شعار قسم ميدان

إنجلترا 1966.. المجد المشبوه لمهد كرة القدم

ميدان - إنجلترا 1966

من قال إن الأسبقية تمنح الأفضلية؟ من قال إن مبتكر الشيء يجب أن يكون بالضرورة أفضل من يفعله؟ هل هناك نموذج يوضح ذلك الأمر أكثر من الإنجليز؟ ربما لا، فمن اخترعوا كرة القدم لم يضعوا يديهم على أغلى ألقابها العالمية سوى مرة واحدة في التاريخ وفي ديارهم عام 1966 وسط ظروف أقل ما يقال عنها أنها مشبوهة.

 

مؤامرات في كل اتجاه، اضطهاد لأفريقيا والشرق الأوسط أسفر عن مقاطعة كاملة للتصفيات، مؤامرة ضد اللاتينيين لصالح الأوروبيين بوجه عام ومؤامرة ضد الأوروبيين لم يستفد منها سوى البلد المضيف، مجرد نظريات تصادفت مع وجود الإنجليزي ستانلي راوس في رئاسة الاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا" آنذاك.
 

السبق دائماً للإنجليز..

مونديال 1966 على وجه التحديد كان له السبق في عدة أمور، فهو أول كأس عالمي يذاع بالألوان، ولأول مرة يتم ابتكار ما يسمى بـ"تميمة البطولة"، كما كان صاحب الفضل برفقة مونديال تشيلي 1962 في تقديم ثاني أعظم هدية إنجليزية لعالم الكرة بعد اختراع اللعبة نفسها وهو نظام البطاقات الصفراء والحمراء الذي ابتدعه كين أستون(1)، بعد أعوام من معاناة الحكام في محاولة اختراق الحواجز اللغوية بينهم وبين اللاعبين دون جدوى والتي انتهت أخيراً في كأس العالم 1970 بتقديم النظام الجديد للمرة الأولى.

 

كانت تلك أيضاً هي النسخة الأولى والأخيرة التي تقاطعها قارة بأكملها(2)، حيث رفضت منتخبات أفريقيا والشرق الأوسط المشاركة في التصفيات احتجاجاً على النظام الذي نص على عدم وجود ممثل مباشر لهم واضطرارهم لخوض ملحق تأهيلي مع بطل آسيا وأوقيانوسيا.

 

بطبيعة الحال لا يحلو ذكر تلك البطولة دون المرور بالواقعة الأشهر: سرقة الكأس نفسه من مكان عرضه في شهر مارس(3)، وهي القضية التي انتهت بإدانة إدوارد بوتشلي "لص وتاجر للسيارات المستعملة" بعد مغامرة بوليسية، وبين مساومته للشرطة على إخبارهم بمكان الكأس مقابل إخلاء سبيله بكفالة ثم ادعاءه بحصوله على مبلغ من شخص ما للقيام بدور الوسيط، أنقذ الكلب "بيكلز" شرف الإنجليز بعد أن وجد الكأس تحت سور منزل مالكه ديفيد كولبرت.

 

 

تسقط أمريكا اللاتينية!

استمرت الإثارة التنظيمية حيث عانى الضيوف الأمرين من كافة الجوانب بدايةً من مستوى الخدمات المتدني وتكلفتها الباهظة(4)، وصولاً لسبق آخر وهو إخبار البلدان المشاركة بإحضار "أعلامها الوطنية" برفقتها وامتناع إنجلترا عن طباعتها بحجة تفادي الخطأ، ثم السماح للبرازيل بمصورين اثنين فقط مقابل 12 إنجليزياً في الملعب، وإزاء محاولة البرازيليين للالتفاف حول ذلك التعنت عن طريق إرسال المصورين إلى المدرجات أصدرت اللجنة فرمانها بمنع حمل الجماهير للكاميرات، وهي "قاعدة تم انتهاكها على نطاق واسع" بحسب تعبير صحيفة غارديان.

 

كانت الضحية الأولى هي المنتخب البرازيلي، فبعد فوز صعب ووحيد على بلغاريا تعرض الأسطورة بيليه لكم مهول من الركل الممنهج -تحت حماية حكم ألماني- قال عنه مدرب المنتخب البلغاري بعد المباراة: "أعتقد أن كل فريق سيهتم به بنفس الطريقة" ولم يكذب(5)، حيث فشل بيليه في المشاركة بالمباراة التالية أمام المجر والتي خسرها السيليساو 3-1 بعد إلغاء هدفين له على يد حكم إنجليزي، قبل أن يعود لتتكرر المجزرة الكروية ذاتها في فوز البرتغال بنفس النتيجة، في مشهد اختفى بيليه منه تماماً بعد ضربه مرتين على يد جواو مورايس دون مجرد إنذار تحت أنظار حكم إنجليزي آخر.

 

"لم تعد الكرة فناً بعد اليوم، لم تعد تسحر الجماهير بالمهارة، لقد تحولت إلى حرب فعلية!"(6)

(بيليه عن مونديال 1966)

 

الشرطة ترافق هيكتور سيلفا لاعب منتخب أوروغواي بعد طرده (مواقع التواصل)
الشرطة ترافق هيكتور سيلفا لاعب منتخب أوروغواي بعد طرده (مواقع التواصل)

 

وإلى ربع النهائي حيث حقق منتخب ألمانيا الغربية نصراً ساحقاً برباعية نظيفة على حساب أوروغواي، في مباراة شهدت طرد قائد المنتخب اللاتيني هوراشيو تروشي لركله لوثار إميريتش في معدته قبل أن يصفع أوي سيلر في طريقه للخارج، 5 دقائق فقط قبل أن يلحق به أوروغوياني آخر إلى خارج الملعب وهو هيكتور سيلفا، لا عجب في أن خوليو كورتيس لاعب السيليستي وجد إيقافه 6 مباريات دولية ثمناً زهيداً مقابل إفراغ تلك الشحنة بركل الحكم الإنجليزي في نهاية المباراة.

  

"الحكم لص الألمان المجرمون سرقوا المباراة من أوروغواي"(7)

(رسائل مترجمة من توقيعات لاعبي أوروغواي لطفلين إنجليزيين عقب المباراة)

  

سر العداء الإنجليزي – الأرجنتيني

ما زلنا مع ربع النهائي في مباراة إنجلترا والأرجنتين الشهيرة بطولة الحكم الألماني رودولف كرايتلاين وقائد التانجو أنتونيو راتين الذي كان يشكو من تحيز الحكم الواضح للإنجليز في أغلب قراراته، حيث قرر الحكم طرد راتين فرفض الأخير مغادرة الملعب ليتسبب الغضب وفشل التواصل اللغوي بإيقاف المباراة لـ9 دقائق، في أحد أبرز الوقائع التي قادت لإدخال نظام البطاقات الصفراء والحمراء لاحقاً.

 

 

يقول راتين: "كان الأمر واضحاً، الحكم لعب بقميص إنجلترا! لقد رأيت كل قراراته في صالح الإنجليز على صعيد الركنيات والمخالفات بل زاد الأمر بابتكاره للمسات يد! في ظل ذلك أريته شارة القيادة الخاصة بي ولدقائق طويلة طلبت مترجماً لأسأله بعض التوضيح. لم أستطع تصديق رد فعله، الطرد كان ظالماً ومغضباً لدرجة أني جلست على السجادة الحمراء للصندوق الملكي -المكان المخصص لجلوس الملكة- ولكن الملكة لم تكن في الملعب".(8)

 

على الجانب الآخر يقول الحكم كرايتلاين: "أنا فقط أريد نسيان التجربة المزرية بكاملها، لقد كانت أصعب مباراة قمت بإدارتها. لقد كان أمراً فظيعاً ومشيناً. قمت بطرد راتين لأنه كان يتبعني ويصرخ في وجهي، لم أملك خياراً فقد كان يحاول أن يصبح هو الحكم"(9).

 

الحكم الألماني رودولف كرايتلاين يغادر الملعب تحت حماية الشرطة (غيتي)
الحكم الألماني رودولف كرايتلاين يغادر الملعب تحت حماية الشرطة (غيتي)

 

تواصلت المعركة إلى ما بعد صافرة النهاية حيث منع ألف رامسي مدرب المنتخب الإنجليزي لاعبه جورج كوهين من تبادل القميص مع لاعب أرجنتيني بقوله: "جورج، لن تتبادل القمصان مع ذلك الحيوان"(10). قام روبرتو فيريرو لاعب المنتخب الأرجنتيني بالتعدي على الحكم الألماني ثم بصق إرميندو أونيجا مهاجم الألبيسيلستي في وجه الأيرلندي هاري كافان نائب رئيس الفيفا، تلاه تبول لاعبي بلاد الفضة في النفق المؤدي لغرف الملابس قبل إلقاء كرسي على غرفة الإنجليز، وأخيراً هاجم اللاعبون الغاضبون حافلة المنتخب صاحب الديار وحينما حاول أحدهم التدخل لإيقافهم نال جزاءه بعصر نصف برتقالة على وجهه!

 

 ألف رامسي مدرب إنجلترا يمنع لاعبه جورج كوهين من تبادل القمصان مع لاعب المنتخب الأرجنتيني (غيتي)
 ألف رامسي مدرب إنجلترا يمنع لاعبه جورج كوهين من تبادل القمصان مع لاعب المنتخب الأرجنتيني (غيتي)

 

السبق الأعظم: الهدف الشبح

عودة سريعة إلى دور المجموعات حيث يبدو أن المسألة لم تكن لاتينية خالصة، بمباراة إنجلترا وفرنسا في دور المجموعات والتي انتهت بفوز الأسود الثلاثة 2-0، وسط شكوك بوجود تسلل في الهدف الأول، ووقوع لقطة الهدف الثاني بالتزامن مع سقوط الفرنسي جاك سيمون بعد عرقلة من نوبي ستايلز لم يهتم بها حكم اللقاء.

 

 

يبدو ذلك حدثاً عابراً إذا ما قورن بالجوهرة المخبأة في النهائي، فبعد أن تناوب الحكام الإنجليز والألمان على منتخبات أمريكا الجنوبية، حان وقت فض الاشتباك بين المنتخبين لتحديد بطل المونديال.

 

مباراة مثيرة في وقتها الأصلي بدأت بتقدم هيلموت هالر للألمان في الدقيقة 12 ثم تعادل جيف هرست في الدقيقة 18، وعلى مشارف نهاية شوطها الثاني نجح مارتن بيترز في التقدم للإنجليز بالدقيقة 78، قبل أن يقتنص فولفغانغ فيبر هدف التعادل في الدقيقة 89.

 

بينما كان الصراع الكروي هو بطل الوقت الأصلي، حمل الوقت الإضافي بطولة مطلقة للحكم السويسري جوتفريد دينيست وحامل الراية الأذربيجاني "السوفييتي آنذاك" توفيق باهراموف الشهير خطأ بـ"حامل الراية الروسي"(11)، وتحديداً في الدقيقة 101 بعد عرضية آلان بول وتسديدة جيف هرست التي اصطدمت بالقائم ثم سقطت على الخط ليتم تشتيتها. ذهب الحكم السويسري الحائر لمساعده فأكد له دخول الكرة ليقرر احتسابها في لغز لا يزال يثير الجدل ليومنا هذا.

 

 

انتهت المباراة بإضافة هرست لهدف رابع في الدقيقة 120 لينتصر منتخب إنجلترا 4-2 ويتوج بكأس العالم الوحيد في تاريخه بهذه الطريقة، وسط احتجاجات ألمانية مستمرة تشير لتحيز حامل الراية ضدهم على خلفية ستالينغراد في الحرب العالمية الثانية(12)، إضافةً إلى أن ألمانيا كانت قد هزمت الاتحاد السوفييتي لتوها في نصف النهائي قبل تلك المباراة مباشرةً.

 

سجل مونديال 1966 براءة اختراع مصطلح "الهدف الشبح" مضيفاً إياه إلى قائمة الأسبقية الممتدة في تلك البطولة، وبعد تلك المباراة قام الشرطي الشاب بيتر وستون بمقاطعة الاحتفالات داخل غرفة ملابس إنجلترا ليأخذ كأس "جول ريميه" الأصلي من نوبي ستايلز ويبادله بنسخة مزيفة(13)، "الوقاية خير من العلاج" درس تعلمه الإنجليز بالطريقة الصعبة في مارس.

 

"وعلى الباغي تدور الدوائر".. فقد ثأرت ألمانيا مما حدث ولو بعد حين، 44 عاماً وتحديداً في دور الستة عشر لمونديال 2010 بعدم احتساب هدف فرانك لامبارد بعد اجتياز الكرة بكاملها للخط ثم خروجها إلى أيدي مانويل نوير أثناء تقدم المانشافت 2-1 زادوها في نهاية المباراة لـ4-1.

 

 

إنجلترا "مهد كرة القدم" كثيراً ما منَّت علينا باختراعها وأسبقيتها وفضلها على العالم بالسماح للآخرين بممارستها، هكذا توج "بلد المنشأ" بالمونديال، ولكن بالمناسبة هل تعلم أنهم قاموا في نفس النسخة بنقل مباراة فرنسا وأوروغواي في دور المجموعات من ملعب ويمبلي المقرر لإقامة المباراة إلى ملعب "وايت سيتي" من أجل سباق للكلاب؟(14) هذا ليس تشبيهاً أو سباً معاذ الله إنه حرفياً سباق بين الكلاب.. أولويات.

المصدر : الجزيرة