دقائق في عمر مورينيو
"المباريات المتبقية في البريمييرليغ هي مباريات لا نريد لعبها، مانشستر يونايتد لا يهتم بإنهاء الموسم في المراكز الأربعة الأولى بل بإنهاء موسمه ببطولة"
بهذه المغالطة المنطقية بدأ "مورينيو" حديثه بعد انتهاء اللقاء(1)، مضيفًا حلقة جديدة من مسلسل الإنكار الذي استمر طيلة الشهور الأخيرة؛ شهور بنى خلالها البرتغالي قلاعًا وحصونًا من الأعذار والحجج التي لا تنتهي، بدأت بالتحكيم ولم تنته بحراس مرمى الخصوم الذين يتألقون أمام مانشستر يونايتد بالخصوص، ربما لأنهم جزء من المؤامرة المعتادة المتورط فيها كل أطراف اللعبة تقريبًا، والتي لا هم لها سوى اضطهاد الرجل وعرقلته في كل موسم، سواء نجحت في ذلك أو لا.
أقدم حيلة في الكتاب كما يقول أبناء العم سام؛ كلما زاد أعداؤك كلما زادت أهميتك، وإن لم تكن تمتلك ما يكفي منهم فعليك أن تصنع المزيد لتوحي لأنصارك أنك في حرب دائمة مع الجميع، لأن الحرب هي الأمر الوحيد الذي يُعتبر فيه البقاء حيًا إنجازًا في حد ذاته، أيًا كان من بدأها وحتى لو كان يمتلك أعتى الأسلحة النووية في ترسانته. لذا كانت الإصابات الأخيرة بمثابة الهروب الكبير للبرتغالي من تحمل مسؤولية موسمه، لتذكرنا بالقصة الشهيرة عن الرجل الذي ادعى الغرق عدة مرات أملًا في مزيد من الانتباه، فلم يجد من ينقذه عندما كان يغرق فعلًا.
يمكن تلخيص موسم الـ"سبيرز" في كونهم لم يخسروا على أرضهم من بدايته لنهايته لأول مرة منذ نصف قرن تقريبًا(2)، وإذا لم يكن هذا كافيًا، فإن توتنهام قد أنهوا موسمهم فوق أرسنال في جدول الترتيب لأول مرة منذ عام 1995؛ عندما كان "كلينسمان" و"شيرينغهام" هم ثنائي هجومهم الأساسي، وكان "أرسين فينغر" مدربًا لـ"ناغويا" الياباني، وكان أغلى لاعب في العالم هو "رونالدو" الظاهرة في صفقة نقلته لبرشلونة مقابل 13 مليون باوند.(3)
أضف لكل ذلك أن توتنهام يخوضون مباراتهم الأخيرة على الملعب الذي شهد عودتهم لزمرة كبار البريمييرليغ، والذين صاروا ستة بقوة الأمر الواقع والنتائج التي لم تكتفي بإثبات أحقيتهم في الانضمام وحسب، بل ربما شككت في استحقاق بعض هؤلاء الكبار للقبهم من الأصل، والنتيجة أن المباراة جرت بين طرف يريد توديع ملعبه التاريخي بأفضل طريقة، وآخر انتظر نهاية المباراة بفارغ الصبر، طرف لم يرد الرحيل من الملعب وآخر تمنى لو لم يأتي من الأصل.
بدأ "بوتشيتينو" بمرونته المعتادة التي صارت علامته المسجلة؛ 4-2-3-1 تتحول لـ3-4-3 لحظة بدء الهجمة بهبوط "ديير" بين قلبي دفاعه "ألدرفيريلد" و"فيرتونخن"، دافعًا كل من "ديفيز" و"تريبييه" لطرفي الوسط كمتنفس لإخراج الكرة، بينما فضل "مورينيو" الدخول بـ3-6-1 التي تتظاهر أنها 3-4-3 لحفظ ماء الوجه، مشركًا عددًا من البدائل لإراحة الأساسيين من أجل مباراة أياكس المصيرية في نهائي الدوري الأوروبي، فيما أسماه بـ"منح الدقائق لبعض اللاعبين".1
لا تعارض هنالك، لأن 4-2-3-1 التي أنهى بها "مورينيو" مباراته أتت لاحقًا، بعد 10 دقائق من الضغط الهجومي الكاسح لأصحاب الأرض الذين سجلوا هدفهم الأول في منتصفها تقريبًا، وظهر خلالها عجز "روني" و"ماتا" عن انتشال "كاريك" من طوفان "وانياما" المعتاد، والذي توجه العملاق الكيني برأسية متقنة من عرضية "ديفيز" تفوق فيها على الغولدن بوي، وكأن السيطرة على وسط الملعب لم تكفيه.
تحسن مفاجئ في أداء الشياطين عقب الدقيقة العاشرة، عقبه تراجع تدريجي للمربع رقم صفر بنهاية النصف ساعة الأولى، لأن الشاب الإنجليزي لم يستطع احتواء الدانماركي وإن نجح في تحجيم تحركاته لحد مقبول بالنسبة لمراهق لم يبلغ العشرين من عمره بعد، ولأن الدانماركي لا يحتاج للمراوغة والاختراق ليصنع هدفًا، وفي ظل تواجد كل من "كين" و"آلي" تصبح بضع عرضيات كافية لإنهاء المباراة، و"إريكسن" لا يجيد شيئًا في لعبته بقدرها.
|
المثير في الأمر أن الشياطين لم ينجحوا في ايقاف اكتساح الـ"سبيرز" الهوائي رغم امتلاكهم لرباعي دفاعي اعتاد التفوق في مثل هذه المواجهات، بل ورغم ضيق المساحات في دفاعاتهم نجح أصحاب الأرض في عدد من الاختراقات الأرضية عن طريق المراوغة أو الثنائيات السريعة، وكأن المشكلة لم تكن في مشاركة البدلاء بقدر ما كانت في فشل "جوزيه" فيما اعتاد النجاح فيه بدوره؛ تحفيز فريقه وتنظيمه في الثلث الأول من الملعب.
لذا ورغم التحسن النسبي في أداء الشياطين فيما تبقى من المباراة، رجحت كفة الـ"سبيرز" بوضوح، خاصة في ظل تكفل "مارسيال" منفردًا بأغلب هجمات الضيوف، والتي انحصرت بشكل واضح في التمرير الطولي للفرنسي السريع استغلالًا للمساحات المتخلفة من تقدم دفاع أصحاب الأرض، بالطبع قبل أن يجد "مورينيو" التوازن المنشود في الشوط الثاني بدفع "روني" مرة أخرى كمهاجم وحيد وإحالة "مارسيال" للطرف حيث تجدي مراوغاته وسرعته، ونتج عن ذلك أول هدف للشياطين في مواجهات الستة الكبار خارج الأولد ترافورد، في مباراة شهدت أول هدف لـ"هاري كين" في شباكهم كذلك.
|
المباريات تأتي وتذهب كما يقال، والفشل والنجاح كذلك، فلم يعرف التاريخ مدربًا تفوق في كل مواسمه ولا أغلبها حتى، وفي المجمل لم يكن تفوق "بوتشيتينو" التكتيكي كاسحًا على خصمه، بل ربما توازنت الأمور في كثير من الأوقات، ولكن في النهاية أصر "مورينيو" على عادته واختصر الأمر كله في كونه "يمنح مزيدًا من الدقائق لبدلائه ولاعبيه الشبان"، وبينما قد تبدو تلك الحجة منطقية أمام فريق بحجم مانشستر سيتي أو تشيلسي لا تعوزه الإمكانيات والأسماء، فإنها تبدو من أسخف ما يمكن أمام خصم كتوتنهام، لأن تلك الدقائق التي ستمر سريعًا على "مورينيو" كانت نفس الطريقة التي بنى بها الأرجنتيني فريقه، وإذا كان الرجل يشكو اضطراره لمنح الدقائق للشباب ومعدومي الخبرة فإن هذا ما قضى "بوتشيتينو" عمره في فعله، ولعله السبب الأساسي في انتصاره بالأمس.