بايرن ميونيخ – بروسيا دورتموند.. عند الحائط الجنوبي
رغم أن مباراة بين بايرن ميونيخ ودورتموند لا تحتاج في العادة لكثير من الدوافع، إلا أن تلك المباراة امتلكت الكثير منها؛ فالأول مازال يشعر بالغبن بعد خروجه أمام الميرينجي في البطولة الأوروبية التي انتظر الجميع في ميونيخ أن تكون نهاية لإحباط "جوارديولا" المتكرر في نصف النهائي، وبالطبع لم يكن يملك متنفسًا لكل هذا الضغط سوى اثبات تفوقه المحلي للمرة الألف، والثاني لم ينجو من الظروف المشابهة بدوره،
بعد أن قرر الاتحاد الأوروبي أن 24 ساعة زمن كافي للتعافي من صدمة التفجير الارهابي، وأن منح المزيد من الوقت لأسود الفيستيفاليا للاطمئنان على زميلهم الراقد في المستشفى، هو رفاهية لا توفرها جداول اليويفا المزدحمة وعقود رعايته الثمينة، كان ذلك بالطبع قبل أن يحتسب حكم لقاء موناكو ركلة جزاء وهمية وهدف من تسلل للضيوف في أول عشر دقائق.
المهم أن الثنائي استدار للكأس في محاولة للتربيت على أكتاف جماهيرهم، بافاريا لن تقبل بأقل من الثنائية المحلية بعد ما حدث، والحائط الأصفر يريد سببًا ليظل قائمًا بعد موسم مخيب لم يكن على توقعات الميركاتو، وشاءت القرعة أن يلتقيان في نصف النهائي كما شاءت المثل في أغلب بطولات الكأس في أوروبا هذا الموسم، كما حدث مع نابولي ويوفنتوس في ايطاليا وباريس سان جيرمان وموناكو في فرنسا.
كذلك يعلم "توخيل" أن المباراة غالبًا ما ستسير على وتيرة واحدة، وأن الـ 4-3-3 خاصته ستتحول إجباريًا لـ 4-5-1 لأنه لا يملك رفاهية الدفاع بسبعة لاعبين فقط أمام طوفان أصحاب الأرض، وهو ما حدث بالضبط، والفارق الوحيد أن الـ 2-4-4 لبايرن ميونيخ كانت أشبه بـ 2-7-1.
لم ينضم صانع الألعاب الإسباني لخط الهجوم واكتفى بتوزيع اللعب في الوسط، فيما بدا وكأنه استعراض لمهاراته في التمرير، اهتم فيه لاعب برشلونة السابق بمظهر التمريرة أكثر من قدرتها على كسر الخطوط وصناعة الفرص، وخرج من المباراة دون أثر يذكر إلا تغطيته الدفاعية الرائعة في الشوط الثاني عقب تغيير الايطالي المعتاد باخراج "ألونسو" لحساب "مولر".
لكن الخلل كان يقع في الثلث الأوسط من الملعب، لأن ثنائي الـ "روبيري" عاد لسيرة ما قبل "جوارديولا"، الهبوط لوسط الملعب وبدء الهجمة من على الأطراف بدلًا من الصعود من العمق، وهذا يعني أن الخط الأمامي في 2-4-4 فقد أخطر ثنائي يضمه، وأن دفاع الخصم لم يعد يواجه سوى "ليفاندوفسكي" منفردًا في الثلث الأخير.
بالطبع هذا لا يعني سوى شيء واحد هو تحرير ظهيري طرف دورتموند لمواجهة جناحي البايرن مبكرًا، وتحرير خط وسطه من المساندة في العمق، وأن أصحاب الأرض قد فقدوا عنصر المفاجأة التي وفرها فيما سبق تواجد 4 لاعبين بعرض منطقة جزاء الخصم، يدعمهم رباعي آخر بطيف متنوع من التمريرات البينية والعرضية والساقطة لتغذيتهم، فاتحًا الاحتمالات على مصراعيها وموفرًا عنصر المباغتة في توقيت التحرك وجهة التمرير.
كل ما سبق هو جزء أصيل من أزمة البايرن الحالية، وهي ليست بوليدة اللحظة، لأنها أزمة مازالت بافاريا بأكملها عاجزة عن إدراكها، بدأت بعد ثلاثية "هاينكس" المجيدة، والتي نجحت بنفس النسخة الحالية من الـ"روبيري" نجاحًا ساحقًا، وقدمت أسرع وأقوى نسخة من البافاري منذ مطلع القرن، ولكنها لم تنجح في مواكبة التغييرات بعدها، أو ربما لم تفهم أن تلك النسخة المباشرة فائقة السرعة لن تُواجه بخطوط مفتوحة بعد فوزها بكل شيء ممكن، وأن لجوء خصومها فيما بعد للتكتل الدفاعي سيصبح أمرًا حتميًا لا مناص منه، وهو ما حاول "بيب" فعله، فنجح مرات وفشل أخرى، ورحل دون أن يضيف للخزينة البافارية أكثر ما رغبت به.
حتى مدرب هجومي كتوخيل يثمن الاستحواذ سيضطر لركن الباص أمام النسخة الحالية من بايرن ميونيخ؛ ولا شيء يعبر عن ذلك أكثر من كون "توخيل" الذي يعتبر "جوارديولا" مثله الأعلى قد لجأ للدفاع بشكل صريح منذ بداية المباراة، ودورتموند الذي عادة ما يكتسح الاستحواذ والسيطرة الميدانية في مبارياته قدم مباراة شبيهة بالتي قدمها الأتليتي أمام البايرن على نفس الملعب في الموسم الماضي، وهو ما تطلب حلولًا مبتكرة من الايطالي لم يستطع توفيرها، وكأن إدارة بايرن ميونيخ لا تعرف الحلول الوسط؛ فإما مدرب يغير خطته 5 مرات في المباراة الواحدة، أو آخر من الرتابة لدرجة توقع تشكيلته وتغييراته وأسلوب لعبه من قبل اللقاء بأسبوع.
النتيجة أن "أنشيلوتي" ورث عن "جوارديولا" باصات الخصوم الدفاعية، ولكنه لم يتمكن بعد من فك شفراتها، خاصة في ظل تراجع مستوى عدد لا بأس به من أهم أعمدة الفريق على رأسهم "ألابا" و"مولر"، بالإضافة إلى "فيدال" الذي لا يؤدي إلا بسرعة 200 كيلومتر في الساعة، دافعًا الفريق في كثير من الأحيان لتسرع هو في غنى عنه، ناهيك بالطبع عن استمرار "ألونسو" في الملعب حتى اللحظة بمستواه البدني الكارثي.
كل هذا أدى في النهاية للـ 2-7-1؛ انعدام توازن وخلل تام في العملية الهجومية للفريق، لأن هناك العديد من اللاعبين خلف الكرة وواحد فقط أمامها، وكأن البايرن يخبر خصومه مسبقًا أن رقابة "ليفاندوفسكي" هي المفتاح لكل شيء، ولا يتبقى حينها سوى تسديدات "روبن" المعتادة أو الكرات الثابتة.
على الجهة الأخرى قدم أسود الفيستيفاليا واحد من أسوأ أشواطهم هذا الموسم بسمات جديدة عليهم؛ تمريرات خاطئة، ارتداد بطيء، ورعونة بالغة في الخروج بالكرة، لذا فقدوا تقدمهم سريعًا برأسية الرائع "مارتينيز"، ثم توالت الفرص رغم ضيق المساحات ليفشلوا في الحفاظ على تقدمهم السهل في بداية الشوط الذي انتهى بتقدم أصحاب الأرض.
العنوان الكبير هنا كان الفاعلية، دورتموند فاز رغم أنه لم يقدم مباراة كبيرة على مستوى الأداء، ولكن مدربه فعل؛ فبينما كان "أنشيلوتي" يقوم بتبديلاته المعتادة، ربما حتى في نفس الدقائق، بعد أن خسر أولها لحساب اصابة "هوملز"، قرر الألماني الذكي تعديل أوضاعه كلها بتغيير واحد، فأخرج "كاسترو" مكتفيًا بثنائي ارتكاز من "فايجل" و"جيريرو"، ومنح تعليماته للأخير بملازمة "روبن" في مغامراته القطرية جهة عمق الملعب، ثم أشرك "إيريك دورم" لانتشال "بيتشيك" من طوفان "ريبيري" على الجهة المعاكسة، دافعًا بـ"ديمبيليه" للثلث الأخير بعد أن حرره من مهامه الدفاعية.
الباقي معلوم بالبديهة؛ خرج "ريبيري" بعد أن افتقد لفاعليته في الشوط الأول، واستفاد الفرنسي الآخر من المساحات خلفه ليصنع هدف التعادل في لقطة جديرة بالتسجيل، لأنها شهدت نجاحه في ارسال عرضيته لرأس "أوباميانج" وسط 6 من مدافعي البايرن، ثم سجل الثالث بنفسه بعد مرتدة بدأت بالضغط على "لام".
ولكن كل ذلك لم يكن ليتم دون قليل من الحظ كما قال "توخيل" في تصريحات ما بعد المباراة، بل الكثير منه في الواقع، لأن فريقه خرج للصيد في ثلاث فترات لم تتجاوز مجتمعة 15 دقيقة، ورغم ذلك نجح في العودة بثلاثة أهداف، وتلك الأهداف الثلاثة لم تكن لتأتي سوى بفضل أداء "بندر" الرائع في محور الدفاع، والذي توجه بإنقاذ هدف مؤكد من تسديدة "روبن" أمام المرمى الخالي.
لا يقترب من حصيلة بندر الدفاعية سوى فيدال أكثر من أفسد هجمات دورتموند في المباراة – المصدر صوفا سكور
ولكنه لم يكن مشهدًا جديدًا كذلك، بل تكرار لما حدث من قبل مع "ستيفن جيرارد" في واحدة من أقسى لحظات اللعبة على الاطلاق وأكثرها دلالة، ولكنها دلالة بسيطة لا تحتمل التعقيد والتنظير، مفادها الوحيد أن قائد بايرن ميونيخ كان يؤدي دوره حتى اللحظة الأخيرة، وأن فريقه اعتمد عليه لبدء الهجمة وقيادته نحو الفوز رغم تقدم عمره، ببساطة لأنه لم يجد من هو أفضل منه ليفعلها، حتى وهو يتعرض للضغط من لاعبين من الخصم دفعة واحدة، وحتى بعد ثلاث سنوات من تخطي حاجز الثلاثين، وفي مركز ينتهي أغلب لاعبيه عمليًا بمجرد وصولهم لنفس الحاجز.
ولكنها رغبة البشر الأصيلة في اصطناع الدراما كلما أمكن، واختصار أعقد الأمور في عنوان واحد كبير، ولو أهدر "روبن" فرصته على خط المرمى في اللحظة الأخيرة لتحمل عبء المباراة بمفرده كذلك.
في النهاية فاز دورتموند باستحقاق رغم أن استحواذه لم يتخطى 30%، وخسر بايرن باستحقاق رغم أنه تسيد المباراة طولًا وعرضًا، في إعادة مملة لدرس الفرص المهدرة الذي ألقاه أسود الفيستيفاليا على مسامع البافاريين للمرة الألف، ولا نعلم حتى اللحظة كم سيخسرون من بطولات حتى يعونه، أما الأسود نفسهم، فقد نالوه ما جاءوا من أجله؛ سبب آخر للأمل في مستقبل هذا الفريق الشاب، ونهائي يعد بكأس جديدة قد تبقى حائطهم الجنوبي صامدًا لموسم آخر.