شعار قسم ميدان

"سكاوت".. عن الثُقب الأسود في أكاديمية تشلسي

ميدان - أبراموفيتش

أطلق عنان خيالك قليلًا وأخبرني عن أعظم أحلامك لتشلسي؛ ثلاثية مع "كونتي"؟ لم لا تكون سداسية؟ الفوز (0-6) على اليونايتد في الأولد ترافورد؟ (0-8)؟ "ميسي"؟ أن يختفي أرسنال من الوجود؟ ماذا لو قلت لك أن بإمكاننا استبدال كل ذلك بمباراة واحدة ولتكن ضد واتفورد مثلًا، يفوز بها البلوز بهدف وحيد تسجله أنت؟ لابد وأن هذا أفضل من 10 دوري أبطال و20 بريمييرليغ من المنزل.

 
مهما تحدث المشجعون المتحمسون عن أهمية هذا الهدف أو تلك البطولة فلن يراودهم حلم أعظم من تمثيل أنديتهم، هناك سحر لا يمكن وصفه في رؤية أحد ناشئي فريقك يخطو للعشب لأول مرة وينجح مع الفريق الأول.

  

ربما لأنه يشعرك بأن حلمك ليس مستحيلًا وأن الأمر ممكن، بأن واحدا "منّا" يمكنه أن يصبح واحدا "منهم"، أن تذوب كل الحواجز الإعلامية وطبقات الشهرة والمال ليصبح الجمهور ولاعبيه كيانًا واحدًا؛ الفرصة لتكون "مالديني" الميلان أو "غيغز" اليونايتد أو "إنييستا" برشلونة؛ ليس فقط لأنها الطريقة الأمثل لبناء نجاحات النادي وشخصيته التاريخية، بل كذلك لأن قليل من الصدق والشغف مطلوب في عالم يقسم فيه "دراكسلر" أنه كان يحلم بالانضمام لباريس(1).

 
لكنك تعلم أنك ستختار "ميسي" أو الـ(0-8) على اليونايتد أو أي شيء آخر، لأن عالم تشلسي مختلف ولا مكان فيه إلا لـ"جون تيري" واحد فقط؛ 13 عامًا على بناء الأكاديمية ومئات الملايين وعدد لا نهائي من الإعارات، ورغم ذلك لم ينجح أحد في تحقيق حلم البريدج، بل إن تشلسي يفضل المراهنة على إعادة إحياء مسيرة "باتو" أو "فالكاو" الميتة بدلًا من منح فرصة لـ"بامفورد" أو "سولانكي" لاستكمال أخرى واعدة.

 

 رومان أبراموفيتش رئيس ومالك نادي تشلسي (الأوروبية)
 رومان أبراموفيتش رئيس ومالك نادي تشلسي (الأوروبية)

 

على قمة الهرم

المستثمر الروسي البارد عديم الصبر؛ قد لا يكون الوصف الأنسب لـ"رومان أبراموفيتش"، "ديفيد سميث" محرر الغارديان؛ الرجل الوحيد الذي تسنى له مقابلته يصفه بأنه هادئ، أقرب للخجل(2).

 
يقول "فرانك أرنيسين"، الدانماركي الذي عمل معه لست سنوات ككبير الكشافين ورئيس قطاع الشباب؛ أن الصورة الذهنية الدارجة عن "أبراموفيتش" ليست صحيحة بالضرورة، بل إن أغلب ما تعلمه عنه قد يكون خاطئًا؛ الرجل الذي يحمل شغفًا كبيرًا للعبة وتطوير الشباب بالأخص، لم يتردد في إنفاق 20 مليون باوند في 2003 لإنشاء الـ"كوبهام سنتر" كأفضل أكاديمية في إنجلترا، و8 ملايين إضافية سنويًا لتسييرها، "أرنيسين" يعلم ذلك لأن "أبراموفيتش" اضطر لدفع 10 ملايين أخرى لجلبه من توتنهام وإغرائهم بفسخ عقده(3).

 
في البداية كان "أبراموفيتش" يقضي الأيام مع "بيت دي فيسر" معلم "أرنيسين" الذي قام بترشيحه للروسي، والذي ينسب له فضل اكتشاف "روماريو" و"رونالدو" في آيندهوفن، كان "رومان" يحاول تعلم كل شيء عن اللعبة ويستمع لنصائح الثنائي عن التكتيك والخطط المثلي لتنشئة لاعبي تشلسي الشباب، لسبب بسيط هو أن ما قاله "رانييري" عن الروسي كان صحيحًا فعلًا؛ الرجل لم يكن يعلم حرفًا عن كرة القدم(3).

 
وجود ثنائي آيندهوفن خلق نوعًا من التنازع على السلطة مع "مورينيو"، خاصة بعد تعيين "أرنيسين" مديرًا للتعاقدات وتصادُم فلسفته مع رغبة "جوزيه" الدائمة في انتداب أفضل اللاعبين، السبب أن "رومان" لم يعد يفهم لماذا يجب عليه أن يدفع عشرات الملايين كل موسم للتعاقد مع لاعبين يمكن لتشلسي تطويرهم بين صفوفه كـ"سميرتين" و"بولاحروز" و"ديل هورنو" و"كيزمان" و"أليكس" و"مانيتشي"، القائمة طويلة فعلًا وتجارب "مورينيو" لا تنتهي(4).

 
بالطبع يعلم الجميع كيف انتهى الأمر، خرج "مورينيو" بعد أن ضاق "أبراموفيتش" ذرعًا بمشاكله وإصراره على رفض التعاون مع "فيسر" و"أرنيسين" ليعقبه قائمة أخرى من المدربين الذين فشلوا بدورهم في منح أي فرصة لشباب البلوز، حتى أتى "أنشيلوتي" وبدأ الأمل يلوح في الأفق؛ ففي موسمه الأول حصل "كاكوتا" و"ماكيشران" و"جيفري بروما" و"فان أنهولت" على متوسط 15 مباراة لكل منهم، وخرج وقتها مدير الأكاديمية "نيل باث" ليبشر الجميع بالضوء الذي ظهر في نهاية النفق، ثم خرج "أنشيلوتي" نفسه ليعقبه "فياش بواش" و"دي ماتيو" وعاد الإحباط من جديد، حتى وصلت الأزمة لذروتها في موسم 2012-2013 عندما كان تشلسي النادي الوحيد الذي لم يلعب له أي ناشئ بين أندية البريمييرليغ(5).

 

 مورينيو في تشلسي موسم 2007 (الأوروبية)
 مورينيو في تشلسي موسم 2007 (الأوروبية)

 
السبب؟ لأن "رومان" يريد الفوز بأكبر كم ممكن من الألقاب، وبسرعة، وحتى يجد مدربو تشلسي الزر الذي يكسب الناشئين الخبرة اللازمة للفريق الأول دون الحاجة للعب من الأصل، فلن يخاطر أحدهم برأسه وسمعته من أجل شاب قد يتحول لـ"رونالدو" آخر ثم يتبين أنه ليس أكثر من مجرد "روبينيو".

 

انفصام الشخصية

استغرق الجميع 10 أعوام و10 مدربين ومليار باوند ليدركوا أن المشكلة في "أبراموفيتش" نفسه، الذي يريد استخدام الشباب لتوفير ملايينه، وفي نفس الوقت هو على استعداد لقلب النادي رأسًا على عقب إذا انتهى الموسم بأي شيء غير التتويج؛ هذا ما يحدث عندما تبدأ تعلم كرة القدم في الأربعين من عمرك.

مع عودة "مورينيو" مرة أخرى في 2013 بدأ الحديث عن عهد جديد يستفيد فيه النادي من الـ"كوبهام"، دشنه "جوزيه" بتصريحه الشهير عن وجوب غلق مدرسة الناشئين إذا فشلت في إخراج لاعبين جديرين بتمثيل الفريق الأول، لأن الاستخدام الأفضل للمال وقتها سيكون في شراء المزيد من اللاعبين الجاهزين(5).

 
ولكن الكثير كان قد تغير في عشرة أعوام، رباعي تشلسي لم يتبقى منه سوى "فان أنهولت" في سندرلاند، وفترة "أرنيسين" التي عرفت بحقبة "المدفع الرشاش" -في إشارة لعشوائية التعاقدات مع الشباب وكثافتها- كانت قد فقدت أغلب نجومها البارزين الذين كاد بعضهم يكلف البلوز عقوبة الحرمان من التعاقدات.

 

"كاكوتا" انطلق في سلسلة لا نهائية من الإعارات أوصلته لرايو فاييكانو في الدرجة الثانية من الدوري الإسباني، و"مايكل وودز" جوهرة الوسط التي خاض من أجلها "أرنيسين" حربًا شعواء، يلعب الآن في هارتلبول متذيل ترتيب الدرجة الثالثة من الدوري الإنجليزي، بالإضافة لـ"توم تايوو" الذي أتى معه من ليدز ولا يعلم أحد إلى أين انتهى مصيره، حتى "ماكيشران" الذي حصل على ميدالية دوري الأبطال خرج من النادي من أجل مزيد من الدقائق، فاستقر به الحال في برنتفورد ثاني عشر التشامبيونشيب(5)، والناجي الوحيد كان "ريان برتراند" الذي أعاد كومان اكتشافه مؤخرًا في ساوثامبتون، وقد ينتقل لسيتي "بيب" في الصيف الحالي(6).

 

النتيجة كانت أن بعد كل هذا الإنفاق والقائمة الطويلة من المعارين التي بلغت 29 لاعبا لم يمتلك تشلسي سوى 12 شابا يلعبون في دوريات أوروبا الخمس الكبرى وعشرات المحبطين الذين فقدوا الدافع والطموح
النتيجة كانت أن بعد كل هذا الإنفاق والقائمة الطويلة من المعارين التي بلغت 29 لاعبا لم يمتلك تشلسي سوى 12 شابا يلعبون في دوريات أوروبا الخمس الكبرى وعشرات المحبطين الذين فقدوا الدافع والطموح

 
الأمر لم يقف عند هذا الحد، ومع الوقت اكتسب الـ"كوبهام سنتر" سمعة سيئة، وتحول للوجهة المثالية لتدمير المواهب الشابة التي يتم قتل طموحها وانتمائها للنادي، فبعد أن يفوزوا بكل شيء ممكن ما بين 18 و21 عامًا، يتم إرسالهم في إعارات لا تختلف كثيرًا عن التدريب في ساحة النادي الخلفية.

 

النتيجة كانت أن بعد كل هذا الإنفاق والقائمة الطويلة من المعارين التي بلغت 29 لاعبا لم يمتلك تشلسي سوى 12 شابا يلعبون في دوريات أوروبا الخمس الكبرى وعشرات المحبطين الذين فقدوا الدافع والطموح، بينما يمتلك برشلونة 43، ومانشستر يونايتد 36 وأرسنال 22 طبقًا لإحصائية نشرت في 2015، ولم ينفق أيًا منهم نصف ما أنفقه "رومان" ليبني أكاديميته(7).

 

الثغرة

بالطبع استسلم مدربو الأكاديمية تدريجيًا لمعادلة "راتب ضخم في عمل بلا نتيجة"، ويئس شباب البلوز من "عبور الطريق"؛ المصطلح الذي يطلقونه على الدعوة الأولى للتدرب مع الفريق الأول(3).

 

ثم أتى الحل أخيرًا بعد عدة مشاكل وملاحقات من اليويفا بسبب قانون اللعب النظيف، فاتفق الجميع على الاستفادة من إحدى ثغرات القانون في تحويل الأكاديمية لنشاط "التجارة في الشباب" إن جاز التعبير؛ القانون كما تعلم يسمح بالإنفاق على قطاعات الناشئين والبنية التحتية للنوادي دون حساب، لذا عندما يضم تشلسي "كيفن دي بروين" و"روميلو لوكاكو" في عمر 20 و18 عامًا من جنك وأندرلخت مقابل 6 و18 مليون باوند على الترتيب، فإن تلك المبالغ لن تدرج في الموازنة السنوية الخاضعة للرقابة، ولكن عندما يبيعهم -كلاعبين في النادي- مقابل 18 و28 مليون باوند لفولفسبورغ وإيفرتون في عمر الـ22 عامًا، فإن تشلسي في نظر اليويفا قد حقق ربحًا مقداره 46 مليون باوند. لأن الجميع يحب العبث بالقوانين بين الحين والآخر، حتى الهادئين الخجولين(8).

 
خطة في منتهى الذكاء بالطبع؛ تخلصت من مصدرين للمشاكل، أوجدت هواية جديدة لتزجية وقت مدربي الأكاديمية، واستثمرت المال في التعاقد مع نجوم الصف الأول من طراز "باتو" و"دجيوبودجي" و"فالكاو" و"بابا رحمن"، بإمكانهم نقل الفريق لمستوى آخر تمامًا، بالإضافة لتوصيل رسالة قوية لكل ناشئي الأكاديمية السذج الذين يتدربون بجد معتقدين أن هناك فرصة ما تنتظرهم.

 

الثقب الأسود

فشل "مورينيو" ورحل دون أن يحرك حجرًا في ماء الأكاديمية الراكد، وسيفشل "كونتي" غالبًا وسيفشل من يليه، لأن مطالبات "أبراموفيتش" الدائمة بالألقاب لن تسمح لمشجعي تشلسي بعيش اللحظة المنشودة مع أول "غيغز" أو "مالديني" أو "إنييستا" يخرج من بين صفوفهم، ولا يبدو أن الوضع الحالي يغضب أحدًا، خاصة هؤلاء الذين اكتشفوا حبهم المفاجئ للبلوز بعد 2003، حتى "أرنيسين" لم يجد حرجًا في التقليل من حجم الأزمة مادام النادي يحقق هدفه الأصلي وهو الفوز بالألقاب(3).

  

أبراموفيتش لم ولن يستمع لنصيحة مورينيو بغلق الـ
أبراموفيتش لم ولن يستمع لنصيحة مورينيو بغلق الـ"كوبهام سنتر"، وسيستمر في منح الأمل الزائف للاعبيه الشباب، لأن هذا يشعره بالرضا عن نفسه وأنه ليس مجرد رجل أعمال عديم الصبر
 

الغاضب الوحيد بالإضافة لشباب الأكاديمية كان مديرها "نيل باث"، الذي يؤمن إيمانًا عميقًا بأنه يمتلك حاليًا أفضل مجموعة من اللاعبين مرت عليه(3)، وأنهم في الطريق ليكونوا نجوم البلوز المستقبليين، معتبرًا الفشل في إيصالهم للفريق الأول -إن حدث- بمثابة أزمة كبرى سيتعين على المجتمع الكروي كله النظر لها وتحليلها، كان هذا بالطبع قبل أن يستغني البلوز عن أغلب من تحدث عنهم "باث" كـ"تراوري" و"أتسو" و"بامفورد" و"سولانكي"، وقبل أن يتيه "بيازون" و"باساليتش" و"فان خينكل" في دوامة الإعارات المقدسة(4).

 
الأمر ليس بهذا السوء على أي حال، فبعد بدايته مع الفريق الأول صرح "شالوبا" بأنه كان واثقًا من قدرته على النجاح طيلة الوقت، والحقيقة أنه محق؛ الأمر ليس بهذه الصعوبة فعلًا وبإمكان أي من زملائه تحقيقه، فقط عليه أن يجتاز مئات الإعارة في 250 نادي مختلف مثلما فعل "شالوبا" وسيجد نفسه في التشكيل الأساسي دون عناء!(9)

 

"أبراموفيتش" لم ولن يستمع لنصيحة "مورينيو" بغلق الـ"كوبهام سنتر"، وسيستمر في منح الأمل الزائف للاعبيه الشباب، لأن هذا يشعره بالرضا عن نفسه وأنه ليس مجرد رجل أعمال روسي عديم الصبر، والمشكلة أن "أبراموفيتش" لا يجد غضاضة في أن ينجح فقط لأنه المتسوق الأكثر مالًا، لا يفهم حاجة المشجعين للترابط الإنساني مع ناديهم ولاعبيه، والإحساس بأنه أكثر من مجرد سلة للبضائع وأن لاعبيه ليسوا مجرد مرتزقة على استعداد لاستنساخ مشاعرهم وحتى أداءهم في الملعب مقابل راتب أعلى.

  
المشكلة أن "رومان" لا يحتاج لأن يفهم كل ذلك من الأصل، لأن تشلسي لم يكن ليصبح تشلسي لولا أمواله، ولأنه لم يبتاع النادي ليحقق حلمه باللعب بين صفوفه وتسجيل ذلك الهدف أمام واتفورد، في الواقع "رومان" يفضل 10 دوري أبطال و20 بريمييرليغ من المنزل.

المصدر : الجزيرة