ليلة سقوط برشلونة.. عن أليغري وفن صناعة الوهم
في الإعادة الأولى لنهائي برلين 2015، وفي المواجهة الثانية من نوعها بين المدربين على رأس فريقيهما الحاليين، ماسيميليانو أليغري يتفنن في نيل ثأره من لويس إنريكي بثلاثية نظيفة في ذهاب ربع نهائي دوري أبطال أوروبا.
الكثير قد تغير منذ تلك الليلة والقاسم المشترك هو الفقد، الفريقان خسرا عناصراً لا يسهل تعويضها وتقوضت دعائمهما، فهذا خسر بول بوغبا وأرتورو فيدال وأندريا بيرلو، وذاك خسر تشافي هيرنانديز وداني ألفيس لصالح الخصم، ولكن خسائر برشلونة الحقيقية أعظم من أن تُختذل في الأفراد، ربما كان ذلك وقت رحيل ألفيس، لكن لا أحد سيسامح من قرر تعويضه بسيرجي روبرتو ليضطر لاحقاً لتغيير الخطة بأكملها، أبداً.
حالة من الخدر التام وقع بها برشلونة منذ صافرة البداية، يوفنتوس يضغط بحثاً عن هدف مبكر، 7 دقائق والفريق الكتالوني لم تطأ أقدامه أرض الملعب بعد، منذ بداية كرة الهدف الأول ومن الواضح أكثر مما يلزم أن خوان كوادرادو خالي تماماً من الرقابة على اليمين ويمتلك المساحة الكافية لاستلام الكرة والتفكير في خطوته المقبلة، وهو ما حدث حيث تسلمها الكولومبي وأهداها بهدوء لباولو ديبالا الذي امتلك الأريحية الأكثر إثارة للتساؤل، لا أحد يعلم كيف حظي مهاجم على تلك الدرجة من الخطورة بالفرصة الكافية للالتفاف كاملاً وتوجيه الكرة على يمين تير شتيغن، أشياء لا يفعلها سوى دفاع برشلونة.
الأمر أشبه بما تعرض له البلوغرانا على يد أتلتيكو مدريد تحديداً في إياب ربع نهائي 2014، سنَّ الأتلتي تلك السُنَّة ومع بداية الموسم الحالي اتبعها الجميع، تريد هزيمة برشلونة؟ لم تعُد بحاجة للاصطفاف في الخلف وانتظار الفرج عبر المرتدة، فقط طبق الضغط كما ينبغي وسيبدأ الكتلان بالتحضير الخلفي وإرسال الطوليات التي ستتفوق أنت بها عادةً، هذا الحل الذي أتى به إنريكي في البداية كإضافة لترسانة الحلول ليتحول مع الوقت لخيار إجباري تحت الضغط يسهل على الخصم إجادة استغلاله، حيث تبدأ المرتدة عملياً لحظة انطلاق تلك الطولية.
كانت تلك هي الخطوة الأولى في عملية ماكس الناجحة لاصطياد البارسا، ليتراجع فريقه لاحقاً للحظات قليلة امتصاصاً لانتفاضة الخصم الساعي للتعويض، قبل أن يعاود التقدم بلاعبيه الأماميين للضغط في منتصف ملعب برشلونة من جديد.
سيناريو مثالي لبرشلونة أن يدرك هدف التعادل في الدقيقة 20 ليعيد المباراة إلى نقطة البداية ومعه أيضاً هدف في تورينو كان ليسهل مهمة كامب نو حتماً أياً كانت النتيجة النهائية، ولكنها ارتدت بالهدف الثاني لأن يد بوفون تواجدت حيث ينبغي لها بينما لم يتواجد ماسكيرانو حيث يُفترض به أن يكون، مرة أخرى ديبالا يلدغ برشلونة بتسديدة متقنة للغاية مُصيباً المعسكر الكتالوني كاملاً بالحسرة على إيقاف سيرجيو بوسكيتس.
شارفت الأمور على الانتهاء هنا، حتى بارقة الأمل الوحيدة من خطأ سامي خضيرة الذي سمح لميسي بافتكاك الكرة على حدود المنطقة انتهت بوصولها لسواريز المتسلل ومنه إلى ليو ليسجل هدفاً تم إلغائه، عاد يوفنتوس لمناطقه الدافئة وبات برشلونة مُضطراً لاختراق تلك الحصون من أجل التعويض مع مراعاة ألا يتلقى مرماهم المزيد ولديهم جيريمي ماثيو بالخلف، مُعادلة شبه مستحيلة.
أضف إلى ذلك تضارباً غير واضح المعالم بين مهام إيفان راكيتيتش وسيرجي روبرتو بالتزامن مع تواجد ميسي معهما على نفس الجهة اليمنى معظم الوقت، ليُضيف اللوتشو ابتكاراً جديداً إلى قائمته ألا وهو خُطة "أهل اليمين".
يقولون أن من يملك الاستحواذ هو من يتحكم بنسق المباراة، مقولة تفنن أليغري في تحطيمها فبينما امتلك برشلونة الكرة بنسبة 68% في الشوط الأول كان الاستراتيجي الإيطالي البارع هو من يحرك الخيوط.. 5 تسديدات واحدة منهم فقط على المرمى والمحصلة صفر، أمام 8 تسديدات تتضمن 5 على المرمى والنتيجة 2-0.
لأنها مشاهد مُعتادة لا تتغير مهما اختلفت الظروف والأماكن، استعاد غونزالو هيغوايين ذاكرته الأرجنتينية ليهدر انفراداً صريحاً كان يملك خلاله العديد من الخيارات ولكنه بالتخصص في المواعيد الهامة ضيَّق المساحة على نفسه ليُسدد في جسد تير شتيغن بلا أدنى مبرر، ولأنها نفس المشاهد المعتادة، تواجد أفضل مسدد يوفنتيني لضربات الرأس تحت حراسة ماسكيرانو ثاني أقصر قامة في تشكيل البارسا، لا بد وأن أدوريز وراموس قد أخبراك بما يحدث هنا عادةً فهي نتيجة حتمية: جورجيو كيليني يسجل الثالث من ركنية.
تستمر المشاهد المألوفة بلمسة يد ساذجة من كيليني نفسه داخل منطقة جزاء البيانكونيري ولكن الحكم لم يحتسبها ليزداد السيناريو روعةً لحاكمه أليغري ووبالاً على برشلونة المضطر لاختراق هذا الكاتيناتشيو في واحدة من أبشع مباريات لويس سواريز على الإطلاق.
لم يعد مدرب يوفي يرغب بالمزيد، لتشهد الدقيقة 73 إقحام ماريو ليمينا بدلاً من كوادرادو بغية إغلاق جبهة نيمار الذي لم يكُن في أفضل حالاته ذهنياً، ثم زيادة ازدحام الوسط بسحب رجل المباراة ديبالا وإشراك توماس رينكون، وأخيراً زيادة البنيان المرصوص أمام المرمى على حساب الوسط بإشراك أندريا بارزالي بدلاً من ميرالم بيانيتش.
قيل في أيام ذلك الصراع التاريخي أنه "كلما عرف مورينيو الإجابة قام غوارديولا بتغيير السؤال"، ولكن حين يتعلق الأمر بالتحولات التكتيكية داخل الملعب فإننا نتحدث هنا عن واحد من سادة ذلك التخصص تاريخياً، ولذلك برع في تغيير السؤال قبل أن يُفكر إنريكي بإجابته وربما قبل أن يستوعبه من الأساس.
امتلك البيانكونيري تنظيماً يُحسد عليه هجوماً ودفاعاً بالتزام كامل لكافة عناصره، ونجاح باهر لثنائية خضيرة وبيانيتش في إكمال الصورة، يَجدُر خلاله الإشارة بحالتين على وجه الخصوص، الأولى غونزالو هيغوايين الذي قدَّم كل ما طُلب منه -عدا التسجيل كالعادة- خاصةً في الشق الدفاعي والجُهد البدني المبذول في الارتداد من مناطقه إلى مناطق الخصم والعكس صحيح.
أما الثانية فهي داني ألفيس، فإلى جانب معاونة رائعة من ليوناردو بونوتشي في إغلاق ثغرات قليلة تركها خلفه كالمعتاد، من كان ليصدق أن البرازيلي يُمكنه اللعب بذلك الالتزام الدفاعي؟
أخيراً وفي حدث نادر بتاريخ برشلونة الكروي المُعاصر، هل سيسهل تصديق أن البلوغرانا لعب كرات طولية أكثر من خصمه الشهير بالدفاع والارتداد؟ بل وعرضيات أكثر أيضاً وهو النادي الشهير بفشله التام في استغلال النوع الهوائي من تلك الكرات، لم يكن ذلك خيار بل إجبار.
لا شك بأن برشلونة قد حقق معجزة تاريخية في ليلة الثامن من مارس أمام باريس سان جيرمان بتدوين اسمه كأول فريق في تاريخ المسابقة الأوروبية يعود من الخسارة 4-0، ولكن تلك المرة حتى وإن كانت النتيجة أقل على الورق (3-0) فإن البلوغرانا بحاجة لتحقيق معجزة أكبر. تتضاعف شعبية كرة القدم من شرعية الحُلم والأمل فيها لآخر رمق، ولكن يوفنتوس ليس باريس سان جيرمان.