شعار قسم ميدان

كيف تعلمتُ أن أكف عن القلق.. وأحب كرة القدم

midan - 2
حكاية الهوليجان الأخير: Green Street Hooligans

 

فقاقيع، أنفخها دومًا

فقاقيع جميلة في الهواء

فقاقيع تطير مرتفعة عاليًا

توشك أن تصل إلى السماء

ومثل أحلامي، تتلاشى وتختفي

الأمل يختبئ في مكان ما

سوف أفتّش عنه جيدًا

– أغنية مشجعي فريق ويستهام
 

من أنا؟

undefined

من أنا؟ سوف تختلف الإجابة على هذا السؤال حسب الفقرة التي تقرأها من هذا المقال، كما اختلفت عبر الشهور التي قضيتها هناك في لندن، والأيام التي عشتها هنا في هارفارد.
 

أنا مات باكنر، وكنتُ حتى أشهر قليلة طالبًا يدرس الصحافة في هارفارد. ولا أعرف عن نفسي أي وصف آخر. ماتت أمي منذ أعوام قليلة، ولي شقيقة تعيش على الجانب الآخر من المحيط في لندن مع زوجها وطفلها الذين لما أقابلهما حتى الآن. أما والدي، فحوله يتكوّن كل شيء أعرفه عن نفسي الآن. أحمل اسمه بالوراثة، وأحمل وظيفته كذلك.
 

لم أشعر يومًا بأن هارفارد هي المكان المناسب لي. لم أشعر أني أنتمي إلى أي مدرسة في أي لحظة من حياتي. لكني اخترت الطريق التي يفضلها الناس. اخترت أن أكون مثل والدي الغائب دومًا. لم يكن اختيارًا في الواقع، بقدر ما كان محاولة لإيجاد عذر له على غيابه الدائم مطاردًا حدثًا ما يقع في بقعة ما من العالم. لم أعرف يومًا حقيقة شعوري تجاه الصحافة، حتى جاء يوم طردي من هارفارد.
 

خرجت من هارفارد بأسوأ سمعة ممكنة، وبأسوأ صورة يمكنني أن أحملها عن نفسي. في نظر الناس أن موزع مخدرات في الجامعة. وفي نظر نفسي كنتُ الشخص الذي لم يواجه هذا الاتهام، لأنه لم يجد فائدة من قول الحقيقة بأن زميلي في الغرفة ذا الأصول العريقة والعائلة القوية هو المتهم الحقيقي. خرجت من هارفارد كما دخلتها؛ لا أصدقاء أو مال أو نجاح. خرجت منها كذلك دون أن أتعلم شيئًا عن نفسي أو عن العالم. دخلتها وأنا لا أمتلك شغفًا حقيقيًا أو إيمانًا بهذه الحياة، وخرجت منها بخسارة لأي أمل ممكن. من أنا؟ يمكنك أن تلقبني بـ Mr. Nobody – لا أحد!

 

في أوبتون بارك وجدت الجواب:


"لقد علمتني كرة القدم كلَّ شيء عرفته عن الأخلاق"

– الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو
 

قابلت مات في لندن، وهناك تعلمت كلّ شيء لا تستطيع المدارس أن تشرحه. شاهدت عبر حياتي عددًا قليلاً من التجمعات في الشوارع؛ حول مظاهرة سياسية أو احتفال أو كرنفال، لكنها المرة الأولى التي أشاهد فيها حشدًا من الشباب في مثل عمري يشربون الكثير من البيرة ويهتفون بجنون باسم ويستهام.

شعرت في البداية أني في وسط مجموعة من المتعصبين الدينيين البلهاء، أو في حفل روك صاخب أصابت رواده حمى الموسيقى. وكان هذا هو ما أردت تمامًا كي أنسى ما حدث هناك في هارفارد. لكن بمجرد خروجي من البار، وجدت نفسي مع مات والبقية في وسط حشد هائل يغنون لـ ويستهام وهم في طريقهم إلى أوبتون بارك من أجل حضور مباراة تشيلسي. الجميع يغني، والجميع يهتف؛ أطفال صغار ومراهقون وموظفو شركات وعواجيز. أغنية ويستهام أغنية عجيبة! كيف يغني جمهور فريق عن الأمل الذي سوف يفشل في النهاية!؟
 

في النهاية وصلنا الملعب وهناك بدأ كل شيء عرفته في حياتي القادمة. الآلاف يهتفون لويستهام في المدرجات. وفي الملعب يتصارع 22 رجل في فريقين من أجل الكرة. الصراع الأحمق القديم حول قطعة من الجلد. ثم اتضح لي كل شيء فجأة. الصراع والإيمان هذه هي المسألة. المواجهة هي قلب هذه اللعبة ومحاولة الفوز بالكرة.

هؤلاء الرجال هنا من أجل الاقتتال ومن أجل إرضاء هذه الجماهير التي تستميت من أجل إيمانها بفكرة ما.. ويستهام!. وكانت تلك هي المرة الأولى التي أشعر فيها بأن هذه الحياة تستحق المحاولة. منذ ساعة واحدة لم أكن أعرف ويستهام، والآن أشعر برغبة جامحة في أكون من هؤلاء الذين يهتفون: أنا ويستهام إلى نهاية حياتي. لقد وجدني الإيمان أخيرًا. وجدني في ملعب أوبتون بارك. وفي خارج الملعب وجدت نفسي!

 

لأنني لستُ مصنوعًا من زجاج:

"كرة القدم هي أهم الأشياء غير الهامة في الحياة"

– أريجو ساكي

 

عندما يتلقى وجهك اللكمة الأولى، تدرك أنك لست مصنوعًا من زجاج. وعندما تسدد لكمتك الأولى، تدرك قدرتك على التأثير.
عندما يتلقى وجهك اللكمة الأولى، تدرك أنك لست مصنوعًا من زجاج. وعندما تسدد لكمتك الأولى، تدرك قدرتك على التأثير.
 

فجأة وجدت نفسي مع حفنة قليلة من جمهور ويستهام في مواجهة عشرين من جماهير تشيلسي. وأدركت أني في وسط واحدة من مواجهات الهوليجانز التي سمعت عنها. لنقف هنا ونقر حقيقة عنّي. لقد تفاديت المواجهات طيلة حياتي. انسحبت من أي صراع لأني قناعتي عن نفسي تميل إلى الإحجام؛ ففي ظني أنه لا شيء يستحق، هذا ما كنت أقوله. أما الحقيقة فهي ظني الدائم بعدم القدرة. وها أنا الآن مجبر على هذه المواجهة.

عندما يتلقى وجهك اللكمة الأولى، تدرك أنك لست مصنوعًا من زجاج. وعندما تسدد لكمتك الأولى، تدرك قدرتك على التأثير. خضت هذا العراك الذي استمر لدقائق لتتبدل صورتي عن نفسي تمامًا. لقد ضُربت ولم أمت، وقاومت وضربت رجلاً أو اثنين يفوقوني في الحجم والخبرة بالعراك. رأيت في وسط هذا القتال الدعم في صورة مجموعة من الرفاق دافعوا عني وهم لم يعرفوني إلا منذ ساعة، واجتاحتني رغبة بالدفاع عنهم. وجاء المدد أخيرًا في صورة عشرات من جمهور الـ Hammers وانتصرنا!
 

هكذا كانت حياتي طيلة شهور قضيتها في لندن. وعرفت فيها ما غاب عن حياتي قبلها. عرفت أن الحياة تحمل في ذاتها قوة تدفعنا نحو الإيمان بفكرة. وأن هذا الإيمان يمكنه أن يمدنا بكل ما نحتاج من طاقة. عرفت أن الانتماء ليس قوة تمنح لنا لكثرة الأنصار أو الأصدقاء، ولكنه الدعم الذي نمنحه نحن لرفاقنا. عرفت معنى الرفقة من الأساس. لقد كانت كرة القدم بمثابة مجاز عن الحياة التي قرأت عنها في الحكايات القديمة وها أنا أعيشها الآن. وعرفت أخيرًا كيف يمكنني أن أعيش هذه الحياة. كرة القدم ليست هامة في ذاتها، لكن ما حولها هو أهم شيء في الحياة.
 

من أنا مرة أخرى.. وهارفارد مرة أخرى:
ويستهام منحني الإيمان الذي لم أعرفه في حياتي. لقد ذهبت إلى لندن كـ لا أحد، وعدت منها كواحد من الـ
ويستهام منحني الإيمان الذي لم أعرفه في حياتي. لقد ذهبت إلى لندن كـ لا أحد، وعدت منها كواحد من الـ "Hammers".
 

من أنا؟ أنا مات باكنر، أعمل صحافيًا، وأدرس في هارفارد. ولم يعد اسمي هو اسم والدي، ولم يعد عملي محاولة للوصول إليه، ولم تعد هارفارد هي الخيار المثير لإعجاب الناس.
 

عدت من لندن واخترت كافة الخيارات القديمة. لكنها خياراتي أنا هذه المرة. مات باكنر هو أنا، اليانكي بين مشجعي ويستهام، الذي يعلم أنه قادر على التأثير، وأن المحاولة لن تقتله. وهكذا استطعت أن أحصل على مواجهة اتهامات توزيع المخدرات، واستعادة مكاني في هارافارد ثانية. الصحافة لم تعد مهنتي بالوراثة، لكني عشت هناك حياةً منحتني كلمات أريد أن أقولها.
 

أنا مات باكنر، أنا ويستهام حتى نهاية حياتي، لأن ويستهام منحني الإيمان الذي لم أعرفه في حياتي. لقد ذهبت إلى لندن كـ لا أحد، وعدت منها كواحد من الـ "Hammers".

المصدر : الجزيرة