شعار قسم ميدان

توقعات نوبل للعلوم 2019 .. من يربح سباق العمالقة؟

ميدان - علوم علماء

عشرة أيام فقط تفصلنا عن أكبر وأقوى مهرجان علمي في العالم كله، حيث سيبدأ إعلان جوائز نوبل بالطب والفيسيولوجيا في السابع من أكتوبر القادم، تليها الكيمياء ثم الفيزياء في اليومين التاليين. موسم نوبل هو احتفال بالعلوم، تحوز اهتمام العامة والهواة بالضبط كما يفعل المتخصصون في نطاقاتهم البحثية، وذلك لأن نوبل كانت دائمًا الجائزة الأكثر "أناقة" وأهمية خلال قرن مضى، ولذلك فهي دائمًا فرصة ذهبية لجذب الناس إلى حب العلوم وعوالمها المثيرة حقًا.

  

وكانت مؤسسة "تومسون رويتر"، والتي نقلت تلك الخاصية الآن لمؤسسة تحليل بيانات ضخمة تدعى "تحليلات كلاريفيت"(1)، قد دأبت على عادة سنوية هامة وممتعة، وهي إعلان توقعاتها لجائزة نوبل، والتي تصدر في نهاية سبتمبر السابق لموعد إعلان الجائزة، ونجحت المؤسسة حتّى الآن في عشرات التوقعات. يشبه الأمر ترشيحات الأوسكار، لكنه لا يقتضي أن يربح أحد من تلك التوقعات جائزة نوبل، ولكن تحليلات كلاريفيت تضع مجموعة من المعايير التي تحدد شخصية نوبل كل عام، وعلى تعقيدها، فهي معايير سهلة الفهم.

    

على سبيل المثال(2)، تضم تلك المعايير ضرورة أن تكون أبحاث تلك الشخصية هي الأكثر استشهادا، بمعنى أن تكون أبحاثهم من الأهمية بحيث يستشهد بها باحثون آخرون في أعمالهم، وكلما ارتفع عدد الاستشهادات ارتفعت قيمة العمل العلمي. كذلك، تضم تلك المعايير أن تمثل أبحاث شخصية نوبل نافذة لنطاقات بحثية جديدة وأصيلة، مع ضمان تاريخ حافل بالجوائز العلمية رفيعة الشأن، ثم مقارنة إنجاز شخصية نوبل بالجوائز السابقة التي أقرتها هيئة نوبل، ثم الخروج بقائمة تضم 12 ترشيحا، 3 ترشيحات لكل من الفيزياء، والطب والفيسيولوجيا، ثم الكيمياء، والاقتصاد، لكن الأخير لن يكون موضوعنا في هذا التقرير.

      

نوبل للطب

حسنًا، لنبدأ من الأمعاء، في هذا المكان أنت أمام عالم غاية في القسوة يحتوي على وحوش بكتيرية بأعداد هائلة وسموم ومواد كيميائية خطرة، لذلك فإن استجابة خلايا الأمعاء ستكون دائمًا على حجم مهامها الحرجة بحيث تقوم بتجديد نفسها كل 2-4 أيام فقط، إنها أكثر الأعضاء نشاطًا من تلك الوجهة، وعند هذه النقطة يدخل "هانز كليفرز" Hans Clevers عالم الوراثة الجزيئية الألماني والذي طالما اهتم بتلك المنطقة من أجسامنا، فعملية التجدد المستمر هذه لابد وأنها تنطوي على كم تحول كبير ونشط لخلايا جذعية تسكن هذا المكان، لكن أحدًا لم يعرف أين توجد تحديدًا في الأمعاء.

     

"هانز كليفرز" Hans Clevers عالم الوراثة الجزيئية الألماني (وكالة الأنباء الأوروبية)

   

كان توقّع كليفرز وفريقه هي أنها تتواجد داخل تلك الثقوب الدقيقة جدًا بين خملات الأمعاء، وبالفعل تمكن من التوصل إلى جزيء يدعى LGR5 يتواجد فقط في تلك الخلايا الجذعية دون غيرها، وعبر تقنيات تحرير دقيقة للحمض النووي تمكن كليفرز وفريقه من صبغ الخلايا التي تحتوي على هذا الجزيء باللون الأخضر ثم قام برصد الخلايا الملونة في الأمعاء، كانت النتائج التي حصل عليها في سنة 2006 مبهجة ومفاجئة في ذات الوقت، فلقد كان أول من وجدها في التاريخ!  

    

  

تطور الأمر بعد ذلك فأصبح عزل الخلايا الجذعية أمرًا ممكنًا لكليفرز وفريقه، ثم استخدم صديقنا تلك الخلايا الجذعية لصناعة أعضاء صغيرة، الخلايا الجذعية بطبيعتها خلايا غير متخصصة ولكن يمكنها أن تتشكل، عبر قدرة عالية على التجدد والانقسام، لتتحول إلى خلايا متخصصة، بذلك تمكن كيفرز للمرة الأولى من صناعة أنسجة كاملة يمكن أن تصبح يومًا ما بديلًا لنقل الأعضاء، يمكن كذلك أن تصبح مستقبل الدواء، ويمكن أيضًا أن تكون أداة لاختبار الأدوية على أنسجة المرضى، عبر تطوير أعضاء صغيرة من خلاياهم الجذعية، دون الحاجة لاستخدام جسم المريض نفسه، هل تتخيل مستقبل تلك التقنيات؟

  

في الترشيح الثاني اختارت "تحليلات كلاريفيت" الثنائي جون كابلر John  Kappler وزوجته فيليبا ماراك Philippa Marrack، متخصصا علم المناعة الأميركيين، عن إنجازاتهما التي بدأت منذ الثمانينات في القرن الفائت حينما تمكّنا لأول مرة من معرفة تركيب مستقبلات الخلايا المناعية (التائية)(3) والتي تهاجم البكتيريا والفيروسات والفطريات التي تدخل أجسامنا. وبعد إتمام معاركها مع الأجسام الغريبة عن الجسم تنسخ الخلايا التائية أرشيف تلك الحرب لكي تتجهز لأي هجوم قادم من نفس النوع. على سبيل المثال، حينما تقترب فيروسات الحصبة مرة أخرى من أجسامنا فإن الخلايا المناعية تتعرف عليها فورًا وتهاجمها، لكن آلية هذه الهجوم كانت دائمًا غير معروفة بسبب أننا لا نعرف تركيب المستقبلات التي تقف على سطح الخلايا المناعية وترتبط بالأجسام الغريبة.

  

بعد ذلك الكشف طوّر هذا الثنائي اللطيف آليات مكّنتنا من فهم ما يسمى "التحمّل الذاتي(4) Self-Tolerance"، وهو قدرة الخلايا المناعية على التفريق بين الأجسام التي ينتجها الجسم والتعامل معها على أنها غير ضارة، وتلك التي تأتي من الخارج فيتعامل الجسم معها على أنها ضارة ويهاجمها، اضطراب هذا النوع من الاتزان يتسبب في الكثير من الأمراض، وكان كل من كابلر وماراك قد تمكنا من فهم تلك الآلية ما ساعدهم على تطوير علاجات أفضل لتلك الأمراض، كالتهاب المفاصل الروماتويدي والذئبة الحمراء ومتلازمة غيلين بار.

    

الثنائي جون كابلر John  Kappler وزوجته فيليبا ماراك Philippa Marrack (مواقع التواصل)
الثنائي جون كابلر John  Kappler وزوجته فيليبا ماراك Philippa Marrack (مواقع التواصل)

    

ومن رفيقان عملا معًا لعقود طويلة بحيث بات من الصعب أن تفرّق بين طريقتيهما في الحديث، إلى ثلاثة رفاق توصل كل منهم لنفس الكشف على حدة، أرنست بامبرج Ernst Bamberg، عالم الفيزياء الحيوية الألماني من معهد ماكس بلانك للفيزياء الحيوية، وكارل ديسيروث Karl Deisseroth هو أستاذ الهندسة الحيوية والطب النفسي والعلوم السلوكية في ستانفورد، وجيرو أندريس ميسنبوك Gero Miesenböck، أستاذ علم وظائف الأعضاء ومدير مركز الدوائر والسلوك العصبي في جامعة أكسفورد، والثلاثة كانوا على علاقة بشيء واحد رائع للغاية نعرفه باسم علم البصريات الوراثي(5) optogenetics.

    

تسمح تلك التقنية بالتحكم في خلايا الدماغ الحية باستخدام كابلات الألياف الضوئية، حيث يمكن تعديل العمليات العصبية (على سبيل المثال، تنقل الإشارات العصبية بين الخلايا) باستخدام إشارات بصرية فقط تثير الوصلات بين الخلايا، يمتد تأثير تلك التقنية من الإمكانات الهائلة، في الدقة والجودة، التي قدمتها لمراقبة ورصد أنشطة الخلايا العصبية داخل الأنسجة الحية، وبالتالي دراسة العديد من الأمراض العقلية بصورة أفضل، إلى العمل على تعديل النشاط العصبي الدماغي بالشكل المناسب للحد من تلك الأمراض، حينما تدخل إلى عالم البصريات الوراثية تشعر لوهلة أنك ضمن فريق آليس في بلاد العجائب، إشارات بصرية بسيطة تدفع بفأر للنوم وآخر للركض في دوائر، وبمجرد سحب القابس يقف كل شيء! ياللعظمة!

    

نوبل في الفيزياء

حسنًا، الآن دعنا ننطلق إلى ترشيحات نوبل في الفيزياء لهذا العام، وسنبدأ من أرثر إيكرت Artur Ekert أستاذ الفيزياء الكمومية من جامعة أوكسفورد عن مساهماته في تطوير ما نعرفه الآن باسم "التشفير الكمومي(6)" Quantum cryptography، لفهم أثر هذا الإنجاز دعنا نفترض الآن أنك تود شراء هاتف جديد من أحد الأسواق الإلكترونية، هناك ستضع بيانات بطاقتك الإئتمانية وتضغط فقط على زر "شراء" وينتهي الأمر، لكن .. ما الذي يمنع المخترقين من سرقة تلك البيانات؟ يمتد ذلك بدءا من عمليات الشراء البسيطة، مرورًا ببيانات الحكومات، وصولًا إلى شفيرات إطلاق الصواريخ ومواعيد بدء الحملات الحربية، كل ذلك يحتاج علم خاص، علم الأسرار!

      

أرثر إيكرت Artur Ekert أستاذ الفيزياء الكمومية من جامعة أوكسفورد (مواقع التواصل)
أرثر إيكرت Artur Ekert أستاذ الفيزياء الكمومية من جامعة أوكسفورد (مواقع التواصل)

   

لفهم الفكرة دعنا نتخيّل أنك ضابط استخبارات جزائري تود إيصال رسالة هامة إلى ضابط استخبارات آخر في الأردن، هذه الرسالة تم تشفيرها بقانون ما، ليكن مثلًا "كل حرف (أ) يقابل الرقم 5 وكل حرف (ب) يقابل الرقم 7 … الخ"، وهكذا لكل الحروف، بعد ذلك سترسل الرسالة ثم تتصل بصديقك لتخبره بقانون فك الشفرة، هذا القانون هو ما يسمى ب"مفتاح الشفيرة"، ودونه لا يمكن بسهولة فهم محتوى تلك الرسالة، فقط مجموعة من الأرقام، على المخترق إذن أن يركز عمله على اختراق رسالتكما ومن ثم معرفة طبيعة المفتاح.

  

هذا ما يحدث بالفعل حاليًا في عمليات الاختراق، مع فوارق هائلة بالطبع في طبيعة كل ذلك، فالقصد هنا عرض مثال بسيط للغاية بغرض الفهم، لكن ماذا لو افترضنا أنك أرسلت مفتاح فك الشفرة لصديقك على مستوى كمومي، هنا لا يمكن للمخترق أن يتعرف إلى ذلك المفتاح، ببساطة لأن قواعد العالم الكمومي تقتضي أن تتغير حالة الفوتونات كلما تم رصدها، وحينما يتدخل المُخترق بينكما ستختلف طبيعة الفوتونات بينكما فيعرف كل منكما على الفور أن هناك مخترق مما يدفع لتبديل الشفيرات بشكل لحظي، ويحدث ذلك في كل مرة.

    

  

لتطوير تلك الفكرة استخدم إيكرت مفهوم التشابك الكمومي، وهو علاقة لحظية بين جسيمين تحدث بغض النظر عن المسافة، ما ساعد على تطوير نظم تشفير فتحت عصرًا جديدًا للأمن الرقمي بعد أن أعلن الباحثون في هذا النطاق أنه قارب على الانتهاء بسبب القدرات الهائلة للحواسيب الحديثة بحيث أصبح من الممكن أن تقوم، في مرحلة قريبة بفك أي شفيرة معروفة. بالطبع لازالت الحرب بين المُخترقين والعالم الرقمي مستمرة، لكن إيكرت دفع خط النهاية إلى عقود مستقبلية طويلة ربما.

  

في الترشيح الثاني لنوبل نلتقي بفيزيائي واحد، وهو جون بيرديو John Perdew أستاذ الفيزياء والكيمياء بجامعة تيمبل الأمريكية، كان بيرديو واحدًا من الأسماء الكبيرة المرتبطة بتأسيس وتطوير ما يعرف بنظرية الدالة الوظيفية للكثافة(7) Density functional theory، مع هذه النظرية أمكن توقّع عدد من خصائص المركبات بدقة شديدة، كالطاقة الكلية للنظام، وكثافة الإلكترونات في المدارات حول النواة، بجانب المعاملات الفيزيائية والضوئية للمادة، وهو ما ساعد بدوره في تحقيق قفزات غير مسبوقة في التطورات التقنية التابعة لعلم الكيمياء الكمومية وعلم فيزياء المواد والعلوم الجيولوجية والفيزياء والكيمياء الحاسوبيتين.

  

قبل تلك النظرية كانت معادلة الدالة الموجية الخاصة بالفيزيائي النمساوي إيرفين شرودنغر هي الأداة المستخدمة لتحديد خصائص المنظومة الذرية، لكنها كانت معقدة جدًا حينما يتعلق الأمر بأكثر من ذرة واحدة، ونتائجها صعبة التفسير، هنا تمكنت نظرية الدالة الوظيفية للكثافة من استبدال كل ذلك التعقد بمسألة واحدة ذات ثلاثة متغيرات فقط، وبالتالي أصبح التعامل معها رياضياتيًا وفيزيائيًا هو أسهل بفارق كبير.

  

في الترشيح الثالث لنوبل في الفيزياء تضع  "تحليلات كلاريفيت" توني هاينز Tony Heinz أستاذ الفيزياء التطبيقية والفوتونات بجامعة ستانفورد(8) عن إنجازاته الشاهقة في تطوير فهمنا للخصائص الضوئية الإلكترونية للمواد في نطاق النانو والتي تتخذ هندسة ثنائية البعد، مثل أنابيب الكاربون النانوية، والجرافين، وأشباه الموصلات ثنائية الأبعاد مثل ثاني كبريتيد الموليبدينوم، في كل تلك المواد هناك إمكانات واعدة لمستقبل أكثر توفيرًا للطاقة وأكثر قدرة على مواجهة التعقيدات التكنولوجية المعاصرة.

      

توني هاينز Tony Heinz أستاذ الفيزياء التطبيقية والفوتونات بجامعة ستانفورد (مواقع التواصل)
توني هاينز Tony Heinz أستاذ الفيزياء التطبيقية والفوتونات بجامعة ستانفورد (مواقع التواصل)

  

سيساعد ذلك في كل شيء تقريبًا، بداية من الطب وصولًا إلى الحوسبة. لفهم الفكرة، دعنا نتأمل ما يُعرف بـ "قانون مور" والذي ينص على أن عدد الترانزستورات على شريحة المُعالج يتضاعف كل عامين تقريبًا، ما يعني إنتاج حواسيب أكثر دقة وقوة بأسعار أقل، لكن هذا القانون يصل الآن لحدوده التقنية، لأنه لا يمكن لنا تصغير الترانزستورات أكثر من ذلك، في تلك النقطة ستساعد تلك المواد الجديدة، حيث أن خواصها الكهربية والمغناطيسية أفضل بمراحل واسعة من عالم السيليكون، قريبًا، ربما خلال عقد أو اثنين، سننتقل إلى عوالم الكربون.

    

نوبل في الكيمياء

أما في الكيمياء فيمكن أن نبدأ من الثنائي رولف هوسجين Rolf Huisgen من جامعة ميونخ الألمانية ومورتين ميلدال Morten P. Meldal أستاذ الكيمياء بجامعة كوبنهاجن الدنماركية، ترى "تحليلات كلاريفيت" أن إنجازات كل منهما في الكيمياء التخليقية(9) حققت مكاسب واسعة لهذا العالم، الكيمياء التخليقية هي ببساطة القدرة على استخدام وحدات بناء كيميائية صغيرة لبناء مركبات جديدة، لكن الأمر ليس بسهولة تركيب قطع الليجو معًا، هناك الكثير من التعقيدات والتحديات التي تمنع الباحثين من صناعة مركبات جديدة؟ في الواقع فإن أهم الأسئلة في نطاقات كتلك تتعلق بالإجابة عن سؤال "لم لا؟"، لم لا يمكن أن نخلّق هذا المركب؟ لمَ لا نضيف هذا الجزء ليغيّر من صفاته؟ لم لا نستخدم عامل حفّاز مختلف؟ على صعوبته، يتفق الكثيرون أن الكيمياء التخليقية أشبه بالفن في قدرتها على الابتكار، الذي بدوره يفتح الباب لدعم عدد كبير من النطاقات تبدأ بالدواء وتصل إلى النفط.

  

تفاعل هوسجين على سبيل المثال يمكّننا من الحصول على مركبات ذات حلقة خماسية، وله نطاق استخدامات واسع يبدأ من تصنيع المركبات المستخدمة في اختبارات الجودة وصولًا إلى تعليم المركبات الحيوية من أجل فحص خطوط سيرها في الجسم، أما التفاعل الذي صممه ميلدال، بناء على تفاعل هوسجين، فله دور قوي في إنتاج بيبتيدات تساعد في الاستجابة المناعية لبعض الأنواع من السرطان، كذلك تمكن من إنتاج بيبتيدات تحتوي على حمض فوسفينيك يمكن أن تساعد في السيطرة على مرض هشاشة العظام، كل من هوسجين وميلدال تمكنا من خلق شيء جديد تمامًا كان الحصول عليه يومًا ما أشبه بمعجزة.

  

في الترشيح الثاني نلتقي بـ إدوين ثاوسرن Edwin Southern، أستاذ الكيمياء الحيوية بجامعة أوكسفورد، يشتهر ثاوسرن بأنه صاحب "لطخة ساوثرن(10) Southern blot"، وهي الآلية التي تمكن من خلالها من تحديد مناطق معينة من الحمض النووي (الجين) ودراستها على حدة، هذا هو ما فتح الباب، ولازال، إلى عملية رسم خريطة كاملة للجينوم، ولفهم مدى تعقيد هذا النطاق يمكن فقط أن تتأمل طول الحمض النووي في كل خلية بشرية، إنه حوالي 2 متر بحد أدنى، وعدد الخلايا في جسمك هو حوالي 37 تريليون خلية، هل تتخيل ذلك؟

    

إدوين ثاوسرن Edwin Southern، أستاذ الكيمياء الحيوية بجامعة أوكسفورد (وكالة الأنباء الأوروبية)
إدوين ثاوسرن Edwin Southern، أستاذ الكيمياء الحيوية بجامعة أوكسفورد (وكالة الأنباء الأوروبية)

    

قَطْع جزء صغير جدًا من شيء بهذا الحجم سيكون لا شك أكثر تعقيدًا، بفارق واضح، من البحث عن إبرة في كومة قش، لكن ثاوسرن فعلها عبر تقنية معقدة تتضمن تقطيع الحمض النووي إلى أجزاء صغيرة ثم فصلها عن طريق إضافة "جِل" خاص، بعد ذلك تتعرض تلك العيّنة لقطعة حمض نووي مهجنة (أي مصنوعة حسب الطلب من تتابع وحدات يشبه ذلك الذي نبحث عنه)، ثم عبر تفاعل كيميائي بسيط نخلط كل القطع بتلك التي صنعناها فتقوم الأخيرة بتحديد موضع الجين على الحمض النووي، وهكذا بالنسبة لكل جين نعرفه ونود الحصول عليه.

  

وأخيرًا، في ثالث ترشيح للكيمياء تضع مؤسسة "تحليلات كلاريفيت" ثلاثيًا ساهم بقوة، عبر خلق تقنيات دقيقة وفعّالة، في إنجاح مشروع الجينوم البشري، الأول هو ليروي هود Leroy E. Hood من مؤسسة كاليفورنيا للتكنولوجيا، والثاني هو مارفن كاروثرز Marvin Caruthers أستاذ الأحياء من جامعة كولورادو والثالث هو مايكل هونكابيللر Michael Hunkapiller، رئيس مؤسسة "باسيفيك بيوساينسز"، عمل هذا الفريق، كلٌ على حدة في بعض الأحيان ومعًا في البعض الآخر، في نطاق كيمياء الحمض النووي، واستطاعوا، عبر أدواتهم، تخليقه ما ساهم في تطوير عدة علاجات فعالة لأمراض كالسرطان، ترشح "تحليلات كلاريفيت"(11) هذا الثلاثي تحديدًا لتوضيح الكيفية التي تتمكن بها الأدوات المبتكرة من دفع المعرفة كما تفعل البحوث الأساسية.

    

  

حسنا، كانت تلك هي تسعة توقعات عن ثلاث جوائز سوف يبدأ إعلانها قريبًا، قد لا نجد أي منها في إعلانات جائزة نوبل القادمة، لكن الفكرة من هذا التقرير ليست عرض التوقعات بقدر ما هي تعريفك بهذا العالم المبهر على تعقيده، والرصين على قدر ما يقدمه من سيرة "فانتازية"، إنه عالَم العِلم، مئات الآلاف من الباحثين عبر المنهج العلمي يحسّنون بشكل يومي من قدراتنا على فهم الكون، وذواتنا، يساعدون في تطوير أساليب حياتنا، والخوض في المجهول الكوني الواسع لمعرفة المزيد من الأسرار، نحن هنا أمام تسع من تلك النوافذ التي تطل بنا على عالم جديد، جريء، وعظيم. ورغم كل التوقعات السوداء عن مستقبل مؤسف في ظل التوتر الذي يشهده هذا الكوكب خلال العقود القليلة الماضية فإن العلم في كثير من مساحات اشتغاله، يقف ليرسم لوحة أكثر تفاؤلا.

المصدر : الجزيرة