شعار قسم ميدان

كرة القدم التي تعيد نفسها

midan - sport

(1)

الوقت الحالي، مكتب أنيق في مقر نادي "آر بي لايبزيغ" بولاية ساكسونيا شرق ألمانيا، يدلف المدرب السابق "رالف رانغنيك"، والذي أصبح المدير الرياضي بعد وفائه بوعده وصعوده بالفريق للـ"بوندزليغا" في غضون 7 سنوات فقط من إنشائه، ثم يليه "رالف هازنهويتل" المدرب الحالي المنوط بتنفيذ الخطة الجديدة الجريئة، والتي لم تكن أكثر من تصريح خجول صاحبته السخرية في 2009؛ المنافسة على اللقب. 
 

انتهى الدور الأول والفريق في المركز الثاني، على بعد ثمان نقاط من "هوفنهايم" الثالث الذي يأبى الخسارة حتى الآن، ولكن الخطر الحقيقي يأتي من ميونيخ حيث يقبع وحش بافاريا، وبينما لم تكن تلك العبارة لتبدو منطقية في المعتاد، لأن بايرن ميونيخ خارج المنافسة من الأصل، فالواقع يقول أن فارق الثلاث نقاط يمكن تذليله مع وضع إرهاق دوري الأبطال وإصابات لاعبيه المتكررة في الاعتبار.
 

المهم أن يجد "هازنهويتل" حلًا للإرهاق الذي بدأ يوثر على نتائج الفريق، وأفقده 6 نقاط من هزيمتين في آخر أربع مباريات، كانت إحداها على يد البايرن نفسه، والذي فاز بمبارياته الست الأخيرة.
 

* "رالف"، كل الإنجازات العظيمة تبدأ بخطوة، تلك ليست خطبة حماسية بل حقيقة نعلمها نحن دونًا عن الباقين، الجميع يتحدث عن المنافسة على اللقب ولكن علينا أن نعزل لاعبينا عن الضغط لأنه لن يؤدي إلا لمزيد من الأخطاء، اجتمع بفريقك وادرسوا الخيارات المتاحة وأبلغني بما تصل إليه الأمور.

(2)

1933، "تشارلز ريب" رجل العسكرية البريطاني الحاصل على درجة في المحاسبة، يخرج من ندوة مثيرة عن جيل أرسنال "تشابمان" العظيم الذي فاز بكل شيء في إنجلترا، أمران فقط يحتلان كل تفكيره، شغف جديد ناشىء باللعبة التي لم يعرها انتباهًا من قبل، وحماس جنوني لدمجه بالشغف القديم؛ الأرقام.


هربرت تشابمان وفريق أرسنال الذهبي (مواقع التواصل الإجتماعي)
هربرت تشابمان وفريق أرسنال الذهبي (مواقع التواصل الإجتماعي)

وفي زمن تسيطر فيه الذاكرة والعواطف والانطباعات الشخصية على تقييم كل شيء، يبدأ "ريب" رحلة طويلة من الاحتكاك باللعبة، يكتشف فيها حاجته لرجل مثله لا يعترف إلا بالإحصائيات والحقائق الصلبة، بالطبع ستتدخل الحرب لتعطيل خططه قليلًا حتى 1950، عندما تمكن من تدوين ملاحظاته الرقمية لمباراة كرة قدم للمرة الأولى، ربما في تاريخ اللعبة بأكملها.
 

بعدها سيحضر المحاسب الإنجليزي 2200 مباراة تقريبًا في خمسة عشر عامًا من ضمنها مونديال 1958، وسيسجل كل شيء عن كل شيء؛ التمريرات، التسديدات، دقتها، كثافتها، مواقع البداية والنهاية، إلخ، ثم سيعود لمنزله ليقضي ثمانين ساعة لتحليل كل مباراة ومقارنتها بغيرها والبحث عن الأنماط المتكررة، لقد تخطى الأمر الشغف للهوس، وصار مرتبطًا بحاجته الدائمة لليقين والسيطرة على كل شيء وإخضاعه للحساب.
 

الفاعلية، هذا ما يبحث عنه؛ أن تحقق فرق الكرة ما هو أكثر  بما هو أقل.
 

(3)

رالف هازنهويتل مدرب لايبزيغ الحالي
رالف هازنهويتل مدرب لايبزيغ الحالي
 

الوقت الحالي، غرفة الاجتماعات الرئيسية بمقر "لايبزيغ"، طاولة تسع 12 شخصًا يجلس على رأسها "هازنهويتل" ويتقدمه فريق عمله.
 

* سأحاول الاختصار، هدفنا استكشاف الحلول التي نملكها لنمنح لاعبينا الراحة كلما أمكن في الدور الثاني، تطبيق الضغط يؤدي لمعدلات ركض جنونية ولا سبيل لتخفيفه لأنه أصبح سمة غالبة في فرق المؤسسة، بالإضافة لأن "رانغنيك" سيعارض ذلك، الهدف هو الوصول لما هو أكثر بما هو أقل.

 

بدأت الاقتراحات المتسرعة من الجميع؛ تخفيض الحمل البدني في التدريبات، مشاركة أكبر للبدلاء، اقترح طبيب الفريق جلسات علاج طبيعي عقب المباريات مباشرة، كلها كانت حلول بسيطة قابلة للتحقيق وهذه هي المشكلة، النمساوي يريد شيئًا أكبر  وأكثر فاعلية، لذا فضّ "هازنهويتل" الاجتماع سريعًا واعدًا بدراسة كل المقترحات وهو ما لم يحدث بالطبع، بدلًا من ذلك عاد إلى منزله وفعل ما يفعله عادة؛ مشاهدة المزيد من مقاطع الفيديو لفريقه وتدوين الملاحظات، قبل أن تدخل زوجته لتسأله عن شيءٍ ما، وتبدي إعجابها بتمريرة "كلوسترمان" الطويلة المتقنة التي تلقاها "بولسن" على حدود منطقة الجزاء، وهيأها لزميله "فيرنر" ليسددها في الشباك الجانبية.
 

توقف "هازنهويتل" عن تدوين ملاحظاته وأتته فكرة عبقرية.
 

(4)

الوقت الحالي، ملعب "أولد ترافورد"، لقاء ما بعد مباراة مانشستر يونايتد وليفربول مع "يورغن كلوب" مدرب الأخير.

– تلقيتم هدفًا متأخرًا رغم تقدمكم في النتيجة أغلب اللقاء، ما الذي حدث؟

– الكرات الطويلة حدثت! فريقي قدم مباراة ممتازة، لعبنا كرة قدم جيدة، ولكن في النهاية كان هناك عدد كبير من طوال القامة في مناطقنا وقد أمطرونا بالكرات الطويلة، مع كل هذا الضغط كان تلقي الهدف حتميًا.
 

(5)

1968، مقر الاتحاد الملكي البريطاني للإحصاء، الحدث هو نشر أول بحث إحصائي في تاريخ كرة القدم بعنوان "المهارة والحظ Skill & Chance" لصاحبه "تشارلز ريب"، جيل أرسنال و"تشابمان" نفسه قد توفوا من زمن بعيد، وربما كان هذا من حسن حظهم لأن ورقة "ريب" كانت لتقضي على فترتهم الذهبية قبل أن تبدأ.
 


تشارلز ريب أول محلل إحصائي في تاريخ كرة القدم (مواقع التواصل الإجتماعي)
تشارلز ريب أول محلل إحصائي في تاريخ كرة القدم (مواقع التواصل الإجتماعي)


نظرية "ريب" كانت غاية في البساطة؛ كرة القدم لعبة عشوائية جدًا، فواحدة من كل تسع تسديدات تسجل هدفًا، ولكن لا سبيل لمعرفة أي واحدة ستكون، والمباريات مليئة بالتحولات السريعة المتتالية في وسط الملعب نتيجة لنجاح الفرق في استخلاص الكرة أكثر من الاحتفاظ بها، ووسط كل هذه الفوضى هناك إحصائيتين فقط جديرتين بالاهتمام لأنهما عبرا عن منظومة متكررة يمكن الاعتماد عليها، وهي الشيء الوحيد الذي يمكن استخدامه لتغليب المهارة على الحظ، أو الشق الأول من عنوان البحث على شقه الثاني، بالتالي نتجت ورقة "ريب" في شكل أشبه بعملية حسابية جافة، لا مجال فيها للجدال.
 

المعطيات:

1- عند بدء سلسلة من التمريرات الأرضية، لا تتخطى نسبة نجاح الأولى منها 50% وتتضاءل مع كل تمريرة إضافية، لذا تقف أغلب المحاولات عند التمريرة الثالثة ولا تكتمل الرابعة إلا في 8% فقط من الحالات.

 

2- 50% من الأهداف المسجلة عمومًا تأتي من كرات تم استخلاصها بالقرب من منطقة جزاء الخصم، وهو ما يُعد منطقيًا كونك لا تحتاج إلا تمريرتين أو ثلاثة من هناك لتصل للمرمى.
 

الاستنتاج:

* أفضل طريقة لبناء الهجمة هي التمريرات الطولية نحو منطقة جزاء الخصم، بهذا تتضاءل فرص الخطأ في التمرير الأرضي، ويقل الوقت المستهلك لبناء الهجمة، وتتعاظم فرص التسجيل لكل فريق كون الكرة تصل بكثافة أكبر للمنطقة التي تصبح فيها مهارته في استخلاصها أكثر فاعلية، وتؤدي لتسجيل أكبر عدد من الأهداف.

 

انتهت ورقة "ريب" واضعة – ربما دون دراية منه – أسس التدريب وممارسة اللعبة في إنجلترا حتى اللحظة الحالية، فيما عُرف لاحقًا بأسلوب الكرات الطويلة أو "اللعب الإنجليزي".
 

(6)

الوقت الحالي، غرفة الاجتماعات مجددًا ولكن "رانغنيك" حاضر تلك المرة، "هازنهويتل" قضى ليلته في إعداد العرض.

صورة تجمع رالف رانغنيك مدرب
صورة تجمع رالف رانغنيك مدرب "لايبزيغ" السابق ومديره الرياضي الحالي برالف هازنهويتل مدرب لايبزيغ الحالي

* منذ خروج تكتيك" الضغط العكسي Counter Pressing" للنور في الثمانينات مع "بييلسا" و"فينغر"، ثم إعادة إحيائه بشكل أوسع مع "كلوب" و"غوارديولا" في العقد الأخير، اعتمدت تلك الفلسفة على منهجية واضحة واقترن الضغط العالي في مناطق الخصم من دون الكرة، بالحرص على بناء الهجمات من الخلف أثناء الاستحواذ عليها أو "Build-Up Play"، بكل ما يتطلبه ذلك من عناصر، كالمدافع المُمرر" Ball Playing Centre Back" مثل "هوملز"، وظهيري الطرف المهاجمين "Marauding Full Backs" كـ"ألفيش"، وانتهاءًا بالقطعة الرئيسية التي تربط كل ذلك ببعضه؛ لاعب الارتكاز العصري المنوط ببناء الهجمات بقدر إفسادها كـ"بوسكيتس"، وحاليًا يمكنكم مشاهدة "كلوب" يكرر نفس النمط بكفاءة شديدة مع "هندرسون"، وهو ما اعتمدنا عليه بدورنا على مدار السنوات الماضية، فقط بطريقة أكثر مباشرة وعمودية.
 

*  الآن نقف وأمامنا ثلاث حقائق لا تقبل الجدال؛ الأولى هي أن الإرهاق بدأ يضرب الفريق، والثانية هي أن أكثر ما نجيده هو استعادة الكرة في مناطق الخصم، والثالثة هي أن عملية البناء من الخلف تستهلك كثيرًا من طاقتنا أثناء المباريات، خاصة مع انتشار ثقافة الضغط بسرعة هيستيرية في ألمانيا مؤخرًا، فلدينا الآن ليفركوزن، هوفنهايم، دورتموند وغيرهم في الطريق، وهو  ما يجعل بناء الهجمات في مواجهتهم أصعب بدوره، هذا هو عيب تلك المنظومة الذي لم يلحظه أحد من قبل؛ أنها تحمل السم والترياق معًا، وكأننا نواجه نسخ مطابقة من أنفسنا، فالضغط هو ذاته السبيل الوحيد لإفساد الـ"Build-Up".

توماس توخيل مدرب دروتموند (رويترز)
توماس توخيل مدرب دروتموند (رويترز)

* الحل؟ فصل هذه الثنائية واستبدال عملية البناء بتمريرة طولية واحدة، وبهذا نصل بسرعة للمنطقة الحرجة حول مربع عمليات الخصم وفي نفس الوقت نلغي أثر الضغط العكسي عندما يطبقه خصومنا، والباقي مفهوم بالبديهة، ليست الطريقة الأمثل أو الأمتع للعب كرة القدم، ربما هي بدائية أكثر من اللازم ولكنها فعالة، وهذا ما نحتاجه الآن، تذكروا أن هدفنا في الفترة القادمة هو الوصول لما هو أكثر بما هو أقل.
 

* تلك الطريقة لاقت نجاحًا مبهرًا في انجلترا مع "كلوب" و"غوارديولا"، وعلى حد علمي فلم يسبق لأحد أن مزج بين تكتيك حديث كالضغط العكسي، يُعد آخر ما وصل إليه علم التدريب، وبين آخر بدائي كالكرات الطولية إلا مؤخرًا.
 

نحن بصدد ثورة يا سادة، نحن فقط لا ندرك ذلك بعد.

_____________________________

ملاحظة: الحوارات الواردة في التقرير تخيلية، وهي تهدف لإيضاح فكرة دورة التكتيك المغلقة.

المصدر : الجزيرة