شعار قسم ميدان

في تعريف اللاعب التكتيكي

Dortmund's Christian Pulisic (R) in action against Real Madrid's Luka Modric (L) during the UEFA Champions League group F soccer match between Borussia Dortmund and Real Madrid in Dortmund, Germany, 27 September 2016.

منذ عدة سنوات ظهر إعلان تليفزيوني يحاول فيه أحد النصابين إقناع مدربٍ ما بضم طفل بدين لصفوف ناديه، مؤكدًا في كل لقطة أنه لاعب تكتيكي منقطع النظير.
 

ورغم التسطيح الساخر الذي تعمده مخرج الإعلان لتوضيح فكرته، فإن تلك النظرة ليست ببعيدة عن النظرة التقليدية الدارجة، فقديمًا قالوا لنا أن كل ما لا تفهمه في كرة القدم هو تكتيك غالبًا، وأن اللاعب التكتيكي هو الذي نادرًا ما تشعر بدوره أو حتى وجوده من الأصل، ما فتح بوابة سحرية لعدد من النصابين الحقيقيين الذين مارسوا حيلهم لعقود في الحياة الواقعية، وحولوا مفهوم اللاعب التكتيكي بطريقة ما، لمرادف لانعدام المهارة.
 

تكتيكي تكتيكي

يُعرف المعجم الجامع لفظة "تكتيك" المُعربّة على أنها "الأساليب ووسائل التنظيم الخططية المتبعة لتحقيق الفوز"، وفي كرة القدم نعرف التكتيك على أنه التحركات والجمل وأساليب اللعب المتبعة في كواليس الرسم الخططي الموضوع، وهو مفهوم حلزوني يصعب الإمساك به، لأنه يتجزأ لعدة عناصر يُعد كل منها تكتيكا بدوره، فالمدرب لا يجتمع بلاعبيه قُبيل المباراة ليخبرهم "أننا سنطبق الضغط العكسي" فقط على سبيل المثال، لأن السؤال المنطقي حينها سيكون "أي ضغط عكسي؟"؛ ضغط كلوب وبوكيتينو الذي يعقبه تمريرات عمودية قصيرة باتجاه المرمى؟ أم ضغط بيب وتوخيل الذي يليه الاستحواذ والصبر بانتظار ثغرة واضحة؟ من الأطراف أم العمق؟ على دفاع الخصم أم خط وسطه؟

undefined

 

التفاصيل لا تنتهي، وكلما أمسكت بإحداها انقسمت كالبكتيريا لتصنع المزيد منها، ولكن ما لا شك فيه، أن الثورة الإحصائية التحليلية الأخيرة هي البطل الأبرز الذي جعل كل ذلك قابلًا للتحقيق من الأصل، فالأمر تطور لدرجة أن بعض المدربين ينشؤون منهجية الضغط بناءً على قدرة خط دفاع الخصم على إخراج الكرة، وكأنه فخ إجباري لا مهرب منه، فلا يكون الهدف هو استخلاص الكرة مباشرة ثم الانطلاق للمرمى، بل توزيع الضغط بشكل يوصلها اضطراريًا لأقل مدافعي الخصم قدرة على التمرير الطولي، مستعينين بالإحصائيات التي تؤكد ذلك، فتولد هجماته ميتة وتنتهي قبل أن تبدأ. 

 

ولكن الكرة مثلها مثل أي شيء، كلما تعقدت كلما فقدت الأكثرية اهتمامها بالتفاصيل، فالمشجع التقليدي ليس مطالبًا بتحليل 293478700 إحصائية عقب كل مباراة ليصل لمثل هذه النتائج، وهو ما ترك عملية التصنيف التكتيكي برمتها في أيدي معلق المباراة، أو أصحاب الصوت الأعلى بعدها، فيؤكدون أن "س" من اللاعبين يقوم بدور تكتيكي كبير، وخلال ساعات يكون "س" قد تحول رسميًا للاعب تكتيكي عظيم، فقط لأن الكثيرين رددوا نفس العبارة، فما تكرر قد تقرر، وكل ما تحتاجه لترويج نظرية ما، هو أن يؤمن بها العدد الكافي ليقول الآخرون أنه من المستحيل أن يكونوا على خطأ، وهو بالضبط ما نحاول تفنيده هنا.
 

التكتيك هو اسمي الأوسط

دون كثير من البحث، يمكنك أن تؤكد أن أبرز مثال على المغالطة السابقة كان ولازال جينارو جاتوزو أحد أعضاء ميلان أنشيلوتي الذهبي، والذي اصطلح الجميع على اعتباره التكتيكي الأبرز بين صفوفه، لا لسبب؛ إلا كونه مثّل نشازًا واضحًا في وسط ملعب الروسونيري المتخم بالفنيات الاستثنائية، ولكن المثير أن أغلب من أطلقت عليهم تلك الصفة كانوا لاعبين دفاعيين مهمين، وغالبًا ما شغلوا نفس المركز.


مودريتش وجاتوزو (مواقع التواصل الاجتماعي)
مودريتش وجاتوزو (مواقع التواصل الاجتماعي)


وهو ما يمثل تناقضًا صارخًا مع مفهوم اللفظة، إذ يفترض باللاعب التكتيكي التنوع، والقدرة على أداء مهام المراكز المتعددة بكفاءة مقبولة، وهذا ما يستمد منه ارتباطه بالخطط الموضوعة وقدرته على تغييرها، وهو ما لم يفعله جاتوزو مرة واحدة في مسيرته الطويلة، بل إن العكس هو الصحيح في الواقع، لأن الشيء الوحيد الذي منح الايطالي الغاضب فرصة ليكون لاعب كرة من الأصل، هو قدرته على تكرار مهمة واحدة فقط لا غير ولكن بنجاح كبير، ولا مبالغة إن قلنا أن الفضل الأكبر يعود لمدربيه الذين استطاعوا إفساح مكان للاعب محدود، وسط عمالقة كانوا من الأفضل في العالم.

 

في البدء كان التكتيك

الأصل في الأمر أن مغالطة جاتوزو لم تنشأ من العدم، بل إن مفهوم التكتيك السطحي مقرون بمفهوم سطحي آخر هو المهارة، فالمصطلح عليه بين جمهور اللعبة أن قائمة المهارات معروفة، في الواقع هي ليست قائمة من الأصل لأنها لا تضم إلا القدرة على المراوغة، ولم تُلحق بها مهارة التمرير إلا بعد عقد كامل من إبداعات بيرلو وتشافي وسكولز وأمثالهم، أما المهارات الدفاعية، ورغم كونها "فردية" كذلك، فظلت في قاع القائمة أو لم تظهر فيها من الأصل، ولنفس السبب ستجد مليون مقطع في يوتيوب عن المراوغات والأهداف وقد لا تجد 1/100 من هذا الرقم عن المهارات الدفاعية، بل غالبًا ما يكتفي الجميع بالإحصائيات للتعبير عنها، لأنها بلا جمهور تقريبًا في لعبة تقوم متعتها على إحراز الأهداف.
 

لذا ينظر المجتمع الكروي بأكمله للاعب الدفاعي على أنه منقوص المهارة، حتى لو كان استثنائيًا كماكيليلي أو كانتي، وهنا يقع التناقض بين مفهوم المهارة التقليدي المحبب، والذي تعشقه الجماهير ويفتقده هؤلاء، وبين أهميتهم الفعلية التي يدركها نفس الجمهور عن طريق الإحصائيات، ولكنها لا تجد طريقها لقائمة المهارات ولا تصنع لقطات اليوتيوب.
 

فكانتي يتقاضى نصف راتب هازارد لأنه ليس ممتعًا في تقدير جمهور اللعبة، وليس لأنه أقل أهمية؛ كانتي يعلم ذلك، وهازارد يعلم ذلك، وجمهور تشيلسي والعالم كله يعلم ذلك، ولكنها الطريقة التي تتم بها الأمور وتغييرها مستحيل تقريبًا، وحتى لو ظهر مستقبلًا من يقطع 100 تمريرة ويفوز بـ150 التحام في المباراة الواحدة، فسيعتبره السواد الأعظم منقوص المهارة أيضًا.

 

(وكالة الأنباء الأوروبية)
(وكالة الأنباء الأوروبية)

 

هنا يأتي دور التكتيك بمفهومه المسطح، ويتكامل مع نقص المهارة المُتخيَّل، فتشعر الجماهير أن أمثال جاتوزو وكانتي وماكيليلي بحاجة لشيء يعوض هذا النقص، فيخلق الجمهور حالة من المواساة المصطنعة وكأنه يربت على أكتافهم في أسف؛ لا بأس، صحيح أنكم وحوش معدومة المهارة والفنيات وعاجزة عن الامتاع، ولكننا نمتلك فائضًا من التكتيك لسنا بحاجة إليه، لذلك قررنا أنكم تكتيكيين جدًا.
 

ولأن كونهم كذلك لا يعني زيادة رواتبهم، أو تحولهم لنجوم لامعة كالتي تمتلك "المهارة" المنشودة، فالأمر أشبه بإعلان آخر شهير يتحدث عن طريقة مختلفة من النصب، حينما يقرر صاحب البقالة أن يمنحك بالباقي علكة، بدلًا من أن يمنحك الباقي الفعلي، وبالطبع لا أنسب من مفهوم هلامي كالتكتيك ليؤدي دور العلكة في الصفقة.
 

التكتيك الحقيقي

بالطبع كان لاستقرار مغالطة بهذا الحجم أثره على اللعبة، ولكنه كان في الاتجاه المضاد، فحرمت الجماهير لاعبين تكتيكيين حقيقيين من نفس الصفة، أو  لم تشعر بأهمية منحها لهم من عدمه بمعنى أدق، لأنهم امتلكوا "المهارة" الكافية ليشعروا بأهميتهم، مثل روني الذي لعب في كل مراكز الوسط والهجوم بلا استثناء، أو مودريتش الذي تحول من صانع لعب خلف المهاجمين للاعب إرتكاز بل وأبهر في دور ليبرو الوسط عند إصابة ألونسو في موسم العاشرة، أو لام الذي تحمل اختراعات بيب وتجاربه التي لا تنتهي وأجاد فيها كلها، أو جيرارد الذي ترك دوره الأصلي وعاد لموقع الظهير الأيمن ليغلق جبهة سيرجيينو ويمنح فريقه لقب اسطنبول، أو نيدفييد وديفيدز وسكولز، وهي الأدوار التكتيكية الفعلية التي لا يمكن لماكيليلي أو  جاتوزو تأديتها،  لأنه مع أسماء كتلك فالباقي غير  مهم للجمهور، ولا حاجة لاستبداله بالتكتيك أو العلكة.
 

المشكلة الوحيدة في تلك النظرية، أن كانتي وماكيليلي وغيرهم، ليسوا كالطفل البدين في الإعلان، ولا يحتاجون لاختلاق المميزات لتسويقهم كلاعبي كرة قدم ضروريين مكتملي الأهمية، بالضبط مثل هؤلاء الذين يسجلون الأهداف ويمررون البينيات ويسددون الركلات الحرة ويبيعون الملايين من القمصان، لأن كون قائمة مهاراتهم مختلفة عن النجوم التقليديين، لا يعني بالضرورة أنها منقوصة، ورغم أنه لا يعيب الجمهور أن متعته تقتصر على جزء محدد في اللعبة، إلا أن تحويل هذا الجزء لكل اللعبة لا يعيبهم كذلك.

المصدر : الجزيرة