إذا كنت أحد الملايين الذين انتظروا أن تمنحهم تلك المباراة بعض الإجابات بعد تعادل الذهاب المخيب في البرنابيو والهزيمة المباغتة أمام جيرونا فغالبا سيطول انتظارك، بل إن تلك المباراة أضافت إلى كومة الأسئلة التي يطرحها أداء ريال زيزو منذ بداية الموسم ولم تنقصها، خاصة مع اللعبة الخطيرة التي تمارسها المبررات مع الفريق، فمع التسليم أن بعض لاعبيه يبدو عليهم الإرهاق فعلا، ومع التأكيد على أهمية موراتّا تحديدا في حسم لقب الليغا الماضي، ومع الاعتراف بأثر غياب كارفاخال وكوفاسيتش، فإن حجم الخصوم الذين سقط أمامهم الريال حتى الآن ينسف واقعية تلك المبررات.
تلك المرة كانت مختلفة، لأن توتنهام هو أول فريق قوي منظم يقابله الميرينغي منذ بداية الموسم، فالإشارات التي أطلقها الفوز السهل على دورتموند ما لبثت أن تبددت مع هزائم أسود الفيستيفاليا المتوالية في البوندزليغا، والتي أوضحت أن البطل الحقيقي في انتفاضتهم المبكرة كان تواضع الخصوم، ما أدخل الفريق في دوامة من التشكك في كل شيء، وهي -للمفارقة- نفس المرحلة التي يقف ريال زيزو على مشارفها الآن.
يمكنك اختصار الأمر في أن أغلب من شاهدوا المباراة قد شعروا أن هدف توتنهام الرابع كان أقرب من هدف الريال الأول أو حتى الثاني، ليس لأن آلي أضاع فرصة الهدف الرابع فعلا، ولكن لأن ريال مدريد حظي بعدد كبير من الفرص السانحة للتسجيل على مدار فترات المباراة، مرة ونصف ما حظي به توتنهام للدقة (9-14)، ولأن الأمر ذاته تكرر مع التسديدات على المرمى (6-9)، ناهيك عن ضعف نسبة الاستحواذ تقريبا (37%-63%) وثلاثة أضعاف العرضيات (9-33) ونجاح أكبر في الثنائيات الدفاعية الأرضية (27%-44%)، ورغم ذلك كله لم يوحِ أداء الميرينغي بالثقة في أي من لحظات المباراة، وهذا هو أهم ما أضافه توتنهام بوتشيتينو إلى الأزمة، أنه بدّل السؤال عن موعد انتهائها إلى سؤال آخر عن إمكانية انتهائها من الأصل.
بدأ الثنائي مباراة الإياب بنفس خطة الذهاب 4-4-2 التي يقودها إيسكو كصانع ألعاب حر خلف الثنائي الهجومي و3-5-2 التي تمنح بوتشيتينو التفوق العددي الدفاعي في مواجهة أي ثنائي هجومي، والفارق الوحيد كان في غياب فاران عن تشكيلة الميرينغي من جهة، وعودة ديير سالما إلى محور الوسط من جهة أخرى، ولعله الفارق الأهم بين نتيجة المباراتين، لأن غياب الأول كان يعني أن دفاع الميرينغي سيفتقد قدرا لا بأس به من السرعة في ملاحقة مرتدات كين وآلي، وحضور الثاني كان يعني مزيدا من الحرية لإيريكسين في إطلاق نفس المرتدات بتمريراته الذكية، ودون قيود دفاعية كبيرة.
هذا التوازن كان أهم ما افتقده وسط توتنهام طيلة الفترة الماضية، فوجود محور دفاعي كديير لم يطلق يد إيريكسين فحسب، بل أطلق يد بوتشيتينو نفسه في إعادة وينكس إلى أدواره الطبيعية التي يجيدها كمحور مساند متحرك، وهو ما منحه الفرصة لإظهار مهاراته الواعدة في إخراج الكرة والتخلص من ضغط وسط الميرينغي وأطرافه، مانحا فريقه قدرا لا بأس به من الندية أمام وسط الريال المرعب في نصف الساعة الأولى.
كان ذلك هو ما يحتاجه السبيرز ليصمدوا بضعة دقائق أخرى يكررون خلالها نفس التمريرة القطرية التي تخرج مارسيلو من اللعب وتضع تريبييه في مقعد القيادة، أتى الإنذار الأول من قطرية أرسلها كين وأطلق منها تريبييه عرضيته الأولى التي أخطأها آلي، وهو الخطأ الذي لم يكرره الإنجليزي الشاب ثانية عندما أرسل وينكس نفس القطرية لتريبييه من رمية تماس تسبب فيها كين أيضا، وهي ملاحظة أخرى مبهرة في توتنهام بوتشيتينو، أي قدرته الخارقة على الاستفادة من لعبة يراها الكثيرون عديمة الأهمية كرمية التماس، لدرجة أنها قد منحته ثلاثة أهداف على الأقل هذا الموسم كانت ثنائية كين - تريبييه حاضرة في كل منها، إما بتمريرة مباشرة مثل هدف كين في ليفربول أو بعكسية قطرية يتسلل لها تريبييه خلسة كهدف آلي الأول، فليس خفيا أن التفاهم بين الثنائي قد صنع العديد من الأهداف والفرص لنجم السبيرز الأول، 8 أهداف في 19 مباراة جمعتهما معا للدقة. (1)
تلك اللقطة إلى جانب لقطات أخرى كشفت عن وجه آخر لكين الذي يتحول إلى ظاهرة مع الوقت، فالمهاجم الإنجليزي الشاب لم يكن جاهزا تماما للمشاركة وعانى من إصابة منعته عن مباراة الشياطين، وأوردت بعض التقارير أنه لعب رغم عدم اكتمال شفائه، (2) ورغم ذلك نجح مع مدربه في توزيع جهده بذكاء بالغ، صانعا الخطورة في كل لمسة من لمساته تقريبا على ندرتها، وكأن إصابته منحته الفرصة ليُظهر رؤيته ومهاراته في التمرير، متخطيا إطار المهاجم التقليدي الذي يكتفي بالتسجيل فقط بعد أن صنع الهدف الثاني هذا الموسم لإيريكسين.
|
المهم أن الهدف قد وضع ريال زيزو في موقف لا يفضّله، ووجد نفسه مضطرا لمزيد من الاندفاع الهجومي أمام فريق متفاهم وفتاك في المرتدات، لذا كان الحل المنطقي الآمن هو إغراق منطقة جزاء بوتشيتينو بالعرضيات، لذا وعقب تحول تكتيكي سريع إلى 3-5-2 أعاد كازيميرو بين قلبي الدفاع ليحرر مارسيلّو وحكيمي على الأجناب، كان ريال زيزو يرسل 13 عرضية في 40 دقيقة بمعدل عرضية كل 3 دقائق، على أمل أن تنجح رأس رونالدو في اصطياد إحداها.
صدق أو لا تصدق؛ ريال مدريد لم يفز بأي إلتحام هوائي في نصف ملعبه طيلة الساعة الأخيرة مقابل واحد فقط في منطقة جزاء توتنهام (سكاوكا) |
عبر الموسم الماضي كان أبرز ما يقال على أسلوب لعب زيدان هو كونه "نظام اللانظام"، لا أسلوب لعب واضح، لا تفضيلات تكتيكية مميزة، لكن مع تحفيز ذهني ونفسي يقارب الكمال، واهتمام فائق بالإعداد البدني والتدوير كلما أمكن، وبالطبع اللجوء إلى أسهل الحلول وأبسطها ما دامت الأدوات متوفرة، وهو ما جعل البعض يتهمه بالمبالغة في الاعتماد على العرضيات أحيانا، وجعل البعض الآخر يستغرب تلك التهمة ما دامت الطريقة فعالة وقادرة على التغلب على أعتى الخصوم.
قيل أيضا أن نظام اللانظام هو سلاح ذو حدين، لأنه لا يضع إطارا واضحا لأداء لاعبيه بقدر ما يوفر لهم الظروف المؤاتية للتألق وإظهار إمكاناتهم الفردية، وهو الأمر الذي بدأت عيوبه تطارد ريال زيزو في الموسم الحالي، وكأن اختلال واحد فقط من عوامل النجاح السابقة كان كفيلا بهدم المنظومة برمتها، فاتضح أن قدرة زيدان الفائقة على التعامل النفسي مع النجوم كانت مقتصرة على التحفيز لا التعامل مع الضغوط، أي إنك إن منحت زيدان فريقا بلا ضغوط وجماهير بلا توقعات فسيفوق أقصى أحلامك، ولكنه قد يفشل بعدها في مجاراة ما يترتب على ذلك.
يمكنك مشاهدة نفس النمط يتكرر في كل نواحي المنظومة التي بناها زيدان في مدريد عبر العام ونصف الماضيين، فلنفس السبب لم يعد إقحام المواهب الشابة يؤتي ثماره كما سبق، لأن أسينسيو وماريانو أضيفوا إلى فريق متماسك تُوّج لتوه بدوري أبطال أوروبا، ووجدوا قاعدة صلبة للانطلاق منها لا تضعهم تحت طائلة الضغط الذي يتعرض له الفريق الآن، على العكس من حكيمي وسيبايوس وثيو هيرنانديز الذين تأتي مشاركتهم في ظروف صعبة وتحت تهديد الفشل والنتائج المتواضعة، وهو ما جرَّد زيدان بالتبعية من باب هروب خلفي أجاد استخدامه في الأزمات سابقا.
ما سبق هو أخطر ما أضافته مباراة توتنهام إلى قائمة التساؤلات حول ريال زيزو، فبعد موسم ونصف من البطولات والنتائج الرائعة والأرقام القياسية، اعتُبرت قدرة الرجل على التعامل مع الأزمات والإصابات وتحفيز لاعبيه من الثوابت، بل إن تلك الأمور هي ما كان يعوض انعدام خبرته التدريبية وقلة درايته بالتفاصيل التكتيكية، ولكن ثوابت زيدان تلقت عدة ضربات قاصمة عبر الأسابيع الماضية، ليس بسبب النتائج وحسب، ولكن بسبب عجزه عن التعامل مع تلك المتغيرات أثناء المباراة وبعدها، وبسبب تغييراته التي نادرا ما تضيف، ومستويات لاعبيه التي تتراجع منذ بداية الموسم بلا مبرر حقيقي سوى الشبع، ومع كل هزيمة جديدة أو عرض متواضع تتزايد الضغوط والشكوك ويستغرق الفريق في أزمته، ولن يحتاج الريال أكثر من عدة نتائج مشابهة ليعود السؤال الشهير إلى الطفو مرة أخرى.