفقة) من رصد الكسوف الحلقي بصورة كاملة، وسيُرى الكسوف بشكل جزئي في باقي أجزاء السعودية، والعراق، واليمن وبعض أجزاء السودان والصومال.

  

يبدأ الحدث الفلكي في تمام الساعة 05:35 صباحا بتوقيت الدوحة، حيث يبدأ القمر في الدخول أمام جسم الشمس شيئا فشيئا، يظهر الأمر وكأن جسم الشمس قد بدأ في التآكل وكأن ظلا دائريا يمر أمامه، ويستمر الأمر هكذا حتى يصل الكسوف لذروته، أي لحظة تغطية القمر للشمس بحيث تبقى فقط أطراف الشمس ظاهرة كأنما هي حلقة منيرة.

       

     

يحدث ذلك في تمام الساعة 06:36 (بالنسبة لدولة قطر مثلا فإن الشروق يكون قبلها بنحو 20 دقيقة، ما يعني أن الكسوف سيكون مع الشروق)، تستمر الذروة مسافة 220 ثانية فقط، ثم يخرج القمر شيئا فشيئا من الصورة، في مشهد معكوس لما حدث في بداية الأمر، يستمر ذلك وصولا إلى الساعة 07:50 صباحا، حيث ينتهي الكسوف تماما.

  

بالنسبة لتأمل الظاهرة، فأنت لا تحتاج إلى أي أدوات فلكية معقدة كالتلسكوبات أو النظارات المعظمة، لكنك ستحتاج لا شك إلى "نظارة للكسوف"، غالبا ما ستجدها بالمكتبات الكبيرة في دولتك، وغالبا ما ستعمل المؤسسات المسؤولة عن توعية الناس بالأحداث العلمية على توفيرها مجانا، في كل الأحوال لا يمكن أن تطيل النظر إلى الشمس بعينيك المجردتين، قد يكون ذلك مؤذيا جدا لها.

      

        

في تلك النقطة دعنا نبدأ بالتحذيرات، إذ يظن الناس أنه يمكن استخدام نظارة الشمس أو تلك الملفات البلاستيكية التي تُستخدم في التقاط صور الأشعة السينية في المستشفيات أو أي شيء شبيه قد يُغني عن نظارة الكسوف، لكنّ ذلك غير صحيح، لأن تلك الأشياء لا تحوي فلاتر تحميك من الأشعة فوق البنفسجية الضارة، لذلك يجب أن تلتزم بالحصول على الأدوات المسموح بها.

  

من جهة أخرى يمكن لك رصد الكسوف عبر التلسكوب أو النظارة المعظمة، وهناك طريقتان لذلك، فإما أن تستخدم "فلترا شمسيا" خاصا تحصل عليه من أسواق الأدوات العلمية أو المكتبات، أو يمكن لك فقط أن توجّه التلسكوب إلى الشمس ثم لا تنظر إليه مباشرة، بل فقط تضع ورقة بيضاء أمام عدسته العينية فترى صورة للكسوف عليها، وكأن تلك الورقة هي عيناك.

   

كسوف الشمس هو ظاهرة آمنة تماما إذا استخدمت الأدوات المناسبة، لا تضر بجسمك، ولا تتسبب في حدوث اكتئاب، أو زلازل، أو براكين، أو حروب، أو خروج الزومبي من أوكارهم، أو نهاية العالم، أو أي شيء من تلك الشائعات التي سوف تنتشر في الأيام المجاورة للكسوف، فقط جهّز نفسك لظاهرة ممتعة، ولا تهتم لأكثر من ذلك، ويمكن -إن أحببت- أن تستخدم الظاهرة كفرصة لدعم حب أطفالك لعلم الفلك والقراءة عنه، وما أكثر الكتب التي تتحدث للأطفال عن ظواهر كتلك في المكتبات العامة، ويمكن أن تبحث في يوتيوب عن نشاطات عملية منزلية لشرح الكسوف لأطفالك.

      

   

الظواهر الفلكية كالخسوف والكسوف وزخّات الشهب، وغيرها، هي عرض سماوي مجاني، سينما تفتح أبوابها للبشر كل يوم، لكننا للأسف نغض أبصارنا عنها، أو ننساها بينما نعيش عالما مزدحما، محترًّا، مسكونا بالتقارير الفصلية والشيكات الشهرية والخطوط الحمراء للتسليم والخلافات الشديدة بيننا في المواصلات العامة أو وسائل التواصل الاجتماعي حول لا شيء، اترك كل ذلك جانبا للحظة، سوف يكون من الممتع والملهم حقا أن تجمع العائلة أو الأصدقاء والأحبة لمتابعة واحد من أروع المشاهد في صباح يوم 26 ديسمبر/كانون الأول القادم.