يسقط بطل البريميرليج .. إقالة رانييري بعيون ماركس
"التاريخ يعيد نفسه مرتين، الأولى كمأساة والثانية كمهزلة!"
( كارل ماركس)
ربما نعلم جميعاً من هو كارل ماركس، ولكن هل كان ماركس يُتابع الدوري الإنجليزي إلى تلك الدرجة؟ أمور عدة تكررت في المشاهد الأخيرة والتالية لإقالة كلاوديو رانييري من تدريب ليستر سيتي، قيل أن الفائز بلقب الدوري عادةً ما يخسر منصبه لاحقاً، وكأن كل شيء يتفسخ بلا سبب، ولكن هل حقاً ينتهي كل شيء بلا مبرر؟
ولكن هؤلاء هم مانشستر سيتي وتشيلسي وليفربول، أموال الإمارات اللانهائية وثروات الملياردير الروسي وثاني أكثر الفرق ألقاباً في تاريخ إنجلترا، من هو ليستر؟ من كان ذلك الفريق الذي أقام الأفراح لصعوده بسيناريو جنوني من غياهب التشامبيونشيب ثم أقام أفراحاً مشابهة لنجاته من الهبوط الموسم التالي قبل أن تحظى المدينة بفرح تاريخي لا يتكرر كل عام بل وقد لا يرونه أبداً من جديد؟
امتلك هذا الفريق رجلاً باسماً طيلة الوقت، لا يمكن أن يتسرب إليه الإحباط بأي شكل من الأشكال فقد ذاق طعم الاقتراب من النجاح ثم الإخفاق في الأمتار الأخيرة مراراً وتكراراً، ما الذي كان يمكن أن يُحزن الرجل في ليستر بعد ما يفوق ربع قرن من الفشل؟!
آمن بلاعبيه فآمنوا به وبأنفسهم، حاول جعل الأمر يبدو ترفيهاً أكثر من أي شيء آخر، جرسه الشهير "ديلي دينج ديلي دونج" يحفزهم، ويعدهم بـ"البيتزا" إذا نجحوا في الحفاظ على نظافة الشباك. مرت الأيام وهو يواصل إبعاد الضغوط عنهم، متصدر جدول الترتيب ولكنه يتحدث عن الوصول لـ40 نقطة من أجل ضمان تفادي الهبوط، في المراحل الأخيرة من المنافسة وبات تتويجه مسألة وقت بين أقدام لاعبيه ولكنه يثرثر عن ضمان التأهل للدوري الأوروبي!
أعظم ما حققه رانييري مع ليستر لم يكن تكتيكياً ولا حتى الفوز باللقب، بل قدرته على إقناع تلك المجموعة من اللاعبين عديمي الأسماء أنهم قادرين على مقارعة يونايتد وسيتي وآرسنال وتشيلسي وغيرهم، بل وبإمكانهم تحقيق الانتصار عليهم كما حدث مع البلوز ذهاباً وإياباً وكما فشل يونايتد في الانتصار عليهم مكتفين بالتعادل في المباراتين.
لو لم نُشاهد ذلك بأعيننا الموسم الماضي، ما كان أحد ليصدق أن مدافع قضى مسيرته الكروية كاملة في الدرجات الأدنى مع نوتنجهام فورست، مثل ويس مورجان، كان ليصبح بديلاً خامساً في صفوف فريق متوج بلقب البريميرليج يومًا ما، ولكن مع رانييري لم يكن فقط مجرد عنصر أساسي بل كان قائد الفريق الذي رفع الكأس بيديه، أمر يمثل نُقطة حالكة السواد في تاريخ البطولة.
ما حققه رانييري حقاً لتلك الإدارة التي أقالته، يمكننا أن نراه عبر الإنفوجراف التالي:
كل ذلك أتى في مواجهة عودة توحش الكبار، مورينيو يعود عبر بوابة مانشستر يونايتد معيداً البحث عن ذاته وشرفه، وتشيلسي يحلق مع أنتونيو كونتي، وكلوب يبدأ موسماً كامل التحضير، وجوارديولا قد وصل إلى مانشستر سيتي أيضاً، الكل ينفق حتى آرسنال أخرج من جعبته 100 مليون يورو في السوق دفعة واحدة وهذا لا يحدث كل يوم، هذا لا يحدث أصلاً!
أضف إلى ذلك تغيُّر جذري في وجهة نظر الخصوم، فمعاملة الناجي من الهبوط بصعوبة لن تُشابه أبداً معاملة حامل اللقب، هذا الذي يملك لاعبين يمكن لإنجاز كذلك أن يشبعهم إلى نهاية مسيراتهم الكروية.. باختصار رانييري رفع سقف الطموحات فانهار فوق رأسه.
الشيء الأسوأ والأكثر إهانة حيال هذا القرار هو توقيته، بين مواجهتي دور الـ16 لدوري أبطال أوروبا، نعم ليستر سيتي في مرحلة إقصائية من أهم بطولة أوروبية والتي لم يرها في حياته سوى مع رانييري، خسارة لم يكن أشد المتفائلين يحلم بها على ملعب إشبيلية 2-1، فقط 1-0 تكفيه للصعود في كينج باور، معيار صواب ذلك الأمر هو ما إذا كان الفريق سيهبط أم سيبقى: فإما ستضع الإدارة اصبعها في أعين الجماهير الغاضبة لإقالته، وإما ستحمل العار أمام المدينة التي كانت على أتم استعداد للهبوط مع رانييري إلى الجحيم بعد ما عاشته معه.
ولكن، كثر الحديث إثر ذلك القرار عن الفارق بين إدارة احترافية تُنحي العواطف جانباً وإدارة أخرى نعرفها جميعاً في لندن، لا زالت مخلصة لمُشيد ملعب الإمارات و…إلخ من ذلك الهراء الذي شبعت منه غالبية جماهير الفريق، ولكن أي فارق هذا؟ حقيقة الأمر هي أن إدارة آرسنال أكثر احترافية من إدارة ليستر، هي لا تُبقي على آرسين فينجر إلى يومنا هذا لأنها ممتنة له بل لأنه يحقق لها ما تريده مادياً، وطالما أنه يفعل ذلك بوسعه أن يبقى إلى يوم يُبعثون.
إن كانت إدارة ليستر قد قررت أن تنحي رأي الجماهير جانباً رغبةً منها في إنقاذ النادي، فإن إدارة آرسنال لا تأبه به من الأساس! مساوئ فينجر التي تعاني منها الجماهير لا تتعارض -بل تتفق أحياناً- مع مساوئ الإدارة، فهم معاً يشكلون مجموعة واحدة متناغمة تأخذها كلها أو تتركها كلها.
منذ شراء الملياردير التايلندي "فيشاي سريفادهانابرابها" للنادي عام 2010، والإدارة الحالية قد أنفقت 77 مليون جنيه إسترليني على الانتقالات، كما حوَّل مالك النادي 103 مليون جنيه من الديون إلى أسهم، وهذا ما قد يفسر عدم خوضهم الميركاتو بقوة في المعتاد.
بعد الصعود إلى البريميرليج ارتفعت النفقات بطبيعة الحال ما بين رواتب ومكافآت وصفقات، ولكن حين قفز هذا الفريق إلى الصدارة وظهر في الوقت ذاته قصور واضح في بعض المراكز اكتفت الإدارة بدانييل أمارتي وديماراي جراي، لاعبان صاعدان أحدهما لاعب وسط مدافع والآخر جناح، ليظل الدفاع على حاله.
كهنة يأتون لمباركة غرفة الملابس وملعب كينج باور، اسم المجموعة الاقتصادية الذي بات على لسان الجميع بفضل اللقب الأسطوري، هؤلاء الكهنة يصنعون تمائم وأشياء تجلب الحظ للاعبين والمدرب، يؤمن سابع أغنى رجل في تايلند -المقدرة ثروته بـ4.3 مليار دولار بحسب فوربس– بتلك الأمور، ولكن حين استشعر الخطر أيقن أن الكهنة لا يجلبون الحظ حقاً، واضطر لتعديل مسار السفينة بتغيير قائدها.
تكمن سخرية القدر في خروج هذا التصريح عقب تعرض تشيلسي مورينيو للخسارة على يد ليستر رانييري نفسه بهدفين مقابل هدف وحيد في البريميرليغ، وقبل أيام قليلة من إقالة البرتغالي لنشهد تشيلسي أفضل حالاً، هرب من مناطق الهبوط إلى وسط الجدول مع جوس هيدينك، ومنه إلى صدارة ترتيب هذا الموسم مع أنتونيو كونتي فما الفارق بينهما؟ يجيبنا دييجو كوستا مهاجم الفريق بأنه:"من المهم للمدربين أن يُعجبوا اللاعبين لأنهم هكذا سيمنحونهم كل ما لديهم على الملعب."
أقيل مورينيو بعد 4 انتصارات فقط في 16 مباراة، وخاض تشيلسي المباراة التالية تحت قيادة ستيف هولاند القائم بأعمال المدير الفني أمام سندرلاند لينتصر 3-1، وواصل ليستر ذلك الطريق السابق سرده إلى أن خرج بـ5 انتصارات فقط في 25 مباراة لينتهي الأمر برانييري كما انتهى بمورينيو، فكان الرجل الذي خلفه في تدريب تشيلسي عام 2004 هو أول من يُظهر التعاطف تجاهه، قبل لاعبيه الذين قيل عن بعضهم في الإعلام أنهم اجتمعوا مع الإدارة مطالبين بإقالته.
يوم من الصمت التام حتى خرج كاسبر شمايكل ثم رياض محرز وجيمي فاردي وغيرهم برسائلهم لوداع الإيطالي العجوز، نفي قاطع لكل تلك الأنباء، اكتفى مورجان بصورة جمعتهما، الرباعي موضع اتهام صحيفة تايمز كانوا شمايكل وفاردي ومورجان ومارك ألبرايتون، ولكن الشيء الوحيد الذي ينزع المنطقية عن ذلك النبأ، هو أن بقاء مورجان على وجه التحديد كأساسي يُعد واحداً من أبرز أخطاء كلاوديو.
ليس من السهل إصدار ذلك النوع من الأحكام بعد مباراة واحدة، ولكن ليستر نجح في عرقلة مسيرة أحد المتنافسين على مقاعد دوري أبطال أوروبا في المباراة التالية مباشرةً، فاز الثعالب على ليفربول 3-1 بل وتفوقوا فنياً أغلب الشوط الأول ليُعيد التاريخ نفسه كمهزلة حقيقية.
أي نوع من السحر أتى به كريج شكسبير المدرب المؤقت أمام ليفربول المتميز في الإخفاق أمام الفرق التي لا يُفترض بها إمساك زمام المبادرة أمامه؟ طوليات تستغل سرعة فاردي في ضرب المساحات وراء دفاعات يورجن كلوب الذي واصل الإصرار على ابتكاره الخاص بإشراك لوكاس ليفا في قلب الدفاع، ألم يكن هذا ما يفعله رانييري؟ ألم يكن الإيطالي هو من أرسى طريقة اللعب تلك؟
تغيير الأجواء وتجديد الدوافع عادةً ما يكونا السر وراء تلك الطفرة التي تحل باللاعبين بعد رحيل مدرب وقدوم آخر، ولكن النتائج السلبية وحدها لا تكفي لتحطيم روابط من خاضوا المغامرة وعاشوا الحلم معاً حتى جعلوه واقعاً، التحدي سيستمر وسيُقاتل هؤلاء اللاعبين مع قائد آخر لتفادي الهبوط سواء كان شكسبير أو غيره، وفي مثل ذلك النوع من القرارات الإدارية الصعبة .. العبرة فقط بالخواتيم.