الفاتورة.. كشف حساب ماكس أليغري
لم يمر أكثر من يوم واحد فقط على نفاد التذاكر الموسمية الخاصة باليوفنتوس حتى فوجئ جمهوره بإعلان استقالة مدربهم أنطونيو كونتي بمنتصف (يوليو/تموز) 2014!(1)
استقالة كونتي الذي ضمن لليوفي الصدارة المحلية لثلاثة مواسم متتالية كانت صادمة لقطاع كبير من الجماهير، فبعد أن وصلت العلاقة لمرحلة سيئة بين إدارة النادي وبين المدرب الذي كان يريد مزيدا من الإنفاق بالميركاتو الصيفي، فضّل الأخير الرحيل تاركا موقعه شاغرا بتوقيت صعب وأسئلة بلا إجابة عن هُوية المدرب القادم وقدرته على مواصلة نجاحات كونتي. يقول ديفيد أمويال -المحرر المساعد للصحفي ذائع الصيت جانلوكا دي ماريزيو- إن إدارة البيانكونيري لم تستقر بداية على اسم واحد لخلافة المدرب المستقيل، لكن أنظار بيبي ماروتا كانت تتجه صوب المدرب الذي أقاله بيرلسكوني منذ شهور خلت، وهو ماكس أليغري!(2)
لم تستقبل جماهير اليوفي الخبر بارتياح أو ترحاب، بل على العكس، ما يؤكده ديفيد هو تجمع قطاع من هؤلاء بطريق السيارة التي حملت أليغري وماروتا لمقر التدريبات مستقبلين المدرب الجديد في يومه الأول بهتافات عدائية تطالب بإنهاء مسيرته قبل أن تبدأ، لكن من قال إن الانطباعات الأولى تدوم؟!
لكن الأمر لم يقتصر فقط على المباريات، بل امتد لقراءة كيف تسير الأحداث، فلقد أدرك ماكس ثقل التركة التي خلفها كونتي، وطبيعة المهمة المركبة التي بات مسؤولا عنها، ببساطة لم يكن على أليغري فقط تأمين خط سير الفريق، بل أيضا التقدم الأوروبي خلال نفس إطار الإمكانيات التي ضاق بها سلفه، ناهيك عن خطب ود جماهير استقبلته بالبيض الفاسد! لذلك كان أول تصريحاته كمدرب لليوفي هو:"أنا أتفهم شكوك الجمهور الذي تغيّر مدربه بيوم وليلة، لكني سأكسبهم لاحقا بالنتائج، والعمل الجاد، والاحترام كما الاحترافية".(4)
ورهان ماكس الأول كان اكتساب ثقة لاعبيه ليتمكن لاحقا من تمرير أفكاره التكتيكية التي لا تشترك مع تلك الخاصة بسلفه في كل شيء، فشرع بالبناء والإضافة على ما وصل له مشروع كونتي، ولم يلجأ للحلول الهدّامة ليخرج الفريق من عباءة الأخير. وبعد أن خاض أول 15 مواجهة بالدوري خلال موسمه الأول مع اليوفي محققا 11 فوزا وتعادلين، وتجاوز التعثر بدور المجموعات بدوري الأبطال، ثم الإجهاز على مشروع كلوب بدورتموند بثلاثية قاسية، أدركت الجماهير أن أليغري لم يكن أبدا الخيار السيئ، بل على العكس ظلمته الإدارة السيئة لميلان.(5)
أما رهانه الثاني فكان إقناع لاعبيه خلال تلك الفترة بضرورة التحلي بقدر من المرونة التكتيكية، يحب أليغري اللعب بأكثر من رسم تكتيكي بحسب متطلبات المباراة وما تفرضه الإمكانيات المتاحة، كما يحب الاستعانة بلاعب في غير مركزه الأصلي إذا تطلب الأمر كما فعل مع كونستانت بميلان! هذا الرهان بتحوله بين أساليب لعب 4/3/3 و3/5/2 منح اليوفي ما لم يحصل عليه منذ عشرين عاما، حين فاز بثنائية الدوري والكأس بموسم 2014/2015، بعد أن أفلت من إعصار الميرنجي على البرنابيو حاسما بذلك تأهله لنهائي الأبطال، لكن برشلونة حرمته من مضاعفة الإنجاز.
ربما لا يوجد أفضل من تصريح ماركيزيو لتوتوسبورت للإشارة لأهمية ما أنجزه مدربه حين قال: "أليغري جعلنا نفهم ضرورة ألا نعتمد على خطة واحدة، نحن نمتلك الإمكانيات التي تؤهلنا لتغيير أسلوب اللعب كلما أردنا".(6)
لكن رهانا أصعب تولد من تلقاء ذاته عقب الإخفاق الأوروبي بموسمه الثاني، فرغم إضافة ثنائية محلية جديدة فإن بوجبا وموراتا لحقا بقائمة الراحلين من العماد الأساسي للفريق الذي ضم من سبقوهم للرحيل مثل: فيدال، وتيفيز، وبيرلو!(7) لا يبدو تعويض غياب اسم واحد من هؤلاء بالمهمة اليسيرة، فما بالك بخماسي خلال عامين فقط؟
بلا شك كان بيانيتش الخيار الأنسب لأليغري، فالبوسني يمتلك كل الصفات التي يريدها ماكس -وربما أي مدرب آخر- لصانع الألعاب ومتوسط الميدان الإيجابي الذي يجيد اللعب بأكثر من مكان، صاحب القدرة المبهرة على كشف الملعب والتمرير الفعال خصوصا بنصف الملعب الهجومي، أضف إلى ذلك بالطبع جماعيته وتأدية أدواره الدفاعية.
لكن ثمة عاملا في غاية الأهمية يتميز به بوغبا عن البوسني، فالفرنسي يُعد حلا هجوميا بذاته يمتلك القدرة على التهديف والتسديد والزيادة لمناطق الخطورة، أما الآخر فيجيد أكثر عندما يؤدي على دائرة الملعب بمهام بناء الهجمة عن طريق الاستلام والتسليم المتقن.
البوسني ميرالم بيانيتش |
هجوميا لجأ اليوفي لحل مفاجئ لخط سيره بالسنوات الأخيرة بعد أن دفع قيمة الشرط الجزائي كاملا بعقد هيغواين،(9) أراد أليغري لاعبا صاحب شخصية أمام المرمى، يجيد التهديف المتنوع ولا يحتاج سوى فرصة سامحة للتسديد، لا شك أن الأرجنتيني عاش حينها أعلى فتراته نضوجا بعد أن تراكمت خبراته، لكن يبقى استهلاك ملايين صفقة بيع بوغبا بهذا الشكل مجازفة كبرى، غير أنها مجازفة تلائم طموح أليغري الأوروبي الذي بات معلوما للكل.
كما أضاف البرازيلي ألفيس إلى جانب الثنائي الجديد لعمق تشكيلته، مانحا فريقه قوة هجومية إضافية وخبرة بالمواجهات الكبرى، بذلك أعاد أليغري ترتيب أوراقه مستمرا على اللعب بأحد مشتقات 4/3/3 التي كان ينتهجها حتى ذلك الوقت، وبدا جهده الفني واضحا بخلق التجانس بين هيجوآين وماندزوكيتش، كذلك استمرت صلابة المنظومة الدفاعية لليوفي على حالها، ورغم تواصل الانتصارات فإن المشكلة الأهم باتت في المركز رقم عشرة صانع الألعاب، خصوصا عند اللجوء لخطة 4/3/1/2، فلم يتمكن بيانيتش من تأدية هذا الدور على أكمل وجه وانتظرت الجماهير كيف سيتصرف ماكس.
البرازيلي داني ألفيس |
يقول الفرنسي المخضرم إيفرا -الذي نال شرف التدرب تحت السير فيرجسون- إن أهم مميزات أليغري معرفته العميقة بفريقه ومكامن القوة والضعف، لذلك فالإيطالي يكشف للاعبيه كثيرا مما سيدور بالمباراة قبل حتى أن تبدأ، ولعله يعرف متى سيفوز أو سيخسر أيضا.(10) صدق إيفرا عندما بادر مدربه السابق قبل منتصف الموسم بإدخال تعديلات على تشكيلته لحل المشكلة المذكورة.
تشكيل اليوفي شهد تواجد الثلاثي ماندزوكيتش وهيجوآين وديبالا معا للمرة الأولى، تراجع بيانيتش لمركزه الذي يحبه كصانع لعب متأخر على دائرة الملعب، وسيكون بجواره من الآن فصاعدا خضيرة بأدوار متنوعة بين استخلاص الكرة والمساندة الهجومية. على الأطراف سيتحوّل الكرواتي -الذي وصفه أليغري بمحرك السيارات- من قلب الهجوم للجناح السريع الذي يجيد التحوّل كمهاجم ثان، وعلى الجانب الأيمن سيتولى كوادرادو زمام الأمور. ظهرت فاعلية تعديلات أليغري على كل المستويات، فاستعاد بيانيتش كثيرا من مستواه، وأجاد ديبالا بالمركز رقم 10 مسجلا أحد أهداف المباراة، واستمر المعهود عن ماندزوكيتش من نشاط وحيوية.
إذا كان كل هذا التحوّل الفني الذي سيستمر لأغلب فترات الموسم المتبقية لا يذكرك بتشكيل الإنتر مع مورينهو فربما عليك أن تعرف ماذا قال أليغري بمؤتمر مباراة لاتسيو: "التشكيل الحالي يمنحنا كثيرا من اللاعبين الهجوميين، في المقابل لم يمنح لاتسيو أي شيء، كان لدينا ثغرات أقل من ذي قبل، لذلك فُزنا"(12)، كلمات مورينهو بحذافيرها إبان فترته بميلانو!
أدرك أليغري أن الموسم دخل مرحلة الحسم، وبالتالي اختار المضمون، والمضمون كان يتلخص بمنح الخصم أقل عدد من الثغرات بمقابل تأمين الفوز الذي ستتكفل به -بلا شك- أدواته الهجومية. بالفعل تحقق له ما أراد، فقد استمرت سلسلة اللاهزيمة لليوفي منذ ذلك الحين وحتى 14 مباراة قادمة، لم يقطعها سوى خسارة أمام نابولي لم تتسبب بإزاحة اليوفي من بطولة الكأس،(13) هنا قد يظن البعض أن "كل" شيء يسير على ما يرام لتكرار ثلاثية مورينهو ولكن بتورينو، لكن واقع الأمر اختلف ولو قليلا عن ظاهره!
فأولا: لم يمتلك البيانكونيري دكّة البدلاء القادرة على تعويض الأساسيين، خصوصا بالوسط الهجومي، ولا توجد أطراف بديلة على نفس مستوى كوادرادو وماندزوكيتش، ولا يوجد مهاجم بديل لـهيجوآين الذي عانى من الإجهاد بسبب تلاحم المباريات، والأمر ذاته بمركز صانع الألعاب الذي يشغله أصلا المهاجم ديبالا.
ثانيا: بوضعية الدفاع، فإن اليوفي يتحوّل عند فقدان الكرة لـ 4/4/1/1، يعود على إثرها كوادرادو وماندزوكيتش للمساندة على الأطراف، لكن المشكلة أن هيجوآين وديبالا لا يمتلكان المردود الدفاعي القوي، وبالتالي لا يكون من الصعب على الخصم الخروج السليم بالكرة، خصوصا عند امتلاك لاعبي العمق التحكم الجيد.
ثالثا: رغم الأداء الجيد الذي قام به الثنائي خضيرة وبيانيتش فإنهما لا يتميزان بقدرة استثنائية على استخلاص الكرة والمواجهات المباشرة والالتحام القوي، يضاعف ذلك من قدرة الخصم على النقل والتغول داخل عمق ملعب فريق بوفون.
نشرت مدونة "blackandwhiteallover" الخاصة بجمهور ومحللي اليوفنتوس إحصائية عن عدد تمريرات الخصم داخل عمق ملعب اليوفي قبل وبعد التحوّل لـ 4/2/3/1، لتكشف أن تمريرات الخصم ازدادت بنسبة 6% بعد هذا التحوّل، مما يعني زيادة فرص الفرق على هز شباك أليغري!
رابعا: فقد اليوفي في هذا النظام قدرة الطرف العكسي على تهديد المرمى بشكل مباشر من عمق الملعب خصوصا بحالة الكرواتي، ما عكف عليه ماريو هو الانطلاق بامتداد الخط وإرسال عرضيات أو بينيات كان له الأثر الفعّال، أو الانطلاق لعمق منطقة الجزاء بحالة العرضيات العكسية. لكنه لا يمتلك المهارة الكافية للتغوّل بالكرة لعمق الملعب ومواجهة أكثر من مدافع وتبادل المراكز مع هيغواين.
وإجمالا فإن غياب أحد عناصر الفريق قد يدفع أليغري لتغيير أسلوب لعبه كله في سبيل الحد من إضافة ثغرات جديدة، تماما كما فعل عندما غاب خضيرة عن مباراة موناكو، فلجأ للتحوّل من 4/2/3/1 نحو 3/4/2/1، هذه النقطة في حد ذاتها ثغرة أخرى!
بمقارنة تشكيلة الفريق مع تلك الخاصة بالإنتر 2010 يمكن بوضوح اكتشاف الفوارق، فالثلاثي كمبياسو، وتياجو موتا، وشنايدر يمتلكون قدرة أكبر على المواجهة الدفاعية والضغط الشرس على حامل الكرة من الخصم. بل إن الإنتر كله يتحول عند فقدان الكرة لـ 4/5/1، وبالتالي تتضاعف صعوبة الخصم في اختراق هذه الطبقات الصلبة.
الأمر لا يختلف بالنظر لحالة إيتو وماندزوكيتش، الكاميروني لعب بمركز الجناح العكسي بعد أن أقنعه مورينهو أن إمكانياته تسمح بالقيام بمهمتين، الأولى صناعة الفرص وخلق المساحة للثنائي ميليتو وشنايدر، كما استغلال مهارته الفائقة لمواجهة قلوب دفاع الخصم وبالتالي التسجيل أيضا إذا سمحت الفرصة. المثير أن ماكس ربما يكون على علم بكل تلك المشكلات والثغرات، ويعرف أيضا أن إيجاد علاج جذري لها لن يتحقق إلا بإضافة أسماء أخرى، لذلك فإن أهداف اليوفي بالميركاتو الحالي تبدو محددة جدا: لاعب ارتكاز قوي، مهاجم، لاعب طرف ملعب.
احتاج أليغري أن يلاقي ريال مدريد بأقوى حالة لديه على المستوي الجماعي والفردي، وبدكة تحتوي على جيمس رودريغز وأسينسيو وموراتا وكوفاسيتش حتى تنكشف ثغرات فريقه التي لم تظهر بهذا الوضوح بمواجهات ليست بهينة |
ولأن الريمونتادا لا تحدث كلما زار فريق الكامب نو، لم يعبأ أليغري كثيرا سوى بحماية مرمى بوفون، صحيح أن فريقه تقدم على فترات من المباراة بل كاد أن يسجل ملتهما المساحات الشاسعة، غير أن ما شغله بالنهاية كان عدم استقبال أهداف. لكن السؤال المهم، لماذا لم تظهر ثغرات اليوفي بمباراتي برشلونة؟ لأن الكتلان يعانون أصلا من نقص حاد بصناع الألعاب، راكيتيتش الذي تألق بنهائي برلين 2015 اختفى منذ ذلك التاريخ، تشافي رحل، إنيستا فقد كثيرا من سحره وحيويته، حتى الثنائي نيمار وسواريز فقد أحكم رباعي خط الظهر قبضتهم على تحركاتهما، هكذا غابت الفاعلية إلا من فرصتين صنعهما ميسي الذي أخذ على عاتقه أدوارا إضافية بصناعة اللعب. لذلك فقط لم يعانِ بشدة الثنائي خضيرة وبيانيتش أمام وسط ملعب البلوجرانا، محققين 7 تدخلات ناجحة هي مجموع ما حققه ساندرو وحده، وأقل بـ 4 تدخلات عما حققه الأخير مع ماندزوكيتش!(15)
الثغرات التي أفصح عنها مودريتش لاحقا مشيرا لاستغلال زيدان أهمية النقل والتمرير وفتح الملعب أرهقت وسط ملعب الطليان وتسببت في تلك الخسارة الكبيرة.(17) لكن ما حصل بين شوطي المباراة بغرفة الفريق -خصوصا بين الثنائي بونوتشي وألفيس- وكشف عنه اليوم ماندزوكيتش يقع كليا تحت مسؤولية أليغري الذي تأخر كثيرا بحسب الكرواتي في التدخل بالمشكلة، وترك الثنائي -كما ذكر- ينشرون الفوضى والتشتت!(18)
عموما احتاج أليغري أن يلاقي ريال مدريد بأقوى حالته على المستوي الجماعي والفردي، وبدكة تحتوي على جيمس رودريغز وأسينسيو وموراتا وكوفاسيتش حتى تنكشف ثغرات فريقه التي لم تظهر بهذا الوضوح بمواجهات ليست بهينة، سواء داخل دوري الأبطال أو خارجه مع برشلونة وموناكو وبورتو وإشبيلية ونابولي وروما، وهو أمر يحسب في النهاية لأليغري، فقط إذا استطاع إصلاحه خلال الموسم القادم ولم تتوقف عجلة أفكاره.
الأمر المهم أن تلك الخسارة لم تكسر مشروع أليغري، ولم تدفع أحدا بالإدارة وغالبية الجماهير على التشكيك بإمكانياته كما حدث عندما ظهر للمرة الأولى كمدرب لليوفي قبل 3 سنوات، بل إن ماروتا سارع لإعلان التجديد للرجل عقب الهزيمة الثقيلة.(19)
اليوفي مع أليغري بات قوة أوروبية تطيح بكبرى الأندية الأوروبية، وعاد مرة أخرى مكانا لجذب لاعبي المستوى الأول الباحثين عن تجربة جديدة، الإيطالي أضاف لغالبية من عملوا معه من لاعبين سواء هذا الموسم أو قبله، لذلك هو أفضل مدرب بإيطاليا، بل إن مجلة "فور فور تو" (fourfourtwo) منحته المرتبة الثالثة كأفضل مدرب بالعالم خلال الموسم المنقضي.(20)