شعار قسم ميدان

محمد صلاح.. انتصارات المهزومين!

midan - محمد صلاح
اضغط للاستماع

 

ربما لم يتعرض لاعبٌ في تاريخ اللعبة لمثل ما لقيه كريستيانو رونالدو من خطأ في طريقة التقييم. فالبرتغالي الاستثنائي منذ أن قدم من اليونايتد إلى العاصمة الإسبانية في 2009، حاملاً كرته الذهبية الأولى، لم يعد محاطًا بالمعجبين. بل بدائرة من الخصوم والأنصار. وهذه هي الظروف المثالية لإنتاج ما يمكن أن نسميه بحالة الـ "أعلى/أدنى من مستوى التقييم" (Over/Under Rating).

 

ظلم الخصوم يسهُل استيعابه؛ إذ يقفون بلا مبالاة أمام كل ما حقق باعتبارها إنجازات اعتياديه. ولا ترقى إلى ما يفعله نجمهم. أما ظلم الأنصار فأكثر تعقيدًا. إذ ينظرون إلى رونالدو مطالبين إياه بالمزيد مهما قدم. وينظرون إلى النجم الخصم. والذي يعتبره البعض الكثير كأفضل لاعب في تاريخ اللعبة، فيطلبون من الهداف التاريخي لناديهم لا أن يصبح الأفضل في إسبانيا ولا في العالم ولكن الأفضل في التاريخ.

 

هذه الحالة تقتل مسألة التقييم. ويصير قَدَرُ النموذج محل النظر متوقفًا على صراعات الخصوم والأنصار وأمزجتهم. إما (under rated) أو (over rated). وتتكرر هذه الحالة في أي صراع جماهيريّ شعبويّ؛ لاعب كرة أو مدرب أو فريق أو فيلم سينما أو مطرب. تختلف الأسباب وتتماثل النتيجة النهائية للحالة. والمسألة لا تتعلق بتفضيل كريستيانو أو ميسي مثلاً. ولا بالمديح أو الانتقاص. لكنها عن الحق في تقييم حقيقي. وها هو محمد صلاح الآن يبرز كنموذج آخر لهذه الحالة الغريبة.

 

انتصارات المهزومين
محمد صلاح مع جماهير نادي ليفربول (رويترز)
محمد صلاح مع جماهير نادي ليفربول (رويترز)

 

لقد أصبح الجناح المصري محط إعجاب الكل. وفاعليته لم تعد محل شك. ولكن بعضًا من هذا الكل يمكن تصنيفه في خانه الأنصار. والقاسم المشترك بين هؤلاء هو الهزيمة. فجماهير ليفربول، وجماهير الكرة المصرية، هم قطاعات تعاني من هزيمة طويلة، وتحتاج إلى بطل يروّح عنها هزائمها، وتجد فيه الموعود لإنقاذها.

 

لأنك تسير وحدك

التاريخ الآن هو 2018. لذلك، فإن لحظة إسطنبول ودوري الأبطال الأيقوني في ذاكرة مشجعي الريدز أصبحت تاريخًا، وقع منذ 13 عامًا، ولا يمكن الاستناد عليه بصورة واقعية. لأن الواقع لا يبشر باستعادة الأمجاد قريبًا. ستيفن جيرارد كان دليلاً أخيرا على عظمة هذا النادي، لكنه غادر الأنفيلد رود منذ 3 سنوات. وكوتينيو الذي أمل المشجعون في بقائه لمدة أطول، كي يشغل الفراغ الذي خلفه فرناندو توريس ولويس سواريز، قد فعل كل مقبول وغير مقبول من أجل المغادرة إلى برشلونة. لقد أصبح مركز ثقل الفريق فارغا. وفجأة ظهر صلاح.

 

في أسابيع قليلة أصبح محمد صلاح مطالبًا بأن يكون دليل الفريق على العظمة والقدرة على المنافسة. فإن حاز برشلونة على ميسي والريال على كريستيانو وباريس على نيمار، فنحن الريدز، ولدينا صلاح. بقوانين الإحصاء، وبما قدمه الجناح المصري حتى الآن، فالفرصة سانحة لأن يبلغ الكثير. ولكن .. هل من العدل أن تُفرض طموحات 13موسمًا من غياب التتويجات الكبرى على لاعب واحد؟ وهل من المنطق أن يُقارن لاعبٌ في بداية مرحلة نضجه بأسماء رسّخت أقدامها في ملاعب الكرة؟ أليس من الظلم أن يُعتبر "المخلِّص" بعد أقل من 6 أشهر؟


   

كأس العالم

لا تمتلك الجماهير المصرية في مسيرة لاعبيها المحترفين ليفاندوفسكي بولندا، ولا جورج وايا ليبيريا ولا تشيفيتشينكو أوكرانيا. وأقرب ما تستحضره الذاكرة من هؤلاء كانت مسيرة ميدو التي تخبطت سريعًا بعد نجاح البدايات الباهر، أو عمرو زكي الذي انطفأ قبل أن يلمع، بعد تألق أشهر قليلة في البريمييرليغ. لذلك فإن جماهير كرة القدم المصرية تعاني حالة من "الهزيمة النفسية" كما يراها كثيرون أمام نجوم أوروبا بشكل عام، وأمام نموذج منتخب النجم الواحد بصورة خاصة.

 

وتتجلى الهزيمة تلك في شكلين متضادين؛ الأول ينفي عن اللاعب أي تميز، وكأن ما حققه بلا قيمة، رغم أن هؤلاء ربما يقدّرون لاعبًا آخر بأرقام أقل وبإمكانات أقل فقط لأنه يلعب لنادٍ مثل بايرن ميونخ أو برشلونة، ولأنه وبشكل أدق ليس مصريًا أو عربيًا. والشكل الثاني هو المبالغة وصناعة الوهم، ووضع صلاح في مكان لم يبلغه بعد. وليس أدل على ذلك من ربط صلاح بإمكانيات الانتقال لريال مدريد، فهذه الأخبار مثلاً بدأت من قنوات مصرية، وقامت بعض الصحف البريطانية ضعيفة المصداقية بنقلها عن هذه القنوات، (1) ثم قامت القنوات المصرية بنقلها عن هذه الصحف وكأنها مصادر عالمية، تجعل انتقال صلاح إلى سانتياغو برنابيو مسألة وقت، في دائرة من الوهم ذاتيّ الصنع.

أم الدنيا .. أليس كذلك؟

المصريون ينظرون إلى أنفسهم، كمهدٍ للدنيا، فالتاريخ في المخيال الشعبي المصري يحوي الكثير من المفاخر. لكن الواقع الاجتماعي المصري الآن مرير عاجز. لا مكان فيه لأي أمل. كل الجهود تبذل من أجل توفير الحاجيات الأساسية فقط. وكل تفوق يُقتل في مهده. وسيرة "أم الدنيا" أصبحت مقترنة بأخبار غرائبية. وبلاد النيل، في طريقها لخسارة النيل. الشوارع مغلقة والأفق مظلم. وفي هذا كله يلمع صلاح كنقطة نور أخيرة في عتمة محيطة، ولأن العتمة محيطة، فنقطة النور تلك تتحول إلى طاقة مهولة، لا نقبل مجرد التشكيك فيها أو تقييمها بعقلانية. فقد تنشر مثلا (ESPN) تقريرًا عن أفضل 10 أجنحة في العالم، وتضع صلاح سابعًا، ولا يمكن أن تحل نقطة النور في المركز السابع كما نعلم جميعًا! .. ربما يحرز هاري كين هاتريك في مبارتين متعاقبتين، إذَا هو عدو الشعب المصري. دي بروين أفضل من صلاح؟ .. هذا هو الجنون الكامل إذا!

  

لوحة جدارية لمحمد صلاح بأحد شوارع القاهرة (رويترز)
لوحة جدارية لمحمد صلاح بأحد شوارع القاهرة (رويترز)
  
الملحمة والمأساة
زلاتان إبراهيموفيتش .. وُلد السلطان لأم كرواتية ووالد بوسنيّ وعاش في السويد. في البوسنة هو من الكروات المغتصبين، وفي كرواتيا هو مسلم عدو، وفي السويد يعد لاجئا شرقيّا. الأب مدمن على الكحول، والأخت مدمنةُ مخدرات، والأم عصبية تفرّغ شعور عجزها في ضرب الأبناء. الثلاجة فارغة إلا من علب البيرة، والمدرسة لا ترحب بالأطفال المجرمين أمثال إبرا. وفي الشارع  يقود عصابة من المراهقين. حياة إبراهيموفيتش مأساة كاملة، من الحكايات المحبوبة في الإعلام، والمستخدمة دومًا في الدعاية. ولكن المثير للاهتمام والاحترام هو تعالي السويدي عن إظهار صورته كطفل تغلب على مصاعب الحياة. ومذكراته التي يروي فيها هذه الأحداث يسيطر عليها حس التحدي والترفع عن حكايات الكفاح الرخيصة. لقد رسم ملحمة حقيقة في هذه الصفحات، وعنونها بعنوان مغرور، لكنه يظهرا اعتزازا به، وهو: أنا زلاتان. (2)

 

ربما لا يختلف صلاح كثيرًا وهو يروي حكايته عن الذهاب إلى المدرسة من السابعة صباحًا ثم السفر إلى القاهرة من أجل التدريب في نادي المقاولين العرب في رحلة طويلة تستغرق ساعات، وتتكرر في كل أيام الأسبوع. ذكر صلاح هذه التفاصيل، بحس توثيقي، وبلهجة الطامح إلى ما هو أفضل. 3) لكن الحس الجماهيريّ، يميل إلى صنع مآسي "فقاقيع الصابون!" وفرض تصورات الكفاح ومواجهة المعوقات، وأحاديث الفقر والعناء. وهذا ينبئ عن أزمة حقيقية في التعامل مع المصريّ الموهوب. فالجماهير لا تراه أحيانًا من الأساس. بل تسقط تصوراتها عن نفسها. وتعكس مآسيها الحياتية عليه، لصنع الصورة التي يريدون أن يشاهدوها، لا الصورة الحقيقية.

 

العبء يتكون بالتدريج، ولكن بسرعة. والثقل الذي يتراكم فوق أكتاف محمد صلاح يزيد. ويتحول من لاعب كرة قدم إلى بطل شعبيّ أسطوري. والخطر الحقيقي أن تفرض التصورات الجماهيرية نفسها عليه. فيتوقف عن رؤية ذاته وما يريد، ومن يكون، ليشاهد تصورات الناس محاولاً الوصول إليها. ونهاية ذلك في أفضل الأحوال هو اختلال مسيرته، وفي أسوأ الأحوال هي تشوش ذاته نفسها. وفي كل الأحوال فسينتهي هذا إلى سلبه حقه الأصيل في التقييم كما يُقيَّم لاعبو كرة القدم.

 

الوجوه المتعددة لمحمد صلاح
محمد صلاح يحتفل بهدف سجله لصالح فريق بازل السويسري (رويترز)
محمد صلاح يحتفل بهدف سجله لصالح فريق بازل السويسري (رويترز)


لصلاح وجوه أربعة. (4) ويختلف النظر إليها حسب التحيز أو الموضوعية. الوجه الأول هو صلاح لاعب المقاولين العرب ثم بازل السويسري. في هذه الحالات كان صلاح لامعًا بفضل انخفاض المستوى المحيط به، مما يجعل الظهور أسهل وأوضح. ويعطيه مساحة أكبر من الحرية في إظهار موهبته. لكنه يحرمه من قيمة هامة وهي النضج الفنيّ وتطوير العيوب والمنافسة. وفي هذه المرحلة أحرز صلاح 20 هدف مع بازل وصنع 17.

 

الوجه الثاني هو وجه تشيلسي مورينيو. ومن البديهي أن الشاب المتلهف للظهور لم يُمنح الفرصة المناسبة للظهور. إذ وقع تحت ضغوط توقعات الجماهير المصرية، وتحت ضغوط جوزيه مورينيو. واهتزت ثقته بالطبع. لكن الجانب المشرق هو إدراكه لأهمية إيجاد دور مفيد وواضح في الملعب. فمورينيو لا يحتاج إلا للأكفاء. والرحيل إلى فيورنتينا ساعده على استعادة الثقة المهدرة في تشيلسي. وتألقه برصيد 9 أهداف و4 تمريرات حاسمة، كان كافيًا للسماح له بإظهار الوجه الثالث.

 

في روما كان صلاح على موعد مع النضج، حيث أصبحت مهامه على الخط أوضح، وتحول إلى ما يقارب الجناح الكلاسيكيّ، وأصبحت مهام مثل الارتداد السريع للدفاع أو الهجوم وصناعة الكرات العرضية هي أولويات لا تقبل النقاش، وتألق الفتى بحصيلة 34 هدف و24 صناعة للأهداف مع الذئاب، وصارت ثنائيته مع إيدين دجيكو مرهوبة في السيري آ. لكن بقيت فرصة تطوير العيوب ناقصة؛ فدقة التصويب تنقصه، وكذلك تنقصه الجرأة في اتخاذ قرارت الملعب مثل المراوغات أو التسديد من وضعيات غير آمنة، وهنا جاء موعد "النورمال وان".

 

الوجه الرابع ظهر في ليفربول وتحت يورغين كلوب جاء في التوقيت المناسب. وعلى عكس السبيشيال وان، فالنورمال وان يعطيك الحرية لفعل أي شيء؛ الركض.. الاندفاع.. التصويب.. التهور.. المراوغة في منطقة الياردات الستة. وفي توليفة هجومية نادرة الاجتماع، أصبح صلاح في حضور ماني وكوتينيو وفيرمينو واحدًا من أسرع هدافي الريدز في الوصول لعشرين هدف. وأكمل عقد أسماء من عينة روبي فولر وفيرناندو توريس وسواريز.(5)

 

هذه الوجوه المتعددة لا تخبر بشيء سوى أننا أمام لاعب رائع. وتخبر بمسيرة بما يدعو للفخر به، فخر يمكن رؤيته بمنتهى الموضوعية، ولكن المبالغة في التقييم سوف تعمى عن كل ذلك، وسوف تسلب صلاح حقه في أن يشاهده الناس ويحللوا أداءه ويعرفوا سر جودته. وسوف تبقيه أسيرًا لصنع أسطورة هلامية غير مفهومة ولكنها محاطة بالكثير من الغوغائية.

 

أو كما دار ذلك الحديث بين جاري لينكر وإيان رايت في برنامج "مباراة اليوم" على سكاي سبورت؛(6)

 

إيان رايت: إنه (أي صلاح) يستطيع التأقلم في مراكز كثيرة. يستطيع أن يؤدي في كل مراكز الخط الأمامي. إنه سريع للغاية، ويختار أماكن تمركزه بعيدًا عن المدافعين. إنهم يعلمون أن من الصعب اللحاق به. الهدف الثاني في ليستر سيتي يخبر عن كل إمكاناته؛ القوة والسرعة والفاعلية والدقة في التصويب.

ثم يضيف رايت: إنه يذكرني بليونيل ميسي!

وهنا يتدخل لينكر: إنه جيد جدًا. ولكن ميسي!؟ .. لنكن واقعيين!

  

هذا الحديث في واحدٍ من أهم البرامج الرياضية في العالم الآن يلخص الحالة. لقد بلغ صلاح مكانًا لم يصله لاعبٌ عربيّ منذ فترة طويلة، ولم يصله لاعبٌ مصري قط. وصل إلى أن أصبح اسمًا في قائمة هدافي الدوريات الكبرى. واسمًا من بين الأفضل في البريمييرليج. واسمًا تتمنى أندية كبيرة لو كانت سبقت الريدز في الحصول عليه. وصارت جملة مثل "ميسي وصلاح" ليست فكاهية إلى الدرجة التي عليها لقب "ليو حفني"، الذي تطلقه جماهير الزمالك المصري على لاعبهم الموهوب أيمن حفني، واللقب الذي جلب لهم الكثير من سخرية الخصوم. فقط هي المبالغة تقدر على سلب صلاح الكثير مما استحق عن جدارة. فجاري لينكر لم يدخر فرصة لإظهار إعجاب مستحق بمحمد صلاح. (7) ولكن ميسي!؟ .. حقًا!؟ .. لنكن واقعيين!