شعار قسم ميدان

جذور الخير والشر.. هل لدى الأطفال أخلاق؟

في إنجلترا، قبل عدة سنوات، شغلت تلك الحادثة الرأي العام لفترة. حيث فقد أحدهم قطته، ثم بحث عنها في كل مكان يعرفه، لكنه لم يجدها، ثم بعد يوم أو اثنين وجدها بالمصادفة في سلة القمامة بينما كان يرمي القمامة، دفع ذلك الأمر صاحب القطة للتساؤل: كيف دخلت هذه القطة إلى هنا؟ فقام بالبحث عن أي كاميرات في المنطقة ووجد إحداها بالفعل، سحب الفيديو وقام بمراقبة سلة القمامة ليصل إلى تلك اللحظة التي تضع فيها إحدى السيدات القطة في سلة القمامة.

اقتطع صاحب القطة هذا الجزء من الفيديو ونشره على "فيسبوك" متسائلا: هل يعرف أحدكم هذه السيدة؟ بعدها وجد الفيديو مشاهدات كبيرة جدا وظهرت بالفعل بعد أيام قليلة، سيدة متوسطة العمر تُدعى "ماري بيل"، قالت في الأخبار إنها فعلت ذلك بغرض التسلية، لكن رد فعل الجمهور كان قاسيا لدرجة أن أحدهم أنشأ صفحة فيسبوك بعنوان "الموت لماري بيل" فاضطرت الشرطة لوضع السيدة تحت المراقبة بسبب تلك التهديدات وغيرها.

مجرد أطفال

في كتابه "مجرد أطفال: جذور الخير والشر"، يسأل بول بلوم، أستاذ علم النفس واسع الشهرة من جامعة ييل، وصاحب أحد أشهر المساقات في هذا المجال، عن أحداث كتلك. هل حقا نحوي جذور "الطيبة" في ذواتنا؟ تضرب سارة هاردي، متخصصة الأنثروبولوجيا والرئيسيات من جامعة هارفارد، مثالا بسيطا لتوضيح تلك الفكرة، لنفترض أنك الآن في طائرة مزدحمة بالركاب، هناك هرج ومرج وأصوات عالية وأنت جائع جدا، لكن لا يمكن لك أن تحصل على وجبة العشاء بسهولة.

كتاب "جذور الخير والشر.. هل لدى الأطفال أخلاق؟" (مواقع التواصل)

في أثناء ذلك كله هناك طفل ما، عمره نحو أربعة أشهر، ولا يتوقف عن البكاء، يحاول الناس إيقافه بكل الطرق الممكنة لكنه لا يفعل، وها أنت ذا تجلس في كرسيك على مسافة دقيقة واحدة من الانفجار، لكن هل ستفعل ذلك؟ إن ما تحكيه هاردي هو مشهد مألوف في رحلات الطيران، لكنّ أحدا لا ينفجر، بل يتحمل الناس الأمر ويحاولون تهدئة الأوضاع، لكن ماذا لو كان سكّان تلك الطائرة من الشيمبانزي، هل كانوا سيتحملون أيًّا من ذلك؟ بالطبع لا، ستصل الطائرة إلى المطار وبها عدد لا بأس به من الجثث المقطعة إربا، تستخدم هاردي ذلك لتقول لنا: "نحن أكثر طيبة من أقرب رفاقنا في هذا العالم".

أما بلوم، فينتقل للإجابة عن هذا السؤال من نقطة مختلفة تماما تتعلق بجذورها، فهو يعمل في علم نفس النمو، وبدأ تجاربه من الأطفال في سن صغيرة جدا، عند ثلاثة أو ستة أشهر على سبيل المثال. إنها فترة لا تؤثر فينا الثقافة السائدة خلالها، بالتالي إن حدث وتمكنّا من رصد أي استجابات أخلاقية، فذلك يعني أن "الطيبة" هي جزء رئيس من تركيبتنا كبشر، ووجب إذن أن نحاول تفسير أسرار الشرور في العالم، فعلى الجانب لآخر من حكاية هاردي أو مثال بلوم الذي ضربناه في المقدمة، هناك أيضا صور متنوعة للقمع والتعذيب والتحرش بأبرياء نراها في الشوارع بشكل يومي.

أخلاقيات الشهور الأولى من العمر!

في تجاربهم الأولى، على مجموعات من الأطفال بسن 9 أشهر وأخرى بسن 12 سنة، كانت الفكرة الرئيسية أن يقوم الفريق البحثي، بقيادة بلوم، بعرض ما يشبه الفيلم الكرتوني، أو عرض العرائس، على الأطفال، تظهر في هذا العرض ثلاثة أشكال هندسية. الدائرة، تلك التي تحاول أن تصعد منحدرا حادا، لكنها تفعل ذلك بصعوبة. بعد ذلك يتدخل المربع لمساعدتها على الصعود في أحد المشاهد، أو يتدخل المثلث لمنعها من الصعود في مجموعة أخرى من المشاهد، وهكذا.

في نهاية التجربة تقدم الأشكال الهندسية للأطفال على لوحة، هنا يظهر أن الأطفال يميلون بفارق شاسع (90-100%) إلى اختيار الأشكال الهندسية التي تساعد غيرها، أضف إلى ذلك أن نتائج التجارب كانت قد اختلفت تماما حينما تم نزع سمات الوجه البشري عن تلك الأشكال (العيون والفم على سبيل المثال)، حيث استجاب الرضع بشكل عشوائي طبيعي في أثناء الاختيار، ما يعني أن ما حدث في التجارب السابقة كان ذا علاقة بسلوك اجتماعي بطبعه.

على مدى السنوات التالية قام فريق بلوم بتنويع السياقات والأحداث، لكنها جميعا كانت تصب في الفكرة نفسها، الكائن الطيّب والكائن الشرير، على سبيل المثال كان أحد العروض يتضمن أرنبا من الفرو يلعب بكرته ثم تذهب منه بعيدا، ثم يتقدم أرنبان آخران مختلفا اللون، أحدهما يعطيه الكرة من جديد، والآخر يأخذ الكرة ويمضي، في معظم الحالات كان الأطفال يختارون الأرانب التي اختارت أن تساعد صاحب الكرة. حتى في الأطفال من عمر ثلاثة أشهر، أمكن أيضا ملاحظة أي اتجاه يطيلون النظر إليه وكأنهم يرغبون فيه، وكان في معظم الحالات اتجاه "الطيّب".

وبتطوير تجاربهم كشف الفريق البحثي أن الأمر لا يتعلق فقط بتفضيل الطيّب على الشرير، بل أيضا امتد لإعطاء المكافآت أو سحبها. على سبيل المثال، بعد التجارب كان الأطفال أكثر ميلا بفارق واضح لإعطاء مكافأة للكائن الذي ساعد الآخر، وأكثر ميلا كذلك لسحب شيء ما من ممتلكات الآخر الذي لم يكن طيّبا، بل وفضّل الأطفال شخصا كافأ "الطيّبين" ولم يُفضّلوا شخصا كافأ "الأشرار" في مجموعة تجارب أخرى. يشير ذلك إلى أننا، نحن البشر، بطبيعتنا، وفي سن صغيرة جدا تمتد حتّى ثلاثة إلى ستة أشهر، نميل إلى مكافأة الطيبين وعقاب الأشرار، ما يعني حسا أوليا بالحاجة إلى الإنصاف.

الوجه الآخر للعملة

للوهلة الأولى قد تظن أننا وصلنا إلى نهاية المطاف، جذور الفعل الأخلاقي موجودة لدى الأطفال من سن صغيرة جدا، ما يعني أن الشر هو شيء طارئ علينا ذو علاقة بالثقافة التي نكتسبها شيئا فشيئا مع النمو، لكن بلوم للأسف لا يتوقف عند هذا الحد، فالأمر أعقد قليلا من ذلك، هذا لأن الأطفال، على الرغم من هذا الميل الغريزي للسلوكيات الأخلاقية، كانوا أكثر ميلا لتفضيل أقربائهم أو أصدقائهم في أثناء ممارسة تلك الأفعال، بمعنى أن النتائج كانت دائما أكثر وضوحا كلما كانت هناك درجة من الألفة بين الطفل والباحث الذي يؤدي التجربة.

بمعنى أوضح، فإنه على الرغم من الميل الغريزي للأطفال لممارسة الأفعال الأخلاقية، فإن هناك عاملا آخر مهما يتدخل لتقييد ذلك الشعور في بعض الأحيان، وهو عامل الألفة، في سن صغيرة جدا، حتى ثلاثة أشهر، يُفضّل الأطفال صوت أمهم، ووجهها، ويمتد ذلك ليشمل نطاق الأقارب والمحيطين، سيُفضّل الطفل أن يستمع إلى لكنتهم وإلى ألوان وجوههم كذلك، طفل ولد في أسرة بيضاء سيُفضّل الشخص الأبيض على الأسمر، وطفل ولد في أسرة سمراء سيُفضّل أصحاب الوجوه السمراء على البيضاء، مع نمو الطفل، في السنوات الأولى، يتطور هذا النوع من التحيز ليصبح كذلك تحيزا في السلوك، سيحاول الطفل تقليد هؤلاء الذين يشبهونه.

     

في الحقيقة يمتد ذلك لنطاقات أبعد مما قد يتصورها البعض، على سبيل المثال قام الباحثون بإعطاء عيّنة عشوائية من الأطفال في سن 7 سنوات مجموعة من "القمصان" الحمراء والزرقاء، أثناء الاختيار كان الأطفال على علم تام بأن توزيع القمصان يتم بشكل عشوائي تماما، لكن على الرغم من ذلك حينما أعطى القائمون على التجارب الأطفال الاختيار لتوزيع مجموعة من قطع الحلوى على رفاقهم، مال كلٌّ منهم لإعطاء الحلوى لأصحاب القميص الشبيه بما يرتدي، أحمر أو أزرق، بل وتطور الأمر للإجابة عن أسئلة من نوعية "من أكثر طيبة؟" و"من أذكى؟" بحسب لون القميص، فكان هؤلاء الذين يرتدون اللون نفسه أكثر ذكاء وطيبة.

أضف إلى ذلك أن مُعاملا آخر غاية في الأهمية يدخل إلى اللعبة، فحينما يتعلق الأمر بالطفل نفسه، سوف يستجيب دائما لمصلحة نفسه فقط. على سبيل المثال، حينما تقرر أن تخيّر مجموعة من الأطفال بين الحصول على قطعة حلوى واحدة مع حصول الآخرين على لا شيء، أو الحصول على قطعتي حلوى مع حصول الآخرين على قطعتي حلوى بالمثل، فستميل النتائج إلى الكفّة الأولى لا الثانية، بمعنى أن الطفل كان أنانيا لدرجة أنه قرر الانتقاص من موارده من أجل الحصول على الأفضلية على الأطفال الآخرين، يحدث ذلك في الأطفال حتّى عمر الثمانية، لكنه يختفي بعد ذلك.

لِمَ نصبح طيبين؟

في تلك النقطة يتساءل بول بلوم عن السبب، لِمَ نصبح مع الوقت أكثر طيبة؟ بمعنى أوضح، لدينا بالفعل ميول أخلاقية في ذواتنا، وهي أشياء وُلدنا بها، لكنها على الرغم من ذلك لا يمكن أن تفسر كامل السلوك الأخلاقي الذي نراه من البشر. حينما نكبر يتسع أفق قدراتنا الأخلاقية ليشمل الغرباء بدرجة أكبر من طفولتنا، هنا يرى بلوم أن السبب ذو علاقة بثلاثة مفاهيم تتجذر شيئا فشيئا في طبيعتنا وتوسّع من قدراتنا على التعاطف.

   

الأول هو الاعتماد على بعضنا البعض، حينما يصبح جزء رئيس من مصلحتنا الخاصة مبنيا على مصالح الآخرين الخاصة، فإننا نصبح أكثر تعاطفا معهم وخوفا على مصالحهم بالتبعية، يصل ذلك إلى مستوى من العمق يجعل الأنظمة الاقتصادية مفتوحة السوق أكثر قدرة على دعم الشعور الأخلاقي تجاه الآخرين، لأن اقتصاد السوق يفتح الباب لتعاونات مختلفة تعتمد فيها مصالحنا جميعا على بعضنا البعض، في تقرير سابق لهذا عن "هل أصبح العالم يعيش في فوضى أخلاقية؟" يمكن أن تجد الكثير من التوضيح لتلك النقطة.

أما المفهوم الثاني فهو رفع الألفة، ألفة المجتمعات مع بعضها البعض، وذلك عن طريق التلفزيون والصحافة والروايات والقصص، إلخ، كلما أمكن لنا التعرف على مجموعات أخرى من البشر (يضرب بلوم هنا مثالا بالأميركان سود البشرة)، كانت هناك فرصة أفضل للألفة مع هؤلاء، ما طوّر بدوره درجة من التسامح معهم وضمهم لساحة أفعالنا الأخلاقية، القصص تحديدا -من اللحظة التي ظهرت فيها كمهارة بشرية- كانت قادرة على إضافة درجة واسعة من التعاطف إلينا نحن البشر، لأنها ركّزت على أشخاص بعينهم. بمعنى أوضح: يمكن للناس في أوروبا أو أميركا على سبيل المثال اعتبار مئات الآلاف من القتلى في الحرب السورية رقما إحصائيا، لكن رواية عن معاناة طفل سوري ستخلق الكثير من التعاطف، لأنها ترفع من تلك الألفة.

أما الثالث فهو إعمال العقل، إنه جزء من طبيعتنا البشرية، في تلك النقطة يمكن أن نقتبس مثالا من آدام سميث والذي يطلب منّا أن نقارن بين حالتين، في الأولى أنت في منزلك الآن وقرأت خبرا على فيسبوك يقول إن هناك ألف شخص معرضون للموت غدا صباحا، بسبب حرب شعواء ما في بلد بعيد جدا عنك، وفي الثانية أنت في منزلك أيضا وجاءك خبر بأن الطبيب، لسبب ما، سيقطع إصبع الخنصر الخاص بك غدا، بالطبع سيكون وقع الحالة الثانية أكثر قسوة عليك من الأولى، لكن هل يعني ذلك أنك قد تضحي بألف شخص من أجل إنقاذ إصبعك؟ بالطبع لا، لأن عقلك يمكن له أن يتجاوز المشاعر الخاصة ويقيس الأمور بدرجة من الموضوعية.

الملائكة الطيبة لطبيعتنا

نحن لا نعرف بعد، بدرجة من الوضوح، ما الذي تعنيه الأخلاق من الأساس، لكن على الرغم من ذلك فإن تجارب كتلك التي أجراها بول بلوم، تلك التي تأكدت فيما بعد عبر الكثير من الأعمال البحثية الأخرى، تشير إلى أن لدينا بالفعل جذورا للسلوكيات الأخلاقية في طبيعتنا، لكن هذه الجذور ليست وحدها كفيلة لتفسير سلوكنا الأخلاقي كبشر، والذي تتحكم فيه، بجانب طبيعتنا البيولوجية -وبالتالي- النفسية، هناك دائما مكونات أخرى قادرة على دعم شعورنا بالخير والشر، لكن ذلك الجانب الأخير معرض أيضا للاختراق.

في عالمنا المعاصر تتصاعد أصوات التطرف من كل حدب وصوب، يتحزب الناس بصورة أكبر لتوجهاتهم السياسية والدينية، وكنتيجة لذلك ينتشر الكذب عبر وسائل الإعلام كافة بداية من التلفاز إلى فيسبوك، في محاولة من كل طرف لإثبات جدارته. لكننا نحن البشر، في أثناء ذلك كله، قد نفقد القدرة على التعاطف مع الآخرين شيئا فشيئا لمجرد أنهم يختلفون عنّا في توجهاتهم السياسية أو الدينية، ومن ثم قد نقبل بأي سلوك غير أخلاقي تجاههم، إن استمر ذلك على الوتيرة المتصاعدة المعاصرة نفسها فإن "الحس الأخلاقي" لدى البشر مهدد.

في كتابه "الملائكة الطيّبة لطبيعتنا" يقول ستيفن بينكر، عالم النفس الإدراكي، ومتخصص اللسانيات الشهير من هارفارد، إنه يجب على البشر، لكي يستمروا في حياة أكثر إنتاجا ورفاهية، أن يحافظوا على الملائكة الأربعة التي كانت دائما ظهيرا لنا، ساعدتنا على التقدم، وحمتنا من السقوط في ظلمات الفقر والجهل والمرض، هذه الملائكة الأربعة هي: الحس الأخلاقي، التعاطف مع الآخرين، التحكم في النفس، والحس العقلاني، فهل نفعل ذلك؟!

——————————————————————-

ملاحظة

التقرير بالكامل قراءة في كتاب بول بلوم "Just Babies: The Origins of Good and Evil" ومحاضراته، ننصح بقراءة هذا الكتاب الرائع وآخر بعنوان "The Better Angels of Our Nature" لستيفن بينكر.

المصدر : الجزيرة