شعار قسم ميدان

أسئلة لا يجيبها أحد في بايرن ميونيخ!

Soccer Football - Champions League - FC Bayern Munich vs RSC Anderlecht - Allianz Arena, Munich, Germany - September 12, 2017 Bayern Munich coach Carlo Ancelotti REUTERS/Michaela Rehle
إذا سألت أي طفل في الخامسة من عمره عن أسباب رحيل أنشيلوتي فسيجيبك بأربع أو خمس نقاط على الأرجح، لاحظها الجميع عبر 15 شهرًا للإيطالي في ميونيخ وتكررت عبر أغلب التحليلات لأداء الفريق تحت قيادته، أربع أو خمس نقاط لن تخرج عن قلة الحلول الهجومية أثناء الاستحواذ، وضعف التدريبات على المستويين البدني والتكتيكي، وانعدام الانسجام بين عناصر الفريق رغم مرور 60 مباراة مع دون كارلو، بالإضافة للفشل التام في تطوير المواهب الشابة التي تعتمد عليها بافاريا كحاجز أخير أمام جنون سوق الانتقالات، وبالطبع تخطي الخطوط الحمراء في التعامل مع نجوم الفريق. (1)
      

لعل الأخيرة هي الأهم في كل ما سبق والسبب واضح، فعلى الرغم من منطقية تلك الأسباب وكفايتها للإطاحة بأي مدرب، فإن توجيه نفس الأسئلة لنفس الطفل منذ عامين فقط وقبل التعاقد مع كارلو كان سيُنتج نفس الإجابات تقريبًا، فلم يُعرف عن الرجل يومًا ولعه بالتكتيك والتفاصيل والحصص البدنية، ولاشك أنك ستجد صعوبة كبيرة في تذكر خمسة أسماء شابة تحولت معه لنجوم رغم امتداد مسيرته التدريبية لما يقرب من ربع قرن، وقطعًا هو ليس أفضل مدرب فيما يتعلق بالتعامل مع التكتلات الدفاعية التي اعتاد الفريق مواجهتها منذ ثلاثية هاينكس، وهو بالضبط ما يفسر اختيار أولي هونيس للعداء مع "الكبار الخمسة" كسبب رئيس لفشل التجربة برمتها، واللافت أنها كانت إحدى المناسبات القليلة التي وافقه فيها رومينيغه. (2)

    

قمة الجبل الجليدي
الحقيقة أن العداء لم يكن مع الخمسة الكبار فحسب، بل امتد لاحقًا لعداء مع إدارة البايرن ذاتها، فليس خفيًا على أحد أن الثنائي هونيس ورومينيغه كانا قد طلبا صراحة من أنشيلوتي إشراك روبن وريبيري وبغض النظر عن رؤيته الفنية، (3)  ومؤخرًا كشفت الـ"كيكر" الألمانية أن رومينيغه كان يتلقى اتصالًا غاضبًا من الجناح الفرنسي كلما تم تبديله أو استبعاده من التشكيل، (19) وأضيف لذلك انتقادات مولر العلنية للإيطالي لتضع هونيس في موقف "يستحيل الخروج منه" على حد تعبيره. (2) لكن ما قاله هونيس لم يكن أكثر من رد خادع لا يوفر إجابة حقيقية، بالضبط مثل الجبل الجليدي الذي لا نرى إلا قمته الطافية، فاختصار الأزمة في العداء مع الخمسة الكبار هو أشبه بالقول إن بايرن ميونيخ خسر أمام هوفنهايم لأنه لم يسجل، مجرد تفسير شكلي لإقالة مدرب في وقت لم يعتده العملاق البافاري، وكأن وقوع المشاكل في غرفة الملابس أو فشل البايرن في التسجيل هو واقع حتمي لا مناص منه وليس أسئلة أخرى تحتاج لإجابات بدورها.
     

مدرب البايرن المُقال الإيطالي كارلو أنشيلوتي
مدرب البايرن المُقال الإيطالي كارلو أنشيلوتي
    

هو موقف يستحيل الخروج منه فعلًا، ولكن يستحيل تفسيره كذلك، فما الذي يدفع رجلًا كأنشيلوتي للتمسك بعناده أمام مطالبات الإدارة بإشراك روبن وريبيري وباقي الأساسيين، وهو الرجل الذي عُرفت عنه المرونة الفائقة في التعامل مع التدخلات الإدارية لدرجة اتهامه بانعدام الشخصية أحيانًا؟ لماذا ينجح الرجل عبر ثمان سنوات في ميلان مع ثنائي لا يكف عن إملاء التشكيل والتحكم في التعاقدات كبيرلسكوني وغالياني ثم يفشل في ميونيخ؟ (11) وما السبب خلف الحرب التي شنتها عليه غرفة ملابس البايرن بعد مسيرة طويلة ضمت خمسة أندية قمة في أربعة دوريات كبرى دون شكوى واحدة؟ ولماذا يُنتقد أنشيلوتي الآن لفشله في التقرب من نجوم البايرن بعد ما يقارب عقدين من الزمن انتُقد خلالهما الإيطالي في كل نواحي وظيفته إلا قدرته الخارقة على التعامل مع ذوات النجوم المتضخمة وإخضاعها للفريق؟ العديد من الأسئلة المنطقية بلا إجابة واحدة في ميونيخ.

     

النوايا الحسنة
التفسير المنطقي الوحيد لكل ذلك سيكون خصوصية الوضع في بايرن ميونيخ؛ مصطلح مطاط ولم نعرف ناديًا واحدًا في أوروبا لا يستخدمه لوصف نفسه ولكنه ينطبق على عملاق بافاريا أكثر من غيره للعديد من الأسباب؛ أولها هو التزام إدارته بحد أقصى من الرواتب منخفض نسبيًا مقارنة بباقي كبار أوروبا، وبمقتضاه يتلقى نوير 60% فقط من راتب دي خيا مع اليونايتد، ويفوق راتب ستيرلينغ أو بنزيما ما يناله ليفاندوفسكي، ويتقاضى أساسيون كتياغو وبواتينغ رواتب أقل من احتياطين كوولكوت وكولازيناك في أرسنال أو ألكاسير في برشلونة، وهو ما يفسر محاولات رومينيغه المستمرة لسن قانون بشأن الحد الأقصى للرواتب في أوروبا. (4) (5) (6) (7) (8) (9) (10)
  

بالطبع لا تتوقف المعايير المالية الصارمة عند هذا الحد، بل تقود سياسة التعاقدات بأكملها، وهو ما يُخرج البايرن من المنافسة عمليًا على ضم أي نجم كبير ويحرمه من الأفضلية المادية التي يتمتع بها خصومه، فيضطر للتسوق داخل ألمانيا في أغلب الأوقات، مستغلًا نفوذه وقوته في المفاوضات للحصول على ما يريده بأقل مقابل ممكن، ويحاول تعويض الباقي بتصعيد المواهب من أكاديميته التي منحته لام وألابا ومولر وكيميتش فيما سبق.

   

ما يريده بايرن ميونيخ هو أن يتغلب على أندية تنفق 200 و300 مليون يورو موسميًا دون أن ينفق نصف هذا المبلغ، وأن يضحي النجوم بنصف رواتبهم من أجل الانضمام لصفوفه
ما يريده بايرن ميونيخ هو أن يتغلب على أندية تنفق 200 و300 مليون يورو موسميًا دون أن ينفق نصف هذا المبلغ، وأن يضحي النجوم بنصف رواتبهم من أجل الانضمام لصفوفه
   

ما سبق يجعل التعاقدات الكبيرة مجرد صدف سعيدة تلعب فيها الظروف الدور الأكبر، فروبن لم يكن ليأتي إلى بافاريا لولا أنه طُرد من مدريد وسط شكوك حول استمرار إصاباته، (12) وتياغو لم يكن ليترك كتالونيا لو لم يكن بيب هو مدرب البايرن، وريبيري كان الرجل الذي رفض عملاقي إسبانيا وعروضًا بالجملة من إنجلترا بعد تألقه في مونديال 2006، (13) وكلها وقائع لا تتكرر كثيرًا ولا يمكن الاعتماد عليها لتدعيم الفريق كلما احتاج لذلك، وليس أدل على ذلك سوى محاولة جلب سانشيز التي فشلت بسبب مطالبه المادية الضخمة رغم كون انتقاله لن يكلف الكثير. (25)

  

كلها مبادىء نبيلة مثالية في جوهرها تعبر عن نوايا حسنة وتمثل حجر المقاومة الأخير في لعبة أصيبت بالجنون أو كادت، ولكنها كعادة المثالية تقف على حافة الانفصال عن الواقع، والواقع يقول إن 5 كيميتش و10 كومان و20 غنابري لن يستطيعوا تقديم ما قدمه لام أو روبن أو ريبيري واحد في أوج عطائه، على الأقل في المستقبل القريب.

    

الطريق للجحيم
هذا التناقض الفج تمثل بوضوح في أزمة ليفاندوفسكي الأخيرة، عندما خرج المهاجم البولندي منتقدًا سياسة ناديه في التعاقدات ومطالبًا بمزيد من الإنفاق لأن "الولاء لم يعد القيمة الأهم في كرة القدم" على حد تعبيره، لتنهال عليه الانتقادات اللاذعة ويطالب إيفنبرغ ببيعه فورًا، فقط لأنه أقر حقيقة واقعة يكره الجميع الاعتراف بها، ثم اكتملت اللوحة السيريالية عندما أعلن رومينيغه أسفه الشديد لأن ليفاندوفسكي يرى اللعبة بلا "ولاء"، (14) وهو نفس الرجل الذي أقنعه برفض التجديد مع دورتموند حتى ينتقل للبايرن دون مقابل، ولا ينال ناديه الذي حوله من هاو إلى محترف فلسًا واحدًا عند رحيله. (15)
  

ولأن الطريق للجحيم كثيرًا ما يكون مفروشًا بالنوايا الحسنة، وصل بايرن ميونيخ للنقطة التي شكلت فيها كل تلك المعايير والقواعد عبئًا على الفريق، ورغم نبل مقصدها في أغلب الأحيان فإنها صارت تمثل قيودًا خانقة تمنعه من التعافي بالسرعة المطلوبة من جماهيره وإدارته، فالمشكلة ليست في الالتزام بحد أقصى معقول نسبيًا للرواتب، ولا في الرغبة في تطوير المواهب الشابة، ولا حتى في رفض الأسعار الهيستيرية التي صارت تُدفع لجلب النجوم، ولكن في أن بايرن ميونيخ لم يعد يملك الصبر اللازم ليحقق النجاح دون اختراق كل هذه المحاذير.

   

undefined  

   

ما يريده بايرن ميونيخ هو أن يتغلب على أندية تنفق 200 و300 مليون يورو موسميًا دون أن يحتاج لانفاق نصف هذا المبلغ، وأن يضحي النجوم بنصف رواتبهم من أجل الانضمام لصفوفه، في نفس الوقت الذي يريد فيه هونيس للتخلص من الأغيار وبناء فريق أحلامه الألماني الخالص، (16) وبطريقة ما يجب أن تكون محصلة كل ذلك هي سيطرة بايرن ميونيخ على ألمانيا والقارة بأكملها، لا في نهاية الموسم القادم ولا في خلال عدة سنوات ولكن الآن.

    

ولأن كل ذلك مستحيل نظريًا وعمليًا، فإن الزمن قد توقف عند 2013، عندما كان الـ"روبيري" في القمة يقودان البايرن في رحلة الصعود من موسم محبط إلى نهاية أسطورية، وعندما كان الخصوم يمنحونهم المساحات الكافية للمرتدات الفتاكة التي يعشقها هاينكس، وعندما كان برشلونة مهلهلًا  ودوتموند قادرًا على سحق الريال، وعندما كان نيمار في سانتوس ومبابي في السادسة عشر من عمره وكان أغلى لاعبي العالم ينتقل مقابل 100 مليون يورو فقط. (17)

     

مدينة بلا إجابات
النتيجة هي أن نبل المقاصد تحول لدفن الرؤوس في الرمال، تاركًا مجموعة من الأسئلة التي لا يطرحها أحد في ميونيخ، فلربما كان أنشيلوتي خيارًا خاطئًا من البداية وربما كان بيب كذلك، ولكن هل يعني ذلك أيضًا أن البايرن نفسه لم يعد الخيار الأفضل للعديد من المدربين مع كل ذلك الحديث عن "الأسلوب الألماني" و"الهوية البافارية" التي لا يبدو أن أحدًا من الموجودين على الساحة قادرًا على منحها للبايرن؟
  

وإذا كان أي من توخيل أو نيغلزمان قادرًا على توفير الإجابة للسؤال السابق فماذا عن باقي الأسئلة؟ لماذا يُمنح ريبيري الحق في تحديد مصير أي مدرب وهو مهدد بإنهاء مسيرته في أي وقت، إن لم تكن قد انتهت بالفعل بعد إصابته الخطيرة في المباراة التالية لرحيل أنشيلوتي مباشرة؟ (18) ولماذا ينال مولر كل هذا التدليل رغم تراجع مستواه بوضوح في الموسم الأخير؟ ماذا قدم ألابا فعليًا سوى موسمين رائعين اكتفى بعدهما بلمحات نادرة من موهبته؟ كيف يصل تأثير اللاعبين للدرجة التي تجعلهم يرفضون خطة لعب معينة أو يقومون بالتدرب دون علم المدرب؟ (20) وما فائدة التعاقد مع أي مدرب ما دام اللاعبون هم الجهة الوحيدة التي تحدد ما يسمى بـ"الهوية"؟ بل ما الذي تعنيه الهوية أصلًا في عالم يلعب فيه المانشافت على الاستحواذ وتدافع فيه البرازيل؟ ولماذا يُجبر أنشيلوتي على قبول سانيول كمساعد في الوقت الذي طلب فيه وجود لام في هذا المنصب؟ (21) وكيف يمكن لأي لاعب أن يحترم أي مدرب ما دام رئيس ناديه يتعمد التحدث بالألمانية في وجوده حتى لا يفهم ما يُقال؟ (3)

  

الثنائي ما هو إلا نسخة أقل لمعانًا من أنشيلوتي وغواديولا، فهل ستطيق بافاريا الصبر على الأول وهو منعدم الخبرة الأوروبية؟
الثنائي ما هو إلا نسخة أقل لمعانًا من أنشيلوتي وغواديولا، فهل ستطيق بافاريا الصبر على الأول وهو منعدم الخبرة الأوروبية؟
   

الحقيقة أن عملاق بافاريا قد نجح في الحفاظ على معاييره المالية فعلًا، ولكنه خسر العديد من قِيمه في مقابلها، وتحول النادي مع الوقت لسيرك حقيقي بلا ضوابط من أي نوع؛ ينتقد فيه اللاعبون مدربيهم علنًا دون خشية العواقب، وفي بعض الأحيان يتخطى الأمر الانتقاد لحد الاستهزاء بحجة الغيرة والحماس والرغبة في الفوز، نادي يقوم رئيسه باقصاء أحد أساطيره من المناصب القيادية لعداوة مع وكيل أعماله، ويغضب مهاجمه من زملائه لأنهم لم يساعدوه على الفوز بلقب الهداف. (22) (23) (24)

  

وهو نفس الفريق الذي كانت أحد أسباب إقالة مدربه هو محاولته تقليل الاعتماد على ثنائية الـ"روبيري" المصابة دائمًا، وهو نفس الفريق الذي ستكون أولى مهام مدربه الجديد هي محاولة تقليل الاعتماد على ثنائية الـ"روبيري" المصابة دائمًا، (26) والسبب الوحيد هو أن إدارته ما زالت عالقة في الماضي، تنتظر لمحاته من حين لآخر وترفض التخلي عنه والنزول إلى الحاضر لأنها تخشى مواجهة أسئلته.

  

كل ذلك لن يقدم أي جديد سوى تأخير التعافي، فحتى في وجود بافاري متحمس كنيغلزمان (27) أو ألماني حالم كتوخيل سيظل البايرن بحاجة إلى مزيد من الإجابات، ببساطة لأن الثنائي ما هو إلا نسخة أقل لمعانًا من أنشيلوتي وغواديولا، فهل ستطيق بافاريا الصبر على الأول وهو منعدم الخبرة الأوروبية، وهي التي أطاحت للتو بأكثر الموجودين كفاءة في هذا الصدد؟ هل هي على استعداد لتكرار تجربة بيب مجددًا مع مدرب لا يجيد طريقته بنفس الفاعلية؟ أم أن الفارق بين هوملز ولوفرين سيغري كلوب بالعودة؟ فقط الأيام ستجيب لأن لا أحد يجيب في ميونيخ.

المصدر : الجزيرة