شعار قسم ميدان

أزمة ريال مدريد في 300 صفحة

ميدان - ريال مدريد

فلنبدأ بالحقائق؛ بداية ريال مدريد الكارثية في الليغا حدث جلل، لا شك في ذلك، وعرض ألافيش لم يكن مطمئنًا بالدرجة الكافية، وموراتّا مهاجم رائع، لا شك في ذلك أيضًا، بل ويعتقد الكثيرون أن التضحية به لصالح ثنائية بنزيما ورونالدو كان أولى خطايا  زيدان، ناهيك عن اعتراف الرجل نفسه أن بيعه لم يكن القرار الأصوب،(1) كذلك فقد الريال بديلًا صلبًا في الدفاع هو بيبي ومُعوضه فاييخو ليس على نفس الكفاءة، بالإضافة لاستمرار أزمة البدائل لأفضل ظهيري طرف في العالم حاليًا، ودكة بدلاء البلانكوس التي لم تعد بنفس قوتها في الموسم السابق، كل هذه حقائق يصعب نقاشها.

 

بالطبع لا تقع المشكلة في الحقائق التي يدركها الجميع، بل في الخطوة التي تَتبع كل ذلك، لأننا كثيرًا ما نخلط بين الأهمية والتعقيد، ونفترض بداهة أن أي حدث جلل لا بد وأن يكون تفسيره صعبًا والعكس بالعكس، لذا فعندما نتعرض بالتحليل لأي مسألة يصبح التعقيد السلعة الأكثر مبيعًا، ويرفض الناس التفسيرات البسيطة مهما كانت منطقية، ربما لأنهم يشعرون بأنها تهين ذكاءهم، أو لا ترضي غرورهم بما يكفي.

 

المئة صفحة الأولى

ولكن رغم كل شيء يظل هناك حدًا أقصى من التعقيد يمكن أن تصل له الأمور، وبعده يصبح البحث عن الإجابات السهلة هو أكثر الحلول واقعية، ليس فقط لأن الأسباب التي ذُكرت لتراجع مستوى الميرينغي لا تفسر ما يحدث، بل لأنها كانت قائمة حين بدأ ريال مدريد رحلتي السوبر الأوروبي والمحلي، ورغم ذلك لم تمنعه من تحويل الصراع على اللقبين إلى نزهتين خاضهما بأريحية لا تتناسب مع الحدث إطلاقًا، خاصة أن الأولى كانت أمام مدرب عنيد يتخصص في هذه النوعية من المباريات، والثانية كانت أمام الغريم التقليدي الذي فشل الميرينغي نفسه في هزيمته طيلة الموسم الماضي رغم الفارق الفني المهول، بل وتلقى على يده واحدة من الهزائم النادرة على أرضه، وفي غياب نفس النيمار الذي انتقل لباريس في الصيف.(2)

قائمة الريال ما زالت الأقوى على الإطلاق، فبافتراض أن تشكيلته الأساسية تضم الثنائي رونالدو وبنزيما إلى جانب إيسكو، فإننا نتحدث عن دكة بدلاء تضم ثيو هيرنانديز وسيبايوس وكوفاسيتش وفاسكيز وبيل وأسينسيو (رويترز)
قائمة الريال ما زالت الأقوى على الإطلاق، فبافتراض أن تشكيلته الأساسية تضم الثنائي رونالدو وبنزيما إلى جانب إيسكو، فإننا نتحدث عن دكة بدلاء تضم ثيو هيرنانديز وسيبايوس وكوفاسيتش وفاسكيز وبيل وأسينسيو (رويترز)

لذا يمكنك أن تفهم لماذا لا تبدو حجة الدكة منطقية، فوجود بدلاء بهذه الكفاءة وهذا التنوع لم يكن أفضلية لريال مدريد على ليفانتي وبيتيس بل على بايرن ميونيخ وبرشلونة ويوفنتوس، وفقدان موراتا تحديدًا هو أوضح مثال على الحالة الاستثنائية التي كانت عليها قائمة الريال في الموسم الماضي، فمن الصعب اعتبار رحيله لتشيلسي سببًا في كل تلك الفرص السهلة المهدرة، لأن وجوده كبديل أصلًا كان رفاهية خارقة نادرة الحدوث، لم ولن يمتلكها أي من منافسي الميرينغي المحليين أو الأوروبيين، بل إن أغلبهم كان يتمنى مهاجمًا بقدراته في تشكيلته الأساسية.

الأهم من كل ذلك أن قائمة الريال ما زالت الأقوى على الإطلاق وبفارق واضح، فبافتراض أن تشكيلته الأساسية تضم الثنائي رونالدو وبنزيما إلى جانب إيسكو، فإننا نتحدث عن دكة بدلاء تضم ثيو هيرنانديز وسيبايوس وكوفاسيتش وفاسكيز وبيل وأسينسيو؛ مدافع ولاعب وسط أرادهما الغريم كأساسيين،(3) (4) ولاعب وسط آخر تمناه كبار إنجلترا،(5) وجناح صنع من الأهداف ما يوازي ما صنعه خط وسط برشلونة مجتمعًا في نفس الموسم،(6) ونجم يعاني للعودة لمستواه و داهية اسمها أسينسيو، (7) وكل ذلك دون أن نتطرق للخيارات الأقل بريقًا مثل كاسيا وناتشو وفاييخو ويورنتي ومايورال، ورغم تأديتهم للمطلوب وقت استدعائهم للمشاركة.

كل ما سبق لا يعني أن قائمة الميرينغي مثالية إلى حد الكمال، ولكنه يؤكد أنها ما زالت أفضل من كل أقرانها، وهو ما قاد الحديث لزيدان نفسه؛ فالبداية المتواضعة تعني أنه قد انكشف أخيرًا وظهر على حقيقته، وأنه ليس أكثر من مجرد مدرب محظوظ ساعدته الظروف أكثر من أي شيء آخر، وهي نظرية عَدَمية تأكل نفسها بنفسها، لأنها تعني أن عليه الاستمرار في الفوز للأبد ليثبت جدارته.

 

المئة صفحة الثانية
لم تكن مباراة بيتيس هي المناسبة الأولى التي يخطىء فيها زيدان تغييراته منذ توليه الفريق، ولكن كل ذلك لم يكن مهمًا ما دام الفوز يتحقق في كل مرة
لم تكن مباراة بيتيس هي المناسبة الأولى التي يخطىء فيها زيدان تغييراته منذ توليه الفريق، ولكن كل ذلك لم يكن مهمًا ما دام الفوز يتحقق في كل مرة
 

المشكلة تبدأ بالخطأ الشائع الذي يفترض أن الإنجازات العظيمة تتحقق بلا أخطاء أو ثغرات، بينما كل من حققوها يعترفون أن ما أنجحهم هو محاولة تقليلها قدر الإمكان لا نفيها من الوجود، وجزء كبير من هذه المهمة يقع على عاتق الإعداد النفسي والذهني، والذي كان الجزء الأكبر من عمل زيدان مع الفريق في نفس الوقت، وهذا لا يعني بالضرورة تواضع عقليته الخططية والتكتيكية، بل يعني ببساطة أن الخطط والتكتيك ليست الأداة الأكثر تأثيرًا في عمل المدرب، وأن هناك عوامل أكثر حسمًا في نجاح الموسم أو فشله، حتى ولو لم تكن قابلة للقياس مثل الأهداف والتمريرات الحاسمة ودقة التسديد.

فكوارث راموس في التمركز ليست بجديدة، بل وكانت إحدى ظواهر الموسم الماضي المتكررة، وإضاعة الفرص السهلة كانت حاضرة ببطل مختلف هو بنزيما، ولم توقفها إصابته منذ بداية الموسم الحالي بل تناوب عليها رونالدو ومايورال وغيرهم، وكذلك لم تكن مباراة بيتيس هي المناسبة الأولى التي يخطىء فيها زيدان تغييراته منذ توليه الفريق، ولكن كل ذلك لم يكن مهمًا ما دام الفوز يتحقق في كل مرة، وأغلب العوامل التي ساهمت في تحققه ما زالت موجودة باستثناء واحد فقط هو الرغبة والحماس اللذان كانا يعادلان تلك الأخطاء أويلغيان تأثيرها.

السبب الواضح هو أن الصراع نفسه لم يعد موجودًا، ريال زيزو لم يعد بحاجة لإثبات أي شيء، فالقرعة التي أرجع لها الكثيرون سبب الفوز بنسخة 2016 أتت بأعتى الخصوم في 2017، والليغا قد عادت مجددًا للميرينغي بعد سنين من الغياب، والأيام السعيدة التي وعد بها راموس عقب هزيمة البرنابيو الرباعية أمام الغريم قد أتت بالفعل.(8)

كلما ظهر فريق قادر على التحدي أخذ آخر مكانه بسرعة؛ فمانشستر سيتي أظهر شخصية قوية بالفوز على برشلونة في المجموعات، فقط ليخسر بسذاجة بالغة من موناكو بعدها
كلما ظهر فريق قادر على التحدي أخذ آخر مكانه بسرعة؛ فمانشستر سيتي أظهر شخصية قوية بالفوز على برشلونة في المجموعات، فقط ليخسر بسذاجة بالغة من موناكو بعدها
 

الأمر ببساطة أن ريال مدريد يعاني من حالة سُكر متقدمة، أو ما يُسمى بالـ (Hangover)، وهو تعبير يستخدم في كرة القدم لوصف الفرق التي أشبعتها الإنجازات والبطولات ولم تعد تمتلك نفس الدوافع السابقة، ليس فقط لأن ريال زيزو قد فرغ لتوه من اكتساح القارة وتحقيق ما لم يتحقق منذ عقود، بل لأن عدد النزهات كان أكثر مما ينبغي أثناء ذلك.

ففي أوروبا أكل الثيران البيض بعضهم البعض، وكلما ظهر فريق قادر على التحدي أخذ آخر مكانه بسرعة؛ فمانشستر سيتي أظهر شخصية قوية بالفوز على برشلونة في المجموعات، فقط ليخسر بسذاجة بالغة من موناكو بعدها، ثم أحبطت فرص موناكو سريعًا بالهزيمة ذهابًا وإيابًا أمام يوفنتوس، والذي أطاح ببرشلونة دون عناء بدوره، وعقب أن أقصى الكتلان باريس بفضيحة قلما تتكرر، ثم انطلق الناجي الوحيد من هذه المعمعة لينسحق في النهائي برباعية قياسية، بل ودون الحاجة لكثير من المجهود أو حتى الوصول للأشواط الإضافية كما سبق مع الأتليتي، وبعد كل ذلك كان الاختبار الوحيد المتبقي هو كسر أنف الغريم، فكانت مباراتي السوبر كالكأس الأخيرة في رحلة ريال زيزو نحو الثمالة.

 

المئة صفحة الأخيرة

تلك هي المشكلة بالضبط؛ أن الريال نال كل ما أراده منذ 2009 خلال عام ونصف فقط لا غير، بل ولم توفر له حالة خصومه التهديد الكافي للاستمرار، وحتى لو فعلت لما كان ليتغير من الأمر شيء ما دام قد نال مراده، وبالطبع لا حاجة لنا إلى مراجعة التاريخ لندرك أن كل الفرق التي حققت ذات الأذنين عانت في المواسم التالية من تراجع الحوافز والرغبة، وبما فيهم ريال مدريد نفسه.

 زين الدين زيدان (رويترز)
 زين الدين زيدان (رويترز)

قطعًا هناك ما يمكن العمل عليه في ريال زيزو؛ فالدفاع ظهر مهزوزًا في أغلب المباريات منذ بداية الموسم، والفرص الضائعة ما زالت صداعًا قادر  على تحويل أسهل المواجهات لأصعبها، وما زالت الانتدابات الجديدة بحاجة لمزيد من الوقت للتأقلم، ولكن افتراض أن هناك ما كان سيجنبه التراجع في بداية الموسم على الأقل ليس منطقيًا، ليس فقط لأنه ما زال يمتلك أفضل فريق في أوروبا، بل كذلك لأنه افتراض يعارض الحتمية التاريخية بوجوب سقوط المنتصر، ويناقض الطبيعية البشرية التي تميل للاسترخاء بعد كل إنجاز كبير، فما بالك بإنجاز هو الأكبر.

بالطبع يظل التحليل هو الأساس الذي تقوم عليه اللعبة، ولكن في بعض الأحيان ينبغي عليه أن يتنحى جانبًا ليدرك أنه لم ولن يغير طبائع الأمور وسنة الكون، فلو لم يكن تراجع الريال الحالي طبيعيًا ومنطقيًا لما كان أول فريق يحقق البطولة مرتين متتاليتين، ولما كان موسمه الماضي بهذه الاستثنائية من الأصل، وبالطبع يمكن أن تتغير الأمور لاحقًا ويحقق زيدان الثالثة عشر أو الليغا مرة أخرى، ولكنه سيُعد إنجازًا استثنائيًا آخر غير طبيعي وغير متوقع، على عكس ما يحدث الآن.

حالة الريال الحالية هي معادلة حسابية بسيطة يستحيل أن تخرج بنتيجة مختلفة مهما سُودت المجلدات لتحليلها وتعريف أسبابها، نتيجة حتمية ولا هروب منها، بالضبط مثل حتمية 1+1=2، وهذا لا يعني أنها سترضي غرور الجميع في مدريد أو أنهم سيتقبلونها بسهولة، ولا يعني كذلك أنهم سيكونوا أول من يفعل ذلك في التاريخ، فالعالَم له سوابق كثيرة في الاستغراق في تحليل البديهي والواضح، منها على سبيل المثال اجتماع الفيلسوف الأسطوري برتراند راسل مع عالم الرياضيات ألفريد وايتهيد في 1910 لإثبات معادلة 1+1=2 نظريًا، وبعد الكثير من الدراسة والتنظير استطاع راسل ووايتهيد أن يخبروا الجميع بضمير مستريح أن إضافة تفاحة إلى تفاحة يجعل المجموع تفاحتين، ولكن تطلب الأمر ثلاث سنوات من العمل الشاق المستمر وثلاثة مجلدات من المعادلات الحسابية شديدة التعقيد، بلغ عدد صفحاتها 300 صفحة تقريبًا.(9)

المصدر : الجزيرة