شعار قسم ميدان

10 محاضرات تُقدِّم لك علوم الدماغ ببساطة

ميدان - الدماغ البشري

خلال العقد الماضي، ومنذ اللحظة الأولى التي بدأ فيها الربيع العربي، نشأ اهتمام واسع من قِبل فئات عمرية متنوعة بالعلوم والفلسفات، الاهتمام الذي أثرى بدوره نقاشات كثيرة حول المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي نعيشها، لكن على الرغم من الانتشار الواسع الذي حققته بعض العلوم كالفيزياء وفروعها كعلم الفلك، فإن النقاشات في نطاق الأمور المتعلقة بالدماغ والعقل ما زالت تتخذ جانبا فلسفيا في غالبها، فسواء تحدّثنا عن الأخلاق أو العدالة أو حرية الإرادة أو الوعي أو السلوك أو الأسباب التي تدفع الواحد منّا لفعل ما يفعل، لا تجد حضورا واسعا للعلوم العصبية.

  

ربما لأنها معقدة بعض الشيء بسبب أن علوم الأعصاب تعتمد على قواعد بيولوجية وطبية أخرى، أو ربما لأن لدى البعض اهتماما أكبر بالفلسفة، أو لأن الكثيرين لا يدركون كمَّ التقدم الذي أحرزته العلوم العصبية في العقود القليلة الماضية بحيث أمكن لها إعطاء آراء قوية في أمور كهذه بدرجة كبيرة من التأكيد التجريبي. في كل الأحوال، فإن تجربة تعلم بعض الشيء عن الجديد في فهمنا للدماغ تحديدا ستكون ممتعة بصورة لا تتوقعها، وفي هذا التقرير آثرنا أن نبدأ من مجموعة من المحاضرات المبسطة التي تجمع في محتواها صفتين.

   undefined

  

الأولى هي البساطة، فعلى الرغم من التعقيد الذي تحمله تلك الموضوعات فإن مُقدِّم المحاضرة يُقدِّم فكرته بصورة احترافية للعامة، بدون أي خوض في أمور تقنية أو أكاديمية، أما الصفة الثانية فهي الإمتاع، فغالبا ما ستكون الموضوعات نفسها مثيرة للاهتمام أو سيُقدِّمها شخص هو نفسه مثير للاهتمام، الكثير منها يغلب عليه الطابع الكوميدي، لكنها جميعا ستُمثّل دفعة معرفية كبيرة في هذا الإطار تجهزك -إن أردت- لخوض مستقبلي أعمق.

  

ماذا عن الدماغ؟

حسنا، لنبدأ مع محاضرة مميزة لجيف ليكمان من جامعة هارفارد، يحاول خلالها أن يجيب عن سؤال مهم ربما جال بخاطرك في مرحلة ما، وهو: ما الذي يجعل الدماغ مختلفا، أليس عضوا كبقية أعضاء الجسم؟ لِمَ إذن لا نفهمه بسهولة؟ لِمَ نحن متأخرون كثيرا في علاج الاضطرابات العقلية إلى حدٍّ يجعلنا، إلى الآن، نقف عاجزين أمام الكثير من هذه الاضطرابات؟ هنا يجيبك ليكمان، بأسلوب بسيط للغاية ومُقدَّم للعامة من الأساس، بأن الأمر يكمن -ضمن أسباب كثيرة- في الوصلات العصبية بين خلايا الدماغ، تلك الخاصية العجيبة التي تجعل الدماغ ما هو عليه.

  

  

واحد من الموضوعات المثيرة للانتباه كذلك، لا شك، هو "الذاكرة"، إنه يرتبط من أحد جوانبه بمحاضرة ليكمان الأخيرة، لكن هذه المرة تهتم ايلينور ماجواير من "كولدج لندن" -في محاضرة أقل ما يقال عنها إنها ممتعة- بالذاكرة تحديدا، كيف تتشكّل؟ ولِمَ نتذكّر الأشياء أو ننساها؟ تضيف ماجوير كذلك إلى أفكارنا عن الذاكرة بعض الأفكار الثرية، فمثلا، الذاكرة لا تتعامل تحديدا مع الماضي، كما أنها ليست دقيقة كما تظن، وكذلك فهي ليست شيئا واحدا، إن هذا التعقّد الشديد الذي ستتعلّمه عن الدماغ قد يُغيّر وجهة نظرك في العموم عن الكثير من الأشياء، وعن العلم نفسه.

  

  

إليزابيث لوفتس، من جامعة كاليفورنيا، تأخذ النقطة المتعلقة بدقة الذاكرة إلى ما هو أبعد وأعمق من ذلك، حيث تتحدّث عما تسميه بـ "الذاكرة الكاذبة"، وتعني تلك الفكرة أن الذاكرة الخاصة بنا ليست كاميرا تسجّل الأشياء وتحفظها، بل هي أقرب ما يكون إلى صفحة ويكيبيديا حيث يمكن لأحدهم أن يتدخل ويحررها من حين لآخر، في محاضرتها بجامعة هارفارد تعرض لوفتس للعديد من القضايا الجنائية المهمة التي تدخلت فيها أخطاء الذاكرة، وتحكي -بأسلوب ممتع- عن الكيفيات التي يمكن بها أن تكون ذاكرتنا، بالتعبير الأكثر إثارة، "خائنة"!

  

  

أما عن النوم، وعلاقته بالذاكرة، فإن ماثيو وولكر، مؤلف الكتاب المعروف "لماذا ننام؟"، يأخذنا في رحلة ممتعة للتجول في أدمغتنا بحثا عن مواضع النوم عن طريق الإجابة عن سؤال في الاتجاه المعاكس: ما الذي يمكن أن يحدث حينما لا ننام؟ هنا يختنق موضع في الدماغ يُدعى "قرن آمون" (Hippocampus) بالمعلومات، يمكن أن نتصور هذه المنطقة كالبريد الإلكتروني الخاص بك، بحيث تستقبل المعلومات من كل مكان، لكن في هؤلاء الذين مُنعوا من النوم يبدو وكأن تلك المنطقة من الدماغ غير نشطة بالمرة، وكأنها تصد أيًّا من الرسائل الجديدة القادمة إليها، بينما كانت المنطقة نفسها أنشط بفارق واضح في هؤلاء الذين تلقّوا نوما جيدا.

  

  

ماذا عن الوعي؟

سؤال آخر مهم ربما جال بخاطرك كثيرا، وهو الوعي، ما الذي يجعلني أعرف أنني أنا الذي يقرأ هذا السؤال الآن ويعي بوجوده داخل هذا الجسد ويعرف أنه موجود مع الزمن، على بداهة هذا السؤال فإنه إلى الآن بلا إجابة، وهو موضوع تتشابك فيه نطاقات عدة، بداية من الفلسفة إلى الدين، لكن العلوم العصبية الحديثة تملك إجابة ممتعة أيضا عن هذا السؤال، في تلك النقطة يمكن أن نتأمل محاضرة ممتعة يقدمها سيث أنيل من جامعة ساسكس، وهو أستاذ في علم الأعصاب الإدراكي والحاسوبي.

   

  

المحاضرة بسيطة للغاية، مُقدَّمة للعامة، يهدف سيث خلالها إلى أن يقدم بعض الرؤى المعاصرة لظاهرة الوعي. على سبيل المثال، يشرح سيث الكيفية التي ينمو بها الوعي شيئا فشيئا، كذلك الكيفية التي ندرك بها العالم الخارجي، هل نتلقى المعلومات مباشرة من الخارج أم أن عقولنا كذلك تتدخل في صنع صورة العالم الخارجي لنا؟ من جهة أخرى يتضح لنا، وهذا هو الأهم، أن دراسة الدماغ ليست مجموعة من المعادلات التي تعطي نتائج واضحة بطريقة 1 + 1 = 2، ولكن الدماغ بطبعه عبارة عن منظومة معقّدة.

   

  

يمكن لسوزان جرينفيلد، عالمة الأعصاب والكاتبة المعروفة، أن تساعدنا بشكل أكبر في فهم تلك النقطة، فهى تسأل في محاضرتها بجامعة ملبورن عن عدة موضوعات مهمة، على سبيل المثال: ما مركز الوعي؟ هل للحيوانات وعي؟ متى يمكن أن نقول إن جنين الإنسان أصبح واعيا؟ متى يحدث ذلك؟ كيف يمكن لنا أن نتعامل مع الوعي عبر الأدوية؟ أسئلة كثيرة تُثيرها جرينفيلد وهي كاتبة ومتحدثه محترفة تعرف كيف توصّل المعلومة للناس، نعرفها في الوطن العربي من كتابها الذي صدر مُترجَما قبل عدة أعوام "تغير العقل".

    

  

يتعلق الوعي بمجموعة أخرى مهمة من الأمور، على سبيل المثال: كيف يُموضع الدماغ نفسه في الفضاء ثلاثي البُعد وكيف يمكن أن يتعرف على الأماكن ويُوجّهك إلى نقطة بعينها مثل الـ "GPS"؟ في تلك النقطة يمكن لجون أوكيف الحاصل على نوبل في الطب سنة 2014 مع ماي بريت موزر وإدوارد موزر أن يفيدانا، ففي سنة 1971 اكتشف جون أوكيف المكوِّن الأول لنظام تحديد المواقع داخل المخ البشري، عندما وجد أن نوعا من الخلايا العصبية -في منطقة الحصين بالمخ- ينشط بشكل كبير في الفئران عند الوجود في مكان ما من الغرفة، ثم تنشط خلايا عصبية أخرى عندما كانت الفئران تنتقل لأماكن أخرى، وصل أوكيف -من هذه الملاحظات- إلى ما نعرفه الآن باسم "الخلايا المكانية" التي تقوم بعمل خريطة للغرفة.

  

إلى ستانفورد

إن بداية جيدة، لكنها مختلفة قليلا عن طبيعة ما عرضناه، مع العلوم العصبية لا بد أنها ستكون من أروقة جامعة ستانفورد حيث يقدم روبرت سابولسكي، أستاذ البيولوجيا وطب الجهاز العصبي، مساقا ممتعا لغير المتخصصين في نطاق بيولوجيا السلوك الإنساني، المساق متعدد النطاقات ويتحدث في أكثر من نقطة، لكننا نود التركيز على محاضرتين فقط من هذا المساق يقدمهما ثلاثة من طلاب الدكتوراه في قسم العلوم العصبية بالجامعة.

   

  

يبدأ نيثن المحاضرة الأولى من تساؤل بسيط: ما الذي يمكن أن يدفع دجاجة لتعبر طريقا ما من أجل الوصول إلى الجهة الأخرى؟ ربما كانت تُحضر الطعام لأطفالها، أو ربما لأن الطقس حار، فرغبت أن تستمتع قليلا ببعض الماء في البحيرة المقابلة، وربما الكثير من الاحتمالات، لكن الإجابة عن هذا السؤال أعمق منها جميعا، لأننا نود أيضا أن نعرف ما الذي يحدث في دماغ البطة بحيث اتخذت هذا القرار، ماذا حدث في خلايا الدماغ خلال اللحظات القليلة جدا السابقة لعبور الشارع؟

    

  

من تلك النقطة ينطلق نايثن ورفيقاه، هاوس ودانا، لشرح تركيب الدماغ البشري، والجهاز العصبي في العموم، بصورة مبسطة ومُعدَّة لغير المتخصص، بداية من تشريح الدماغ ووظائف أجزائه ثم وصولا إلى الذاكرة والكيفية التي تتواصل بها الخلايا العصبية مع بعضها بعضا، من المفترض أن تجهز تلك المقدمة هؤلاء الذين يخوضون مساق سابولسكي للمزيد من التعمق في فهم السلوك البشري، مع موضوعات مهمة كاللغة والمرض العقلي والتزاوج، إلخ، لذلك سوف يكون من المفيد لو وددت الخوض قليلا في هذا المساق، لكن اهتمامنا فقط سيكون بهاتين المحاضرتين.

    

  

من جامعة ستانفورد ننتقل إلى أوريجون، هذه المرة مع الدكتور أوكتافيو تشوي، في مقدمة مبسطة لعلوم الأعصاب، يبدأ فيها من حالة شهيرة جدا تجدها في نصف مراجع العلوم العصبية تقريبا، وهي "فينياس كيدج"، وكان رئيس عمال بناء سكك حديدية أميركي دخل قضيب حديدي ضخم إلى رأسه ومر عبرها مدمرا جزءا كبيرا من الفص الجبهي، لكنه استمر حيًّا، وعلاقة تلك الحادثة بالربط بين التغيّر في سلوك أو طبيعة أو استجابة الإنسان والتغيرات في دماغه. في محاضرته المبسطة يبدأ تشوي من تركيب الدماغ، ثم ينطلق إلى التغيرات في تركيبته والتي تؤثر بشكل مرضي على الناس، ثم يشرح كيفية تواصل الخلايا العصبية مع بعضها بعضا، وكيف يرتبط هذا التواصل بالفكر والسلوك البشري.

  

حسنا، انتهت المحاضرة، وبقي أن نوضح عدة نقاط:

أولا: المحاضرات مهمة، وممتعة كذلك، ويمكنها أن تغنيك عن الكثير من الكتب التي قد تكون مملة في بعض الأحيان، الكتب هي إحدى طرق المعرفة وإن وُجدت طريقة أخرى أقدر على التوضيح فهي أفضل لا شك، لذلك كثيرا ما ننصح قرّاءنا بوضع خطة للمحاضرات بجانب القراءة، وكثيرا ما تهتم الجامعات بعرض محاضرات للعامة يلقيها مجموعة من أشهر المتخصصين في نطاقاتهم.

   

ثانيا: دعنا نوضّح أن تلك المحاضرات هي اختيارات كاتب التقرير، والتي انتقاها من بين مجموعة أكبر بتطبيق معيارين أساسيين وهما البساطة والقدرة على إثارة الانتباه، في نطاق علم الأعصاب تحديدا هناك عدد هائل من المحاضرات الممتعة، لكن اعتبر هذه المجموعة كبداية غير شاملة، ولا حتى قريبة من ذلك، خاصة أن بعضها يُفضّل توجهات بحثية بعينها يميل لها المحاضر، ولكنها فرصة للتعرف إلى هذا العالم والخوض فيه فيما بعد.

   undefined

  

أخيرا، لا بد أن البعض يتساءل عن مشكلة اللغة، كل المحاضرات التي نعرضها هنا باللغة الإنجليزية، لكن الكاتب اهتم أن تحوي بعض المحاضرات نصا كتابيا باللغة الإنجليزية حتى تسهّل عليك تخطي مشكلة اللكنة الإنجليزية، لكن في النهاية فإنه لا حل إلا بتطوير قدراتك في اللغة الإنجليزية، لا توجد باللغة العربية في هذا النطاق تحديدا مصادر يمكن أن تكون بهذا الثراء، وإذا أردت الخوض في الكثير من المعارف الممتعة فليس هناك حل آخر.

  

هل التعرف إلى الدماغ أمر ممتع؟ في المرحلة الثانوية كانت إحدى المشكلات التي تواجهنا في مادة الأحياء هي مدى تعقّد هذا الجزء الخاص بالجهاز العصبي، مع الجزء الخاص بالحمض النووي، لكن يتبيّن لنا في النهاية أن تلك المواد المعقّدة، والتي ازداد تعقيدها في الجامعة، تحمل الكثير من الإثارة والمتعة، ويمكن لها أن تفتح عيوننا، وإدراكنا، على عالم لم نكن لنتصوّر عمقه وجماله، ففي الكثير من النقاشات الثرية لا بد أن تتدخّل علوم الأعصاب لتقول كلمتها.

المصدر : الجزيرة