شعار قسم ميدان

"علم الإيموجي".. لماذا أصبح الاستغناء عنها مستحيلا؟!

ميدان - إيموجي

"نعم، لأول مرة في التاريخ، فإن كلمة هذا العام لقواميس أُكسفورد هي صورة"

  

بهذه الكلمات(1)، بدأ المسؤولون عن منصة أُكسفورد الإلكترونية إعلانهم أن كلمة العام لسنة 2015 هي ما نعرفه بـ "وجه دموع الفرحة 😂"، ذلك الإيموجي الضاحك مع دمعتين على خدّيه يمينا ويسارا، بعد أن تعاونت المنصة مع شركة تكنولوجيا هواتف ذكية تُدعى "سويفت-كي" لتحديد أشهر أشكال الإيموجي انتشارا في بريطانيا وعدة دول أخرى، أظهرت النتائج أن وجها ضاحكا حد البكاء هو الأكثر استخداما بنسبة نحو 20% من أشكال الإيموجي المنتشرة والتي شهدت قفزة عالمية واسعة هذا العام تحديدا.

 

في الواقع، فإن أشكال الإيموجي ظهرت قبل ذلك بكثير، وتحديدا في التسعينيات من القرن الفائت، حينما حاول(2) "شجيتاكا كوريتا"، مصمم الواجهات الياباني، أن يتوصل إلى حل لمشكلة كبيرة تواجهه أثناء التواصل عبر الإنترنت. لفهم الفكرة دعنا نبدأ بمثال بسيط، يحدث من حين لآخر أن تتحدث لإحدى زميلاتك عبر أي من وسائل التواصل الاجتماعي ثم تطلب منها تقديم خدمة لك، أي شيء، كأن تمر بالمكتبة لشراء بعض الاحتياجات الخاصة بك ثم تعطيك إياها غدا في الجامعة، هنا ستجيبك زميلتك بـ: "بالطبع، موافقة". لكن حينما تصلك الرسالة، ربما ستبدأ في التساؤل: ما الذي تعنيه بذلك؟ لقد وافقت طبعا، لكن هل وافقت وهي سعيدة بتقديم تلك الخدمة؟ هل وافقت بينما هي ممتعضة؟ أم أنها وافقت وهي غير مهتمة بك من الأساس؟

 

تخيّل، على سبيل المثال، أن صديقا يرسل لك عبر "واتساب" تلك العبارة: "هل عرفت بما حدث؟ لقد تشاجرت مع مدير القسم وربما أُفصل من العمل قريبا!"، لو أتت تلك الرسالة مع إيموجي ضاحك 😆 فإنها تعني أن صديقك لم يتأثر بالموقف وأنه يهدف إلى إعلامك بأنه قد "قصف جبهة" هذا المدير المتسلّط الذي طالما تبادلتما النكات عنه، أما لو أتت تلك الرسالة مع إيموجي حزين 😢 فإنها تعني أن صديقك قد لا يجد وظيفة أخرى بسهولة أو أنه كان يحب تلك الوظيفة التي يوشك أن يفقدها، في الحالتين فإن سياق الحديث سيختلف تماما.

  

ماذا لو أرسل مديرك نكتة؟

undefined

  

بالتالي، فالإيموجي ليس مجرد صورة أو حتّى تعبير عن كلمة، ولكنها إشارة إلى الحالة العاطفية التي تختبرها بينما تتحدث مع شخص لا تراه، البديل عن لغة جسدك وتعابير وجهك ودرجة الشدة في صوتك أثناء حديثك، والتي تعطي معلومات أكثر ما تعطي اللغة، لفهم تلك الفكرة دعنا نتأمل مجموعة من التجارب(3) التي قام بها باحثون من جامعتي شيكاغو ونيويورك قبل نحو عقد ونصف من الآن، وذلك في فترة لم تنتشر فيها صور الإيموجي التعبيرية بعد، لفحص قدراتنا على فهم مغزى الكلام دون تعابير. أو بمعنى أوضح: ماذا لو أرسل مديرك نُكتة للجميع عبر "جي-ميل"، وكانت جادة بعض الشيء بحيث لا تبدو نكتة، هل يعني ذلك عقابا قريبا؟

 

كان هدف هذا الفريق البحثي هو إثبات خطأ الفكرة التي تقول إن التواصل عبر البريد الإلكتروني أكثر سهولة، وذلك لأن أنانية البشر تمنعهم من فهم كامل وموضوعي لما يريده الآخرون منهم في حالات غياب لغة الجسد وتعبيرات الوجه ودرجة الصوت، إحدى التجارب على سبيل المثال تضمّنت أن يكتب المشاركون جملتين حول موضوع ما، الأولى جادة والثانية هزلية، ثم بعد تكرار ذلك في 10 موضوعات يقومون بإرسالها إلى مشاركين آخرين، ويُطلب إلى المشاركين الآخرين تحديد أي الجمل كانت هزلية وأيها كان جادا.

   undefined

  

خلال خمس تجارب، تضمّنت رسائل جادة، وأخرى هزلية، أو حزينة، أو غاضبة، أو ضاحكة، عبر البريد الإلكتروني، جاءت النتائج لتقول إن هناك ميلا واضحا من قِبل كاتبي الرسائل لتوقّع أن يفهم الطرف الآخر ما عنوه في رسائلهم، بينما في الواقع فإن نسبا أقل بفارق واضح قد فهمت مقصد الرسائل، ما يعني أن قدراتنا على توصيل "حالة الرسالة" عبر الكلمات فقط تعد محدودة، حيث تساهم حركاتنا وتعابير وجوهنا في الكثير مما نقصده أثناء تعاملنا مع شخص ما.

 

لكنّ ذلك، بدوره، يدفعنا لسؤال آخر مرتبط بموضوعنا: كيف عاشت البشرية قبل الإيموجي؟ أو دعنا نَصُغْه بصورة أخرى؟ هل يمكن بسهولة -على سبيل المثال- أن تتحمل عودة أزرار فيسبوك لتصبح "إعجابا" فقط بدلا من "أغضبني" أو "أضحكني" أو "أحبه" أو "واو!"؟ قبل ظهور هذه التعبيرات تعامل الناس على فيسبوك بشكل طبيعي، وحتّى حينما ظهرت، في البداية، استمر الناس في استخدام "أعجبني" بصورة رئيسية، لكن لم يمر الكثير من الوقت لتصبح الرموز التعبيرية الأخرى بجانب الإعجاب أساسية بالقدر نفسه تقريبا، بل وتظهر من حين لآخر أشكال كاريكاتورية (كوميكس) للتعبير عن مدى غرابة هذا الشخص الذي وضع إعجابا على منشور هزلي بينما وضع الآخرون "أضحكني".

    

undefined

     

عالم بلا إيموجي

إذا قمت بإزالة هذه التعبيرات الآن فإن الناس لن تعرف كيف تتصرف، لقد تعودوا على صورة أكثر اتساعا من التعبيرات، يشبه الأمر أن يعتاد أحدهم أن يأكل وجبة واحدة فقط في اليوم، لكن حينما يحدث أن تضيف له وجبة إضافية لفترة، لتكن سنة مثلا، فإنه لن يتقبل بسهولة العودة إلى النمط القديم، لقد أُضيفت إلى حياته أشياء جديدة تستثير غرائزه بصورة أكثر حساسية، لكن هل يمكن لذلك أن يكون صحيحا؟ هل يمكن للتواصل عبر الإنترنت أن يكون كالأكل؟

 

في الواقع، نعم. نحن البشر كائنات اجتماعية، يُمثّل التواصل الاجتماعي إحدى أقوى غرائزنا بجانب الجوع والجنس، في حالة الجوع فإن هناك نوعين من الطعام، الطعام الذي يعوض احتياجنا إلى السعرات الحرارية اليومية، وذلك الذي يمكن أن نستمر في أكله حتّى وإن كنّا في غير حاجة إليه، ونقصد هنا الطعام المالح أو السكّري، نحن نأكل في الحالة الأخيرة فقط لأن الطعام شهي وجذّاب، لذلك فإن تعرضنا إلى صورة مفرطة من توفّر الطعام هو مؤشر لإمكانية أن نصاب بالسمنة، لأننا في بعض الأحيان لا نتمكن من التحكم في ذواتنا أمام الطعام.

 

في التواصل يحدث الشيء نفسه، حينما نتعرض إلى التواصل بصورة مفرطة -وهو ما توفره لنا هواتفنا الذكية حاليا- فإننا ننكفئ عليه أكثر من اللازم، لكن المشكلة أنه تواصل ناقص، تلك الكلمات المكتوبة في رسالة لا تُشبع -بأي حال من الأحوال- رغباتنا في التواصل. ولكن باعتباره موجودا دائما فإننا ننجذب إليه، وقد نقبل بجرعات قليلة منه، يصيبنا ذلك بأعراض تشبه الإدمان، وحينما يتعرض المدمن لجرعة إضافية من المخدر فإنه من الصعب أن يرجع للوراء، هذا بالضبط ما يحدث بعد إضافة الرموز التعبيرية الجديدة، فقد أضافت لنا فرصة أكبر لإشباع رغباتنا في التواصل، ما يعني أننا لن نكون قادرين بسهولة على الاستغناء عنها والعودة لحالة سابقة.

    undefined

    

وجه حزين أم اختبار شخصية!

يمكن لتلك الفكرة كذلك أن تفسر سبب الانتشار المهول للصور الهزلية (الكوميك أو الميمي) التي تقتبس لقطات الأفلام الشهيرة، حينما تتأمل هذا "الكوميك" فإنه لا يعبر عن مجرد صورة، بل يدفع ذاكرتك لاستحضار المشهد كاملا، بالصوت والحركة والمشاعر، ثم إضافته للطريقة التي تُدرك بها الموقف كله، يثير ذلك غرائزك التواصلية لأنه يُعبّر عن موقف كامل وواضح بالنسبة لك، ويشبعها بشكل أكبر من الكلام المكتوب فقط، ما يؤدي بدوره إلى إقبال أكبر على هذا النوع من صور "الكوميك"، وهو ما دفعها للانتشار لدرجة جعلت الصفحات التي تروج لها هي الأكثر انتشارا في وسائل التواصل الاجتماعي في العالم كله.

 

سوف نُقبل على كل جديد يقدمه التواصل الاجتماعي بنهم، لأن ذلك يُقرّبنا أكثر من الشعور بالشبع التواصلي، ذلك الذي لن نصل له أبدا. لهذا السبب وصل عدد الإيموجي عالميا إلى أكثر من 3000 صورة تعبيرية في العام الحالي، يستخدمها(4) الناس 700 مليون مرة في اليوم الواحد، فقط على فيسبوك، ويتزايد استخدامها يوما بعد يوم، من تلك النقطة ترى ليندا كايي، من جامعة إيدج هيل البريطانية، في ورقة بحثية(5) نُشرت مؤخرا بدورية "تريندز إن كوجنيتف ساينس" أنه بات ضروريا للغاية أن يبدأ الباحثون في تقصّي الدور المهم الذي تلعبه صور الإيموجي في حياتنا، حيث لا تزال الأسئلة المتعلقة بالإيموجي كصورة حقيقية للعاطفة بلا إجابة.

   

يرى بعض الباحثين أن الإيموجي ذات قدرة، ربما أكبر من الكلام، على توضيح ملامح شخصيّاتنا
يرى بعض الباحثين أن الإيموجي ذات قدرة، ربما أكبر من الكلام، على توضيح ملامح شخصيّاتنا
  

على سبيل المثال، إحدى الملاحظات المهمة في هذا السياق، والتي أكدتها دراسة أخيرة من جامعة كنساس(6)، هي أن صور الإيموجي أكثر قدرة على إعطاء بيانات دقيقة حينما تُستخدم بديلا للكلام في استطلاعات الرأي الخاصة بالشركات من أجل تقييم منتجها، وكان ذلك بالطبع أكثر فاعلية مع الأطفال دون غيرهم، ما يعني -على سبيل المثال- أن ترتيبا كـ "أعجبني جدا، أعجبني بدرجة ما، أعجبني، لم يعجبني كفاية، لا يعجبني" لم يعط نتائج أدق من ترتيب آخر اختلف فيه حجم الابتسامة في إيموجي ضاحك وصولا إلى عيون ضاحكة مع قلوب بها.

  

من جهة أخرى، يرى بعض الباحثين أن الإيموجي ذات قدرة، ربما أكبر من الكلام، على توضيح ملامح(7) شخصيّاتنا، هؤلاء الذين يستخدمون الإيموجي الحزين كثيرا -على سبيل المثال- يعطون درجات أقل في أحد ملامح الشخصية المهمة وهي الضمير (Conscientiousness) (درجة قدرة الشخص على ضبط نفسه في مواجهة الأوامر والتعليمات وأداء الواجبات والأمور المهمة)، أما الذين يستخدمون الإيموجي بشكل أكبر في العموم فيسجّلون درجات أكبر في صفات الانفتاح (أن يكون الشخص فضوليا، منفتحا على العالم، أو منطويا على ذاته)، وهكذا.

 

لماذا يحب الفرنسيون القلوب الحمراء؟

undefined

  

كذلك فإنه من المثير للانتباه أن نتأمل اختلافات الشعوب في استخدام الإيموجي، الفرنسيون مثلا يستخدمون إيموجي القلب ❤ أربع مرات أكبر من المتوسط، بحسب تحليل(8) لشركة "سويفت-كي" لأكثر من مليار إيموجي، أما العرب فقد استخدموا إيموجي الورود والنباتات 💮 أربع مرات أكثر من المعدلات العالمية، الروس -في الجهة المقابلة، وقد تتعجب من ذلك- يستخدمون أنواع الإيموجي الرومانسي ثلاث مرّات أكبر من المعدلات العالمية، أما الأستراليون فيتصدّرون في أنواع إيموجي الأعياد 🎅 والوجبات السريعة 🍔.

   

undefined

   

أما بين وايزمان، من جامعة إلينوي، فيحاول(8) أن يضع مجموعة مختلفة من الأسئلة تتعلق في الأساس بنطاق اللسانيات، حيث تنتشر صور الإيموجي التي تُعبّر عن النباتات والفواكه بصورة كبيرة، لكنها تُستخدم للتعبير عن أشياء مختلفة في سياقات مختلفة، خاصة حينما يُستخدم إيموجي "الغمز" 😉 إلى جوار أي إيموجي آخر، كذلك فإن الناس، بطريقة ما، يخلقون نوعا من "النحو" الخاص بتلك الرموز التعبيرية، فيميلون مثلا لوضع الضحكات بعد الجمل الهزلية والوجوه الحزينة قبل الجمل المؤسفة.

 

أضف إلى ذلك أن التزايد المستمر في استخدام الإيموجي يطرح مشكلات أخرى غريبة. على سبيل المثال، كيف يمكن أن تُفسّر في قاعة محكمة حينما يكون لها دور في قضية ما؟ وهل من الممكن تدريب الذكاء الاصطناعي لفهمها بدرجات تعقّد البشر نفسها؟ الأمر هنا ليس فقط أن تضع وجها ضاحكا بجانب جملة هزلية، بل -على سبيل المثال- أن توجّه الشتائم لأحدهم مع "الوجه الضاحك 😆"، لا يعني ذلك الشيء نفسه كضحك حقيقي.

 

يشبه هذا التداخل بين الإيموجي والجمل، أو حتّى بين الإيموجي وبعضها البعض، الفارق بين أن تشاهد مهرجا يضحك في سيرك نهارا وأن تفتح باب بيتك في الثانية بعد منتصف الليل لتجد المهرج نفسه بالضحكة نفسها. الأمر سياقي، لكنه معقد، وما زالت هناك حاجة إلى مزيد من البحث حول تلك الوجوه التعبيرية ودورها في حياتنا، سواء كإمكانات لدرجة أكبر من السهولة في التواصل، أو تأثيرنا عليها وتأثيرها على طبيعتنا. لكن في النهاية، ومع اندماجنا بشكل أكبر في العالم الرقمي وانعزالنا عن عوالمنا الواقعية، فنحن على أعتاب عالم جديد جريء، لكنه مخيف بدرجة ما، فهو يدفعنا بشكل أو بآخر لنسأل: ما الأكثر واقعية: صديق يضحك أمامك، أم صديق يُرسل إيموجي ضاحك؟

المصدر : الجزيرة