شعار قسم ميدان

53 عاما من التشكيك.. هل هبط البشر حقا على سطح القمر؟

ميدان - هبوط أميركا على القمر

اضغط للاستماع

"هل لاحظت أن السماء في خلفية روّاد الفضاء الأميركان على القمر سوداء تماما، أين النجوم؟"، "ركّز قليلا مع فيديو القمر الذي نشرته ناسا للهبوط على القمر، هل تلاحظ شيئا غريبا في ظلال روّاد الفضاء، أليس من المفترض أن تكون لليسار وليس لليمين؟"، "هل رأيت هذا الفيديو الشهير للعالِم الروسي الذي فنّد هراء وصول ناسا إلى القمر وقال إنه -من وجهة نظر رياضية- لا يمكن الهبوط على القمر؟!"، حسنا، يمكن أن نستمر في عرض هذا النوع من الادعاءات حول هبوط البشر على سطح القمر ولا ننتهي قبل أن نكتب مجلدا كاملا، فنحن الآن نقف أمام 50 عاما(1) التشكيك.

 

هل هبط البشر حقا على سطح القمر؟ لنبدأ بالقول إن هذا سؤال مشروع، أنت لا تعرف شيئا، ولم تر شيئا، وتقول إن الأميركان كانوا في حرب باردة مع السوفييت، وربما حدث بالفعل أن تمكّنوا من تزييف الأمر من أجل أن يربحوا معركة هائلة حقا ستؤثر بقوة على مستقبل كيانين هما الأقوى في العالم، لكن المشكلة التي نواجهها حينما نحاول أن نناقش هذا النوع من الأسئلة، صدّق أو لا تصدّق، لا تتعلق من الأساس بقدرة البشر على الهبوط على سطح القمر من عدمها، بل بمدى ضعف فهم الناس للعملية العلمية!

 

طبيعة العلم

القمر

حسنا، لنهدأ قليلا، ثم لنتأمل معا الفكرة التي يطرحها لويس وولبرت في كتابه "طبيعة العلم غير الطبيعية" حينما ينتقد اعتقاد الرياضي الكبير ألفريد نورث وايتهد القائل إن "العلم يتجذر في الجهاز الفكري للإدراك البديهي"، في حين أن مشاهداتنا للطريقة التي يعمل بها العلم والتكنولوجيا تتناقض تماما مع تصوراتنا عن العالم، أضف إلى ذلك أننا قد نعيش كامل حياتنا ونحن لا نعرف أي شيء عن تأثيرات النسبيتين الخاصة والعامة على ساعات المسافرين أو الفارق بين اصطلاحات كالسرعة والقوة وتأثيرها على سياراتنا. نحن فقط نهتم بأن تسير الأمور كما يجب من أجل تحقيق أفضل منفعة ممكنة. وبحد تعبير دانيال كانيمان(2) -النفساني الشهير والحاصل على نوبل في الاقتصاد- فنحن فقط نستخدم الحد الأدنى من قدراتنا العقلية لتيسير أكبر قدر ممكن من الأمور.

 

من تلك النقطة ينبع الفارق بين العلم وإدراكنا البديهي، وهو يظهر -أكثر ما يفعل- في مدى فهمنا لحاجز الدقة الأدنى الذي تقف عنده قدرات العلم والتكنولوجيا. في الإلكتروديناميكا الكمية(3)، على سبيل المثال، وهي النظرية التي طوّرها ريتشارد فاينمان وحصل بسببها على جائزة نوبل سنة 1965، أمكن أن نتوقّع قيمة العزم المغناطيسي للإلكترون، والتي ظهر أنها رقم يساوي 1.001159652182. الآن يمكن أن نحاول اختبار مدى دقة هذه النظرية عبر عمل قياسات للخاصية نفسها في معامل(4) جامعة هارفارد ثم نقارن النتائج، ماذا كان الرقم الناتج من التجربة؟

 

إنه 1.001159652181، هل تلاحظ ذلك؟ الفارق كان فقط في الرقم الثاني عشر بعد العلامة العشرية، يعني ذلك أن الحسابات الخاصة بنظرية الإلكتروديناميكا الكمّية استطاعت النجاح في الحصول على دقة بقدر واحد في التريلليون، تلك هي دقة لم تحدث من قبل في تاريخ العلم، ولذلك فإن الإلكتروديناميكا الكمّية هي النظرية العلمية الأدق إلى الآن، يشبه الأمر أن تدور حول الأرض مرة ونصفا وتخطئ في حساب المسافة بما مقداره قُطر شعرة بشرية واحدة، هل يمكن أن تتصور هذا القدر من الدقة؟ قد لا تدرك أن أرقاما كتلك بالأعلى هي السبب في أنك تقرأ هذا التقرير الآن عبر هاتفك الذكي.

 

في الواقع، لقد كانت تلك الفترة من تاريخنا، الستينيات من القرن الفائت، زاخرة بالمكتشفات التي توضح قدر الدقة التي وصلت إليها العملية العلمية، خذ مثلا جائزة نوبل في الفيزياء للعام 1961 التي حصل روبرت هوفستاتر(5) على نصفها عن تمكّنه من كشف مكونات نواة الذرة، هل تتخيّل ذلك؟ يمكن أن تضع 500 ألف ذرة كربون في صف واحد ويكون عرض ذلك كله هو شعرة بشرية واحدة، أما الذرة نفسها فإن معظمها فراغ كما تسمع كثيرا، لكن لفهم الأمر بشكل أكثر قربا من الواقع تخيّل أننا قمنا بتكبير ذرة واحدة لتصبح بحجم قاعة أوبرا ضخمة، هنا ستكون النواة بحجم حبة أرز في منتصف القاعة!

 

أما في العام 1962، فقد شهدت البيولوجيا طفرة جديدة ما زالت إلى الآن هي الأقوى في تاريخها حينما حصل(6) الثلاثي جيمس واطسون وفرانسيس كريك وموريس ويلكنز على جائزة نوبل في الطب والفيسيولوجيا بسبب كشفهم للتركيب الكيميائي للحمض النووي الموجود في أنوية خلايانا الحية، لفهم مدى دقة هذا الكشف دعنا نتأمل عدد خلايا جسم شخص طبيعي، مثلك. إنه نحو 37 تريليون خلية، و"تريليون" بدوره هو رقم من الضخامة بحيث لو قررنا أن نبدأ الآن بالعد (1، 2، 3، …) حتّى نصل إلى الرقم تريليون فإننا سنتوقف بعد 30 ألف سنة!

 

200 مليار دولار!

يمكن لك بسهولة أن تطلع على جوائز نوبل في العلوم خلال فترة الأربعينيات إلى الستينيات من القرن الفائت لتتعرف إلى ما نقصد هنا، وهو مدى الدقة التي وصلت إليها العلوم -وبالتبعية التكنولوجيا- في تلك الفترة من تاريخنا، حينما نتحدث عن موضوعات كالصعود إلى سطح القمر فإن أولى المشكلات التي تواجهنا هي تصوراتنا عن مدى الدقة العلمية والتكنولوجية، فنقول إنه ليس من الممكن أن يذهب البشر للقمر لأن الأمر "معقد جدا ويحتاج إلى دقة غير مسبوقة"، لكن عملية توقع أين سيكون القمر بعد ليلتين من الآن بالنسبة لحركات الأرض والشمس، على سبيل المثال، أو حساب خط سير مركبة بحجم سيّارة متوسطة انتقالا من الأرض ووصولا إلى القمر، هي أمور من البساطة -نسبيا، مقارنة بما حكينا عنه قبل قليل- بحيث يمكن حسابها بدقة شديدة للغاية.

 

بالطبع قد توجد عوامل كثيرة -على أرض الواقع- يمكن أن تعوق تلك الحسابات، والمشكلة التي تواجهنا أثناء محاولاتنا لنقل إنسان إلى القمر وإعادته سالما للأرض هي في الحقيقة عدد تلك العوامل الكبير بحيث لا يمكن حصره بسهولة، لكن في تلك النقطة أيضا يخطئ البعض، فمشكلتنا مع العملية العلمية أو الإنجازات التكنولوجية هي أننا نرى النتائج فقط، فنتصوّر أن عملية نقل البشر إلى سطح القمر تمّت في "خطوة واحدة ناجحة" وانتهى الأمر، في الواقع فإن برنامج الرئيس الأميركي جون كيندي لوضع إنسان على سطح القمر، والذي بدأ قبل إعلانه الشهير سنة 1961، قد تُكلّف -بمعايير العملات اليوم- ما يصل إلى نحو 150-200 مليار دولار، إنه مبلغ هائل لا شك، فيمَ أُنفق كل ذلك؟

 

لفهم سبب تلك التكلفة دعنا نتخيّل أننا -أنا وأنت- نود أن نصعد بشخص إلى القمر، إنها أول مرة تحدث في التاريخ، وفي اجتماعنا الأول معا أحضرنا كمًّا كبيرا من الورق الأبيض وبدأنا في كتابة الأسئلة المهمة، على سبيل المثال: هل الفضاء صالح للبشر؟ هل هناك طريقة لجعله كذلك؟ يمكننا أن نُرسل حيوانات لاختبار تلك الفكرة، لكن ذلك السؤال ينقلنا إلى آخر: هل القمر نفسه صالح للبشر؟ ثم، سؤال آخر على الدرجة نفسها من الأهمية، وبفرض أن الحسابات ستكون دقيقة جدا، كيف يمكن أن نصمم منظومة للوقود تساعدنا على قطع كل تلك المسافة ذهابا وإيابا؟

 

سؤال آخر مهم لا بد أنه قد خطر ببالك، كم مركبة نحتاج؟ سنصعد للفضاء ثم نوجّه أنفسنا إلى القمر ثم نترك مركبة لتدور حول القمر ونُسقط أخرى منها لتنزل إلى القمر برواد الفضاء، تلك الأخيرة لا بد أن تمتلك الطاقة الكافية لأن تصعد، أو يصعد جزء منها، إلى الفضاء مرة أخرى ثم تلتحم بتلك التي تدور حول القمر وتبدأ في العودة إلى الأرض من جديد، ثم تصل إلى الأرض وتسقط عبر الغلاف الجوي. الكثير من الأسئلة سنطرحها في تلك الليلة، لكنك سوف تتعجب حينما تعرف أن كل سؤال منها قد تمت الإجابة عنه منفردا. بمعنى أوضح، كانت هناك مهمات فضائية كاملة للإجابة عن كل سؤال على حدة.

 

خطوة بخطوة

خذ مثلا الجزء المتعلق بدراسة طبيعة القمر من أجل مهمة تحمل بشرا، نتحدث هنا عن برنامج(7) "لونار أوربيتار" الذي بدأ في العام 1966 وانتهى في العام 1967، خمسة صواريخ كاملة بخمس مركبات الغرض من كل واحدة منها هو عمل مسح فوتوغرافي دقيق لسطح القمر بدقة تصل إلى متر واحد، كان الهدف الرئيسي لهذه المجموعة من المهمات هو إجابة سؤال واحد فقط، وهو: هل يمكن لنا أن نوجد كبشر على القمر، وأين يمكن أن نهبط على سطحه بحيث نحقق أكبر فائدة ممكنة؟ جمعت المركبة نحو 3000 صورة عالية الدقة، وما إن وصلت للأرض حتّى بدأ العلماء في العمل عليها من أجل الإجابة عن هذا السؤال تحديدا.

لونار أوربيتار
لونار أوربيتار

الآن لنتأمل الدور الذي قام به برنامج(8) "سورفيور"، والذي انطلق بداية من العام 1966 إلى العام 1968، نتحدث هنا عن سبعة صواريخ انطلقت للقمر مع سبع مركبات كان الهدف الوحيد منها هو اختبار إمكانية وضع مركبة على سطح القمر بسلام، نجحت بالفعل خمس من تلك المهمات ما فتح الباب لقدوم مركبة تحمل روّاد فضاء إلى القمر، الأمر إذن لم يتم دفعة واحدة، بل على خطوات صغيرة جدا تم اختبار كلٍّ منها بعناية شديدة. الآن جاء دور البشر، نحتاج إلى أن نضعهم في علب سردين ونلقي بهم إلى الفضاء، إنها أيضا فرصة جيدة لنتعرّف معا إلى الكيفية التي طُبّقت بها خطة التدرّج.

سورفيور على سطح القمر بنجاح
سورفيور على سطح القمر بنجاح

أولا، برنامج(9) "ميركوري"، رجل واحد على صاروخ بمرحلة واحدة ليدور حول الأرض، إنها محاولة الأميركان لتكرار ما فعله "يوري جاجارين" أول إنسان يسافر إلى الفضاء الخارجي ويدور حول الأرض، تطلب الوصول إلى تلك الرحلة بالنسبة للأميركان أكثر من 25 رحلة فضائية، لم تحمل كلها بشرا، بل كان الكثير منها هو اختبارات لأنظمة الدفع وتصحيحات المسارات وضبط الحسابات بأكبر دقة ممكنة قبل وصول البشر إلى الفضاء، بحيث تقل الأخطاء قدر الإمكان.

 

حسنا، هل قمت بالحساب؟ نحو 40 رحلة إلى الفضاء تحدثنا عنها إلى الآن، علما بأني لم أتحدث عن بعض المهام الأخرى المساعدة، لكن الهدف كان توضيح خطة العمل الأساسية، بعد نجاح مهمة "رجل واحد" إلى الفضاء كانت الخطة القادمة هي إرسال رجلين، على صاروخ له مرحلتان، نتحدث هنا عن برنامج(10) "جيمناي"، والذي هدف إلى التمرين على شيئين أساسيين، الأول هو التحام المركبات معا، لأن عملية الانفصال والالتحام مجددا في بيئة فضائية ستتم مرتين في الرحلة إلى القمر، وهي مهمة حرجة ودقيقة للغاية، وثانيا أن يتمكّن أحد روّاد الفضاء من الخروج عن المركبة إلى الفضاء الخارجي وأداء مهام محددة.

خطة متدرجة: رجل واحد في ميركوري – رجلان في جيمناي – ثلاثة رجال في أبولو
خطة متدرجة: رجل واحد في ميركوري – رجلان في جيمناي – ثلاثة رجال في أبولو

كان برنامج جيمني هو التدريب النهائي قبيل المهمة الرئيسية، خلال عشر رحلات كاملة بين عامي 1965 و1966، تمكّن البرنامج من إثبات تحمل البشر والآلات مددا طويلة في رحلات الفضاء تبلغ ثمانية أيام على الأقل أو أسبوعين على الأكثر، أصبحت الظروف ملائمة الآن للخروج بالعملاق ذي المراحل الثلاث "ساتورن"، أكبر صاروخ على سطح الأرض بحيث بدت مركبة رواد الفضاء أعلاه كذبابة تقف أعلى سيف! لقد بدأ البرنامج(11) "أبولو"، إننا الآن قريبون للغاية من الهبوط إلى سطح القمر عبر المركبة "أبولو 11″، مع ثلاثة رجال.

 

حسنا، لنرجع إلى التدريب مجددا، قبل صعود "أبولو 11" بثلاثة رجال إلى القمر يجب أن نتدرب مرة أخرى، الآن تأمل معي هذا التدرج في التدريب خلال 10 مهام. أولا، لنجرب قدرات الصاروخ ساتورن، ثم لنطلق رحلة غير مأهولة للوحدة القمرية (التي ستحمل رواد الفضاء من أعلى القمر إلى سطحه)، ثم بعد ذلك سنبدأ رحلات روّاد الفضاء، لكننا لن نأخذهم مباشرة إلى القمر، فالأمر خطير ويتطلب التدريب، لذلك سنخصص رحلة كاملة من أجل وضع روّاد الفضاء في مدار حول الأرض، ورغم أننا نجحنا في ذلك من قبل فإنه يجب أن ننجح فيه بالصاروخ الجديد.

العملاق ساتورن5 من الأعلى
العملاق ساتورن5 من الأعلى

حسنا، لنستكمل التدريب، يمكن الآن أن نبتعد برواد الفضاء قليلا إلى ناحية القمر، ثم يمكن أن نضعهم في مدار حول القمر، لكنهم لن ينزلوا إليه، هذا التدريب موجه فقط لوضع رواد فضاء حول القمر ثم العودة إلى الأرض، خلال عشر مهمات كاملة أمكن لرواد الفضاء أن يتدربوا بالفعل على كل مراحل الوصول إلى سطح القمر، لم يتبق إلا خطوة، وهي أن نفعل ما فعلناه نفسه في كل المهام السابقة مع قفزة واحدة إضافية إلى سطح القمر نفسه، كانت تلك مهمة صعبة، لكن هل تعلم أن الروس أيضا وصلوا إلى القمر؟

 

نظرية المؤامرة

حينما يُثار الحديث عن "مؤامرة" الهبوط على سطح القمر فإننا نتحدث فقط عن حمل البشر إلى القمر من مركبة تدور حول سطح القمر. بمعنى أوضح، لقد نجح السوفييت بالفعل في الوصول إلى القمر عبر المركبة(12) "لونا 3″، حيث التُقطت أول صورة للجانب البعيد للقمر، كذلك تمكّنت المركبات السوفييتية من الهبوط بسلام على سطح القمر، المركبة "لونا 9" مثلا والمركبة "لونا 13″، تمكّنتا من الهبوط على سطح القمر والتقاط الصور وكان ذلك عام 1966، أما المركبة "لونا 16″، في العام 1970 -بعد نهاية المعركة السوفييتية الأميركية بانتصار الأخيرة- تمكنت من إرجاع عينات صخرية قمرية إلى الاتحاد السوفييتي.

 

يعني ذلك أن الذهاب إلى القمر أمر ممكن، لقد حدث بالفعل أن تمكّن الطرفان المتحاربان من الوصول إليه، وكان التفوق الأميركي يتعلق فقط بوضع روّاد فضاء على سطح القمر، وهو بالطبع أمر يحمل الكثير من التعقيدات التكنولوجية والعلمية، لكن المشكلة تظهر حينما ننظر إلى فكرة الذهاب بالبشر إلى سطح القمر على أنها "كتلة" واحدة، عملية واحدة قد تنجح أو تفشل، في السباق الأميركي السوفييتي انطلقت عشرات المركبات الفضائية إلى القمر كل سنة.

القمر

لا تحاول مقارنة الأمر بما تراه هذه الأيام، لقد تراجعت البرامج الفضائية بقوة بعد انتهاء الحرب الباردة، لكن في تلك الفترة كان خبر في التليفزيون أو الجرائد بعنوان "صاروخ في الطريق إلى القمر" شيئا يوميا معتادا للناس في الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي، وذلك ببساطة لأن الذهاب إلى القمر لم يكن مهمة علمية في جوهرها، كل تلك التكلفة الهائلة كانت بديلا موضوعيا لتكلفة الطائرات والرؤوس والسفن الحربية، لقد كانت حربا، لكن القتال خلالها لم يكن بالدبابات، بل بالمركبات الفضائية، والمقاتلون لم يكونوا جنودا بل كانوا روّاد فضاء.

 

رائع جدا، يمكن أن نضع خيوط الأحجية إلى جانب بعضها البعض، نعرف الآن أن تلك الفترة من تاريخنا اشتملت على درجة كبيرة من الدقة العلمية، نعرف كذلك أن الأمر لم يتم كـ "ضربة" واحدة، بل هناك خطوات عديدة ومراحل متتالية تحمل كلٌّ منها إضافة بسيطة عن سابقتها، نعرف أيضا أن كل تلك المهمات لم تنجح، وكان الفشل هو طريقة لتعلم إصلاح الأخطاء. على سبيل المثال، ضمن المهام العشرين السوفييتية الأولى للوصول إلى القمر، نجحت مهمتان فقط، أما المهام العشرون الأميركية الأولى إلى القمر فقد نجح منها ثلاث مهمات فقط.

 

لكن العلماء يتعلمون من أخطائهم، بالوصول إلى البرنامج(13) "سورفيور" الأميركي كان عدد مرّات الفشل هو 2 من 7، وعدد مرّات الفشل في البرنامج الروسي "لونا" هو 2 من 10، تطور التعلم من الأخطاء شيئا فشيئا حتّى وصلنا للمرحلة التي فشلت فيها مهمة واحدة فقط ضمن برنامج أبولو كاملا والذي انطلق إلى القمر 17 مرة، هذا النجاح هو ببساطة نتيجة لتدريب طويل جدا وتكلفة هائلة، إنها معادلة بسيطة يتفق عليها الجميع.

 

ما المشكلة إذن، هل هي في إمكانية الهبوط على سطح القمر؟ هنا ستكون الإجابة هي "لا" بالطبع، فذلك ممكن جدا بحسب ما تعلمناه قبل قليل، وهو أمر قد نجح فيه السوفييت كما نجح الأميركان، أين إذن يمكن أن تكون المشكلة؟ هل يمكن أن يتعلق الأمر بفكرة "نظرية المؤامرة"؟ في كتابه "ثقافة المؤامرة: نسخة أبوكاليبسية من أميركا المعاصرة" (A Culture of Conspiracy: Apocalyptic Visions in Contemporary America) يجمع مايكل باركون خصائص "ثقافة" المؤامرة في ثلاث نقاط مهمة يقتنع بها مروّج نظرية المؤامرة كقاعدة تقع في خلفية أفكاره، وهي: لا شيء يحدث بالمصادفة، لا شيء يكون كما يبدو عليه، وكل شيء مرتبط ببعضه.

 

خذ مثلا فكرة الشر، عادة ما يقتنع مروّجو نظرية المؤامرة(14) أن هناك كيانا "شريرا" ما يحاول بث الفساد في العالم، فقط لغرض الإفساد، لكن تلك الصورة من "الشر" ليست معتادة في حياتنا العادية (إلا إذا كنت مقتنعا أن "الجوكر" قد خرج من فيلم "فارس الظلام" (The Dark Knight) إلى العالم الواقعي)، هناك أشرار بالفعل، لكنهم أشرار من أجل مصالحهم الخاصة. من غير المعتاد أيضا أن تظهر خطط غاية في الجودة فوق الدرجات الطبيعية، حيث يفترض مروّجو نظرة المؤامرة أن هؤلاء المتآمرين مهرة بشكل يفوق الدرجات الطبيعية، حيث لا يتركون وراءهم أي دلائل تشير إلى وجودهم، أو إلى خططهم، ذلك لأن الأجهزة الاستخباراتية تعمل على إخفاء كل الدلائل.

 

فأر جائع

رائد فضاء

على الرغم من ذلك فإن التناقض يظهر في الفكر التآمري حينما يستمر أحدهم في حديثه معك عن تلك الجودة ثم يقول فجأة كلمة "لكن"، "لكنهم أخطأوا في تصوير ظلال روّاد الفضاء"، أو "لكن المركبة القمرية لا يمكن أن تتخذ هذا الوضع"، أو "لكن مخرج المشهد أخطأ حينما نسي أن يضع النجوم في الخلفية"، هذا النوع من التناقض يظهر بقوة في نظرية المؤامرة، فتجد أن أحدهم يتحدث معك عن كمٍّ هائل من النقود قد أُنفق من أجل التغطية على شيء ما بدقة شديدة جدا ومهارات استثنائية، إلا أنهم أخطأوا في جزئية تافهة جدا!

 

في تقرير سابق بعنوان "الأرض مسطحة".. ما سر إيمان البعض بنظرية المؤامرة؟" يمكن أن تحقق فهما أفضل لسيكولوجيا المؤامرة وكيف يمكن أن يقع الناس في أسر الفكر المؤامراتي، خاصة مع الانتشار العالمي للظاهرة والذي يتعلق من الأساس بموجة واسعة من التشكّك في مفاهيم كالعقلانية والعلم والحداثة، لكن ما أود حقا أن ألفت له الانتباه الآن هو شيء آخر يتعلق بالانتشار الواسع لتلك الأفكار هنا في الوطن العربي تحديدا، خاصة في أجواء التواصل الاجتماعي.

 

في مناظرته مع جوردان بيترسون يضرب سلافوي جيجك، الفيلسوف السلوفيني الشهير، مثالا عن هتلر، وكان هذا الرجل -بحد تعبير جيجك- واحدا من أفضل حكّائي القصص في القرن العشرين، فحينما كان الشعب الألماني يعيش حالة من الفوضى، والتساؤل عن سبب تلك الفوضى، جاء هتلر بحكاية تجيب عن كل تلك الأسئلة، حكاية تقول: "السبب في اليهود"، يُصدِّق الناس تلك القصص لأنها تعطيهم معنى لحياتهم، تجيبهم عن سؤال الإحباط وتعطيهم فرصة ذهبية لتصوّر أن سبب كل تلك الكوارث لا يتعلق بهم من الأساس.

 

هل نفعل الشيء نفسه؟ هل ضغطت علينا أوضاعنا الاجتماعية والسياسية بحيث لم نعد نتحمل شيئا فبتنا نبرر كل هذا الفشل والإحباط بأسباب خارجة عنّا حتى نتمكّن من العيش بين كل ذلك؟ لا نعرف في الحقيقة، لكن الفكرة تستحق منك بعض التأمل، ماذا لو كانت كل المشكلة متعلقة بنا، ماذا لو كان البعض -مثل فأر جائع لم يأكل منذ خمسة أيام- يبحث عن قطعة جبن قديمة متعفّنة ليُطفئ بها نارا تتأجج في معدته؟ ماذا لو كنّا فارغين لدرجة أننا لا نمتلك إلا نظرية المؤامرة؟ ماذا لو كنّا فقط نبحث عن عدو لنعيش حياتنا ونحن نظن أنه السبب في كل مشكلاتنا؟ حسنا، ناسا هي العدو.

المصدر : الجزيرة