شعار قسم ميدان

لأن القراءة لطفلك ليست مجرد رفاهية

ميدان - القراءة للأطفال

"أمي، هل يمكن أن أشاهد التلفاز لعشر دقائق فقط؟"، تقول فتاة صغيرة لم تتخط بعد حاجز السنوات الست من عمرها، فتجيب الأم بالرفض، لكن الصغيرة الذكية لا تتوقف عن الطلب، بل تتقدم بعرض جديد يتضمن تسع دقائق فقط، وهنا ترفض الأم أيضا. بعد ذلك تفكّر الطفلة قليلا، ثم تقرر أن تغيّر من إستراتيجياتها بعد أن توقّعت، مع تأمل وجه الأم، رفضا مشابها لعرض الدقائق الثمانية، فتقول: "طيّب، هل يمكن أن أجلس لألعب قليلا بالهاتف الذّكي؟"، هنا سوف توافق الأم على هذا الطلب، الهاتف الذكي سيلهي الطفلة قليلا كي تتمكن الأم من ترتيب المنزل بهدوء.

   

لكن، بالنسبة للأم، ما الفارق بين الهاتف الذكي والتلفاز؟ في الواقع، لا يوجد أي فارق، يظن الناس أن الهواتف الذكية شيء مفيد، ويتركون أبناءهم في سن صغيرة جدا، نتحدث هنا عن 6 إلى 12 شهرا، مع الهاتف الذكي لساعات طويلة ظنا أنه يعلّمهم شيئا ما، لكنه لا يفعل، ببساطة لأن الأضواء والحركات الملونة تشتت انتباه الطفل، فلا يركز بشكل كافٍ مع ما هو معروض في التطبيق، في أثناء ذلك كله يفوّت الآباء والأمهات فرصة ذهبية على أطفالهم.

   

مليون ونصف كلمة

undefined

  

في دراسة(1) جديدة، نُشرت فقط قبل عدة أيّام، حاول فريق بحثي من جامعة أوهايو أن يتساءل عن التأثير الذي يمكن أن تسببه القراءة في حياة الأطفال في سن صغيرة جدا، لكن هذا الفارق يبدأ من نقطة مهمة، وهي عدد الكلمات التي يمكن أن يستمع إليها الطفل في الفترة بين ولادته إلى تلك اللحظة التي يصل فيها إلى سن الروضة، لأن معدل استماع الطفل للمفردات اللغوية يؤثر في تطوير المهارات اللغوية لاحقا، وهو ما قد يساعد على تطوير قدراتهم الإدراكية، وهو ما قد يؤثر بدوره على مستقبلهم.

  

في حوارها مع "ميدان"، تقول جيسيكا لوجان(2)، متخصصة علم النفس من قسم الدراسات التعليمية بجامعة أوهايو: "إن الأطفال الذين يتعرضون لكلمات أكثر اختلافا ولغة أكثر تعقيدا من المرجح أن يصلوا إلى مرحلة رياض الأطفال على استعداد لتعلم القراءة والتقاط تلك المهارات بسرعة أكبر"، في إشارة إلى الدور المهم الممكن للقراءة حينما تبدأ مع الطفل في سن صغيرة جدا، والذي يمكن، بحسب الكثير من الدراسات في هذا المجال، والإجماع العلمي القائم فيه، أن يمتد إلى ما هو أكثر أهمية من ذلك.

  

كانت الفكرة البسيطة لهذا البحث الجديد هي جمع قائمتين بالكتب الأكثر مبيعا للأطفال في مراحل عمرية مختلفة بداية من الولادة وصولا إلى مرحلة الحضانة، سواء كانت الكتب المصورة التي تقدم الكلمات والجمل الأولى مع صور، أو الكتب اللوحية التي تقدم الكلمات مع تصميم بارز يمكن لمسه، بعد ذلك قام الفريق البحثي باختيار عشوائي لثلاثين كتابا من كل فئة، ثم حساب عدد الكلمات في كلٍّ منها، مع مراعاة مناسبة الكتب وعدد الكلمات مع سن الطفل بداية من العام الأول.

    undefined

  

هنا جاءت النتائج لتقول إنه، بافتراض أن الأبوين يقومان بقراءة خمسة كتب يوميا للطفل، يمكن أن يسمع الطفل بمعدل مليون وخمسمئة ألف مفردة لغوية أكثر من أقرانه الذين لم يقرأ الآباء لهم، وهنا نقصد كتب الأطفال البسيطة، والتي يمكن بالفعل أن يقرأ الأبوان خمسة منها في اليوم للطفل، لكن إن كان الطفل يقرأ كتابا واحدا فقط في اليوم، فإنه يدخل إلى الحضانة وقد استمع إلى مفردات لغوية بمعدل أكبر بقيمة 300 ألف مرة أكثر من أقرانه. بالطبع هناك فارق أساسي بين أن تتحدث مع الطفل وأن تقرأ له.

  

توضح لوجان تلك النقطة المهمة، في أثناء حديثها مع "ميدان"، قائلة: "نعلم أن الكتب تحتوي على مخزون مفردات أكثر عمقا مقارنة بالكلام التواصلي. بمعنى آخر، أنواع الكلمات وأنواع الجمل التي يسمعها الأطفال أثناء قراءة الكتب أكثر تعقيدا من تلك التي يميلون إلى سماعها أثناء التواصل"، وتضيف لوجان أن التواصل مع الأطفال يكون مدفوعا ثقافيا، وهو بذلك يكون محدودا حتّى نقطة معينة (تعبيرات كـ "لا تضرب" ، "اجلس"، "اجلب الكأس"). وهذا بدوره يختلف تماما عن الكتب التي تحتوي على جمل أطول وتتعلق بجميع أنواع الموضوعات المختلفة. أضف إلى ذلك أنه، في كتب الأطفال، سوف تسمع مرادفات للكلمة نفسها في سياقات مختلفة، وهو ما يُثري محتوى الأطفال اللغوي بصورة استثنائية.

  

تلك النتائج(3) غير المتوقعة لا بد أن تدفعنا إلى تساؤل مهم: هل حقا من المفيد للأطفال أن يقرأ الأبوان لهم في سن صغيرة جدا؟ والإجابة هي "نعم"، يمكن مثلا أن نتأمل تلك الدراسة التي صدرت فقط قبل عامين من الأكاديمية الأميركية لطب الأطفال والتي تقول(4) إنه مع متابعة مجموعة من 250 زوجا من الأطفال، من سِن ستة أشهر إلى أربع سنوات، وجدت النتائج أن القراءة للأطفال، في سن صغيرة جدا، حتّى لو بدا أن الطفل لا يفهم أو يهتم، تؤثر بقوة في قدراتهم اللغوية ومهارات القراءة الخاصة بهم في سنوات الحضانة والمدرسة.

  

القراءة للفقراء

undefined

  

من جهة أخرى، وبينما كان جون جابرييل، من معهد "إم آي تي" (MIT)، يحاول فحص تأثر الطبقات الاجتماعية والاقتصادية المختلفة ببرامج القراءة، حينما قام بإخضاع مجموعة من الأطفال (في الأعمار 6-9 سنوات) لبرنامج قراءة مكثّف (4 ساعات يوميا/ 5 أيام بالأسبوع/ مدة 6 أسابيع) وقياس التغيرات الحاصلة في أدمغتهم قبل وبعد هذا البرنامج، جاءت النتائج(5) لتقول إن مناطق في القشرة المخية أصبحت أكثر سماكة بعد البرنامج التدريبي، لكن الملاحظة الأكثر أهمية كانت أن هؤلاء القادمين من خلفيات فقيرة كانوا أكثر استجابة للبرنامج وتأثرا بنتائجه من رفاقهم القادمين من طبقة ذات مستوى اقتصادي واجتماعي أعلى، علما بأن المجموعة الأخيرة جاءت للبرنامج بقدرات عالية من الأساس، ما يعني تأثيرا قويا للقراءة في سن صغيرة.  

  

في تلك النقطة الحرجة توضح لوجان، في أثناء حديثها مع "ميدان"، أن البحث خلف إمكانية أن تؤثر القراءة في تطوير الطبقات الفقيرة هو "سؤال صعب للغاية، ونحاول جميعا، بحماس، فهمه بشكل أفضل". وتضيف قائلة إنه: "على الرغم من أننا نعتقد أن القراءة رائعة ويمكن أن تكون نشاطا ممتعا للعائلات، وصحيح أن العديد من التدخلات يمكن أن توفر الدعم للطلاب من خلفيات اجتماعية واقتصادية أقل، فإن القراءة ليست حبة سحرية تعمل على حل التباين بين مجموعات الأطفال التي تستند إلى سنوات، إن لم يكن إلى أجيال، من عدم المساواة داخل الأنظمة المحلية أو الحكومية".

  

وتعني لوجان أن الأمر، على فائدته الجمة، أعقد من ذلك. فالعائلات التي تعيش في طبقات اجتماعية اقتصادية منخفضة سيكون لديها الكثير من الضغوط والمتطلبات الأكثر ثقلا، في الوقت نفسه لا يعاني الآباء من خلفيات اجتماعية واقتصادية أعلى من تلك الضغوط. لكنها توضح كذلك أن المكتبات والوكالات المختصة بإعانة الأطفال توفر فرصا للأطفال من هذه الخلفيات للقراءة بانتظام مع البالغين، وهذه خدمة ممتازة ولها أثر قوي، خاصة عندما يكون من السهل نسبيا على الآباء التواصل مع تلك المنظمات وعندما لا يحتاج الطفل إلى الكثير من السفر.

  

أدمغة الأطفال المرنة

undefined

  

وفي مجموعة أخرى من التجارب، بمستشفى الأطفال الرئيسي بولاية سينسيناتي الأميركية، قام الفريق البحثي، عبر الرنين المغناطيسي الوظيفي، بفحص(6) أدمغة مجموعة من الأطفال، من ثلاث إلى خمس سنوات، أثناء استماعهم لمجموعة من القصص، أمكن ملاحظة نشاط واضح في الجانب الأيسر من الدماغ، في المناطق المسؤولة عن تفسير معاني الكلمات والذاكرة، وأشارت الدراسة إلى أن القراءة المستمرة يمكن أن تكون ذات تأثير كبير في نمو تلك المناطق من الدماغ بصورة أفضل على مدى عمر الطفل.

  

في تلك المرحلة من نمو الأطفال، فإن أدمغتهم تتشكّل وتنمو بسرعات غير مسبوقة، وحينما يستخدم الطفل منطقة ما من الدماغ بصورة مستمرة فإنه يتم تعزيز التواصل بين الخلايا العصبية في تلك المنطقة، وخلال عمر الواحد منّا يتم تعزيز حزم الخلايا العصبية التي تُستخدم بشكل أكبر بالمزيد من الوصلات فتصبح أقوى، أما تلك التي لا تستخدم كثيرا فتنحسر بالتدريج، يشبه الأمر هنا ذلك التعبير الشهير القائل إن "الغني يزداد غِنى والفقير يزداد فقرا"، تسمى تلك عملية التأشيب(7) (Synaptic Pruning).

  

لفهم أفضل لتلك الفكرة بشكل قريب دعنا نتخيل أدمغتنا كجيش يخوض معركة ما، في أثناء المعركة قد يحدث أن يتسبب ذلك الجيش في خرق قوي في خطوط العدو، هنا سوف يُدعم ذلك الخرق بمزيد من الأفراد والأدوات كي يستمر أفراد الجيش في التوغّل، بينما إن استطاع العدو السيطرة على منطقة تابعة لهذا الجيش فسوف تنسحب قوّاته منها بالتدريج، الأمر إذن أن تعيد ترتيب ذاتك وتتكيف مع تغير الظروف، هكذا هو الدماغ الخاص بنا، يقدم الدعم للمناطق التي تنشط، ويسحبه من تلك التي لا تُستخدم.

    

undefined

  

لهذا السبب، كانت الأكاديمية الأميركية لطب الأطفال قد أصدرت، في العام 2014، بيانا(8) يوصي بأن يبدأ الآباء القراءة للأطفال بعد الولادة مباشرة، وجاء في هذا البيان أن هؤلاء الأطفال الذين تلقوا دعما بالقراءة قبل سن الحضانة قد طوّروا علاقات أفضل مع ذويهم، وقدرات تعليمية وادراكية أفضل من أقرانهم الذين لم يقرأوا، وجاء أيضا أن التجارب قد أشارت إلى تحسن ملحوظ في نشاط أدمغة الأطفال بينما يقرأ الآباء لهم، بل وحذر البيان من أن الأطفال الذين سيدخلون المدارس بدون تلك الدفعة ربما لن يتمكنوا أبدا من اللحاق بمستوى رفاقهم في الحضانة وما بعدها من مراحل تعليمية.

     

كيف تُعدّل القراءة من سلوكنا؟!

ويمتد الأمر، في الحقيقة، إلى ما هو أعمق من ذلك، حيث قام فريق بقيادة ألان مندلسون، الأستاذ المساعد بقسم علم النفس من جامعة نيويورك، بعمل مجموعة تجارب(9) تتضمن أن يجلس أيٌّ من الأبوين، أو كلاهما، للعب والقراءة بصوت عالٍ مع أطفالهم (في سن ستة أشهر) لمدة قصيرة، ومع استمرار هذا البرنامج بشكل منتظم مع 675 أسرة، من طبقات اجتماعية فقيرة، جاءت النتائج لتقول إن اللعب والقراءة بصوت عالٍ للأطفال لم تُحسّن فقط قدراتهم اللغوية، والتي بدورها قد تُحسّن قدراتهم الإدراكية بحسب مجموعة من دراسات التوائم(10)، بل وانطلقت لمستوى أكثر عمقا، حيث عدّلت من سلوك الأطفال بشكل ملحوظ، وحسّنت من انتباههم، وخفّفت من حالات الغضب والنشاط الزائد وضعف التركيز.

  

وحينما استمر بعض الأطفال المشاركون بالتجارب في متابعة هذا البرنامج، وصولا إلى خمس سنوات، فإن النتائج أشارت إلى ارتفاع درجات التحسّن بارتفاع جرعات القراءة واللعب، ما يعني قدرة واسعة لكل من القراءة واللعب، بشكل منتظم، على دعم النمو المعرفي والعاطفي والاجتماعي للأطفال، خاصة الذين يواجهون مشكلات سلوكية، وقد أشارت تلك المجموعة من التجارب كذلك إلى أن تحسين هذه المشكلات أتى بالترافق مع ضبط قدرات هؤلاء الأطفال على التعلّم. في النهاية، فإننا نعرف أن التربية الإيجابية، تلك التي تتضمن تفاعلا مباشرا مع الطفل، تساعد بقوة على تحسين حياته مستقبلا، أما تركه على الهاتف الذكي للتعلم فهو توجه سلبي لن يفيد الطفل، بل بالعكس تماما، سيحرمه من التعلم الصحيح عبر التفاعل مع العالم من حوله.

       

هؤلاء الذين احتوت منازلهم، على مكتبات، ولم يستكملوا تعليمهم حتّى مراحل جامعية، يمتلكون قدرات مشابهة لهؤلاء الذين تلقوا تعليما جامعيا لكن لم يخوضوا تجربة المكتبة المنزلية
هؤلاء الذين احتوت منازلهم، على مكتبات، ولم يستكملوا تعليمهم حتّى مراحل جامعية، يمتلكون قدرات مشابهة لهؤلاء الذين تلقوا تعليما جامعيا لكن لم يخوضوا تجربة المكتبة المنزلية
    

في تلك النقطة، تقول لوجان، في أثناء حديثها مع "ميدان": "نعلم أيضا من دراسات كثيرة سابقة أن هناك علاقة سببية واضحة بين القراءة للأطفال بشكل متكرر أكثر وتحسين تلك المهارات"، وتضيف أن ذلك "لا يؤثر على المدى القصير فقط، بل والمدى الطويل أيضا". يدفعنا ذلك لتأمل دور القراءة في جميع المراحل العمرية التي يمر بها الطفل أثناء نموه، في تلك النقطة يمكن أن نتأمل دراسة صدرت مؤخرا من عدة جامعات أسترالية وأميركية(11) قامت باستقصاء على الإنترنت لعيّنة قوامها 160 ألف شخص، لتثبت أن هؤلاء الذين ترعرعوا في منزل يحوي مكتبة كانوا أصحاب قيم أكبر في اختبارات القدرات اللغوية والحسابية والتكنولوجية، بل ظهر تناسب طردي بين عدد الكتب في المكتبة المنزلية، والذي كان في المتوسط 115 كتابا، ونِسَب تلك القدرات.

  

وبحسب تلك المجموعة من التجارب، فإن هؤلاء الذين احتوت منازلهم، أثناء المراهقة، على مكتبات، ولم يستكملوا تعليمهم حتّى مراحل جامعية، يمتلكون قدرات مشابهة لهؤلاء الذين تلقوا تعليما جامعيا لكن لم يخوضوا تجربة المكتبة المنزلية، ما يشير إلى أن غمس الطفل من صغره في بيئة داعمة للقراءة يدفعه لتطوير مهارات ترفع من احتمالات نجاحه في الحياة مستقبلا بصورة تشبه حصوله على تعليم جامعي، وهو أمر يدعو للتأمل حقا.

  

يبدو إذن أن "فجوة المليون كلمة" (million word gap)، كما تسميها لوجان، أثناء حديثها مع "ميدان"، قد تكون "أحد العوامل الرئيسية في تفسير فروق النمو التعليمي للأطفال". فمع هذا الفارق المهول في تردد استماع الطفل للمفردات اللغوية، قد تكون هناك فروق مشابهة في قدرات الطفل على التعلم، وربما قدراته الإدراكية. يدفعنا ذلك للتساؤل: ما دورنا كآباء وأمهات؟ إذا كان الهدف الوحيد لنا هو تربية أطفال أصحاء وتعليمهم جيدا، فإن التعامل مع القراءة للطفل على أنها درجة من الرفاهية، أو اختيار يمكن أن نؤشر عليه بـ "نعم" أو "لا"، هو خطأ كبير. القراءة ليست فقط عادة نقول إنها مفيدة وممتعة، بل هي ضرورة أساسية للأطفال من سن صغيرة جدا تصل إلى ستة أشهر، من دونها يفتقد الطفل لدفعات إدراكية قد تساعده مستقبلا في كل شيء في حياته، بداية من التعليم وصولا إلى العمل واختيار شريك الحياة. لا تترك طفلك من دون ذلك الدعم الذي يستحقه.

المصدر : الجزيرة