شعار قسم ميدان

السقوط الحر لزين الدين زيدان

ميدان - زيدان
ربما لا يكون التراجع الواضح في النتائج هو أغرب ما يدور داخل أروقة ريال مدريد، بل بدا موقف "زيزو" أكثر غرابة للكثيرين، خصوصا في تعامله مع تلك المستجدات التي تهدد بطل أوربا بالخروج خالي الوفاض دون أي بطولة هذا الموسم.

"أنا لست قلقا"؛(1) قالها "زيزو" بعد السقوط أمام توتنهام، وبعد الهزيمة من فريق محلي صعد لتوّه من الدرجة الثانية يدعى جيرونا، بل وبعد جرأة فرق الدرجات الأدنى على الميرنغي بمواجهات الكأس قبل توديعه لحساب ليغانيز، وبالتأكيد بعد الهبوط الحاد بمستويات كثير من لاعبيه، وفي مقدمتهم "رونالدو" نفسه، وحتى بعد أن خرجت أخبار تقول إن "فلورنتينو بيريز" لا يستبعد إقالة مدربه(2)، ظل "زيدان" غير قلق.

في البداية ظن البعض أن التصريح المذكور، والذي تحول لاحقا لمادة سخرية من جمهور الملكي قبل غيرهم، هو مجرد تصريح يهدف للاستهلاك الإعلامي، وما هو سوى محاولة يائسة لاستيعاب الغضب الجماهيري حتى تعديل الأوضاع وإنعاش التشكيل الأساسي بعناصر جديدة، لكن بمرور الوقت أثبت "زيدان" أنه يعني ما يقول، وأنه بالفعل ليس قلقا.

فالفرنسي لم يجر أي تعديل جذري علي أسلوب لعب فريقه إلا بعد خسارة الدوري عمليا، لم يدفع الإدارة لاستقطاب لاعب واحد قادر على صناعة الفارق بالانتدابات الشتوية، وأخيرا لم يُحمل تشكيل ريال مدريد مسؤولية ما يدور، وفي مقدمتهم بلا شك مهاجمه "كريم بنزيما"!(3)

"زيزو" الذي مر بالعديد من الأزمات الخانقة في حياته ونجح في تحويلها إلى نجاحات مبهرة (الأوروبية)

يستحيل الظن أن "زيزو" لا يرى الأزمة، أو بالأحرى لا يرى أن ما يحدث هو أزمة، بل بيت القصيد أنه مصمم على التعامل معها بنفس الأدوات التي يمتلكها، بنفس اللاعبين الذين صنع معهم مجد العامين الماضيين، بنفس الزهد في سوق انتقالات مشتعل لا يحب "بيريز" أن يفوّته، وبالتأكيد بنفس الهدوء والصمت والبسمة الواثقة حتى وهو يسقط من قمة عالية.

هو نمط اختاره "زيدان" لنفسه منذ زمن، اختاره قبل أن يتحوّل للتدريب، وقبل أن يلعب لريال مدريد، وحتى قبل أن يلمع اسمه كلاعب بسماء كرة القدم، شخصية زيدان التي تحتفظ بهدوئها تحت الضغط حتى تنال ثقة الجميع، فإن نالتها خذلتهم على عكس كل التوقعات، "زيزو" الذي مر بالعديد من الأزمات الخانقة في حياته ونجح في تحويلها إلى نجاحات مبهرة، وبعد أن تحرر منها تمكن بطريقة ما من تحويلها إلى أزمات خانقة مرة أخرى، معتمدا على نفسه ودون مساعدة من أحد؛ صعود عكس الجاذبية والطبيعة يعقبه ما يمكن أن نسميه بالـ"سقوط الحر لزين الدين زيدان"!

التعرف على الضغط

هذه هي الحياة، أحيانا ينبغي عليك قبول أشياء لا تحبها" -زيدان في مؤتمر مباراة توتنهام(4)"زيدان" المدرب يشبه كثيرا "زيدان" اللاعب؛ الأمر لا يقتصر على الأداء السلس والميول للكرة الجماعية وحصد محبة جماهيرية طاغية على امتداد مشواره، ولكن ربما يكون المشترك الأهم والأكثر تأثيرا هو الدور الذي يلعبه الضغط، الضغط الذي يقبع فوق رأس "زيزو" منذ كان صغيرا يلهو في حواري مارسيليا وحتى حصوله على جائزة أفضل مدرب بالعالم الموسم الماضي.

"زيزو" عرف الضغط مبكرا للغاية؛ فقد ولِد بمدينة يزدحم فيها الفقر إلى جوار الجريمة(5)، وترتفع فيها معدلات البطالة، بينما يقف المجتمع منقسما أمام تقنين وضع المهاجرين بين المؤيد والمعارض، هذه الأجواء التي انذرته بمستقبل ضبابي غامض في الجنوب الفرنسي، وكانت حافزه للهروب بعيدا عن هذا العالم، ولأن الهروب يقتضي بالضرورة وجود عالم آخر، فقد عكف صاحب الأربعة عشر عاما حينها على تشكيل عالمه الخاص، العالم الذي يبدأ من صور ملصقة تملأ غرفته لبطل طفولته ونجم راسينغ باريس "إنزو فرانسيسكولي"، وينتهي بحضوره كل التجمعات الأسبوعية للعب الكرة مع أبناء حي لا كاستنيانا في مارسيليا(6)، هناك فقط كان يكتشف "زيزو" ذاته، عندما تتبلور رغبة في نفس الطفل دائم الصمت ترفض الخسارة داخل الملعب، وتَتحدى الظروف الصعبة التي يعيشها خارجه.

undefined

وضع "زين الدين" نفسه أمام الرهان الصعب منذ البداية، فقد ترك كرة القدم تتحكم بمساحة كُبرى من حياته، وترسم مستقبله لدرجة أن الإخفاق في أقرب اختبار سيخوضه الناشئ كان سيعني بقاءه أسيرا للمربع صفر، حيث سيبتلعه الفقر والجريمة والبطالة للأبد، بينما كان النجاح يعني الإفلات من الضغوط التي تعرّف عليها وهو يفتح عينيه على الدنيا؛ عموما انتظر الصغير فرصة لاختبار رهانه الأول.

تحقق لـ"زيزو" ما أراد عندما لحق بمعسكر أعده الإتحاد الفرنسي لاكتشاف المواهب سنة 1984(7)، في المعسكر ذاته قدّم له نادي "كان" أول عقد للإنضمام إلى صفوفه، لتبدأ عند تلك اللحظة مرحلة جديدة من عمره، اللحظة التي سيودع فيها تجمعات الهواة، ومباريات الكرة في الشوارع والأزقة، وملصقات "فرانسيسكولي"، كما سيعلن انتصاره الأول على شريك رحلته: الضغط، أو بالأحرى سيكن له عرفانا على قيادته للخطوة الأولى من المستقبل، والذي سيشهد تحوله للاعب فرنسا الأول.

ثلاثة مواسم كاملة قضاها في فئات شباب النادي حتى التقطته أعيُن مدرب الفريق الأول"غاي لوكومب"(8)، طلب الأخير تصعيده للتدريب مع الكبار قبل أن يكمل عامه السابع عشر، بمرور الوقت أحب المدرب ذو الشارب الكثّ والطباع الصارمة كثيرا من صفات "زيدان"، فبالإضافة لموهبته الفذّة كان اللاعب الصاعد يستمع بعمق لتعليمات مدربه، ولا يتصرف بعشوائية، ويفكر مليا قبل اتخاذ قراراته، كان الكل مندهشا من مقدار السلاسة والموهبة التي جعلت أول أهدافه مع "كان" واحدا من أجمل أهداف مسيرته.

في "كان"، وضع "زيدان" قدمه على أول الطريق، تعلم مهام لاعب الوسط، أطلق أول تسديداته، وسمع الهتاف باسمه من حناجر آلاف الجماهير، وقبل كل ذلك نجح بتوظيف الضغط، الذي يمثله الفشل في الملعب وانعكاس ذلك على حياته كلها، كوقوده الخاص، الوقود الذي سيدفع باسمه مطلع التسعينيات على لائحة كشافي المواهب بأندية فرنسا الكُبرى.

نهر غارون وميدان سان كارلو

"عندما يعاني الفريق، يصيح جمهورنا (زيزو!..زيزو!). جمهورنا لديه قدرة على تحويل الضغط إلى دعم"
-زيدان خلال فترته مع بوردو(9)

يقول محرر الماركا(10) "إنريكي أورتيغو" إن باريس قد تكون مدينة الحب لكل العالم، لكن لـ"زيدان" فإن الحب هو بوردو، تعبير موفق من المحرر الذي شهد انتقال "زيزو" لبوردو وهو ابن العشرين عاما بعد أن قدم مع "كان" ما يبشر بمستقبل باهر في الأفق. كانت فرنسا تبحث عن "ميشيل بلاتيني" جديد؛ المستهدف كان لاعبا صاحب شخصية قوية، ومهارة استثنائية، وقدرة علي قيادة فريقه ومنتخب الديوك في البطولات، يعترف "زيزو" أن المشكلة الحقيقية تكمن في أنه لم يكن على القدر الكافي من الجاهزية لتلك المقاربة مع الأسطورة "بلاتيني" عندما صاح أحدهم للمرة الأولى "زيدان هو بلاتيني الجديد!"(11)، بل إنه تفاجأ من كل هذا التعويل علي إمكانياته خلال تلك الفترة؛ وكأن الضغط يأبى أن يستكمل "زيزو" مسيرته دون أن يرافقه!

في بوردو، تشكلت شخصية "زيدان" على أرض الملعب، فقد خلع مبكرا زي الناشئ الموهوب ليرتدي زي اللاعب المغامر الذي سيخوض مع فريقه الجديد أحد ألمع الفترات، سيكتسب هناك كُنيته الجديدة "زيزو" التي أطلقها مدربه(12) "رولاند كوربيه"، وستنشأ روابط صداقة متينة تجمعه بالثنائي "ليزارازو" و"دوغاري"(13).

التحدي الآن أوضح من ذي قبل، على "زيزو" قياسا إلى أي مدى يمكن أن تصل إمكانياته، إلى جانب عبور بعض المحطات الهامة أثناء صعوده للقمة، من بين تلك المحطات كان ظهوره الأول بقميص الديوك عام 1994 بمواجهة التشيك(14)، كانت فرنسا متأخرة بهدفين على ملعبها حين طُلِب من "زيدان" مغادرة الدكّة وإجراء عمليات الإحماء ليحلق الضغط فوق باريس كلها طارحا التساؤل: هل "زيزو" قادر على تعديل النتيجة؟ أم أننا بالغنا  في تشبيهه بـ"بلاتيني"؟ أدرك الفرنسيون تلك الليلة أن "بلاتيني" جديدا يشق طريقه، اسمه "زين الدين"، وهو جاد في ما يفعل بعد أن سجل هدفي التعادل للديوك. 

في موسمه الثالث بقميص بوردو، فاز بكأس إنترتوتو الأوروبية، وفي نهاية موسمه الرابع كان يلاقي العملاق البافاري بنهائي كأس الويفا، لكن هذه المرة غاب الضغط تماما عن محيط "زيزو"، فقد نجح رفاقه بإقصاء ميلان الذي عاش فترة ذهبية مع "كابيلو" في طريقهم للنهائي(15)، ووقف العالم كله يصفق لبوردو الذي يعاني بصراع البقاء في الدوري بينما يصعد لنهائي أوروبي، وبالتالي لم يكن "زيزو" مطالبا بنتيجة معينة، بل ربما أمل بعض جمهور النادي بالإفلات من بايرن بأقل الخسائر الممكنة.

undefined

بأقدام ثقيلة، ووجه شائب يخلو من أي تعبير، صعد "زيدان" المنصة يتسلم الميدالية الفضية، كان غارقا بالتفكير في أمر ما، في تلك اللحظة قرر الرحيل عن بوردو وتوديع نهر غارون، كان مصدوما بلا شك أن يخرج مهزوما في أول مرة يتخلى الضغط والتوتر عن مسيرته، ليؤكد أنه لن يجني من البقاء بفرنسا سوى الفوز بكأس اللاشيء! (16)

صيف عام 96، سيجري "زيدان" إتصالا بزميله "ديديه ديشامب" يستعلم منه عن الأجواء باليوفنتوس بعد فتح النادي الإيطالي خط مفاوضات مع بوردو للحصول عليه(17)؛ سيمتدح "ديديه" المدرب "مارشيلو ليبي"، وأجواء الصداقة والألفة بين لاعبي البيانكونيري، والتجول بميدان سان كارلو، لكنه سيحذر "زيزو" من قسوة التدريبات البدنية باليوفي، تحذير لن يعيره "زيدان" اهتماما كبيرا حتى يفاجأ بأنه لا يستطيع استكمال تدريب واحد حتى النهاية في أول ثلاثة أسابيع!(17)

أضف إلى ذلك أن كثيرا من الآراء الصحفية شككت في البداية بمدى قوة الصفقة وقدرتها على الإضافة للسيدة العجوز في دوري عاش أفضل أيامه بنهاية التسعينيات، خصوصا وأن نادي بلاكبيرن الإنجليزي قد رفض التعاقد مع "زيدان" بحجة امتلاكهم لـ"تيم شيرود"، وصرف نيوكاسل النظر عن التفاوض(17)، قبل أن يحسم اليوفي الصفقة لصالحه. هذه الأجواء المضطربة كانت وقودا جديدا لناشئ نادي "كان"، وفتي بوردو الواعد، ليحلق في آفاق أوسع ومنافسات أصعب، ويختبر ضغوطا أشرس، ضغوط بدأت بعدم ضمان مركز أساسي بتشكيل الأبيض والأسود، وبالتالي كان "زيدان" مطالب بجهد تدريبي أكبر واستيعاب أفضل للعبة من منظور "ليبي"، كان بحاجة للوقت ولفرصة أفضل، أتت الفرصة بأكتوبر من نفس الموسم عندما أصيب "كونتي" ليحوّل "ليبي" بعضا من جوانب خطته ويُشرك "زيزو" كصانع ألعاب بأدوار دفاعية.

يعترف "زيزو" أن نقطة ضعفه الأساسية هي عدم ثبات مستواه، ففي أكثر الأحيان يلعب بأداء رائع بينما في أوقات أخرى يغيب ولا يبدو بأفضل حالاته


يقول "باولو بانديني"(17) محرر مجلة "fourfourtwo" إن الأقلام الصحفية التي قللت من شأن "زيدان" عند قدومه لتورينو في يوليو/تموز، كانت تمتدحه بحلول يناير/كانون الثاني وتؤكد بأنه سيفوز بكل شيء مع اليوفنتوس بمرور الوقت، ولعل مباراة عودة نصف نهائي تشامبيونزليغ 97 أمام أياكس عززت هذا الاعتقاد، ظهر "زيزو" متحكما برتم البيانكونيري وقائدا لهجمات الفريق، يقوم بأدواره في المساندة الدفاعية وينطلق سريعا بالارتداد الهجومي، سيمفونية ختمها بمقطوعة عزف بديعة حين راوغ "فان ديرسار" وسجل هدف اليوفي الرابع(17).

فاز بموسمه الأول بالدوري(17)، بكأس الإنتركونتيننتال، السوبر الأوروبي، لذا كان إضافة دوري الأبطال أمرا بديهيا، خصوصا وأن طرف النهائي كان بورسيا دورتموند، ليدخل "زيدان" النهائي بلا أي ضغوط، ويخرج خاسرا في مفاجأة لليوفي، وبلا أي مفاجآت لـ"زيزو". كان ذلك هو السقوط الحر الأول لصانع الألعاب الفرنسي، سقوط من على قمة العالم وتخل عن المجد التاريخي بعد صناعته، وهو أمر استدعى منه البناء من جديد على ركام الهزيمة، والوقوف صلبا أمام التشكيك، فحصد عن إستحقاق بالون دور 98 وبات أفضل لاعب بالعالم!(17)

أمام جاك شيراك وفلورنتينو بيريز

في مقابلة صحافية أجراها "زيدان" في فبراير/شباط 98 ونشرها موقع فيفا الرسمي، يعترف "زيزو" أن نقطة ضعفه الأساسية هي عدم ثبات مستواه، ففي أكثر الأحيان يلعب بأداء رائع بينما في أوقات أخرى يغيب ولا يبدو بأفضل حالاته، لكن في المقابلة نفسها يقول صانع الألعاب إنه يدرك جيدا أهمية أن يكون مستعدا بقوة قبيل انطلاق المونديال الذي تستضيفه فرنسا هذا العام، كان يعرف جيدا أن جماهير منتخب بلاده ستعلق آمالها عليه بعد وصوله لقمة العالم، بالإضافة إلى نضوج مستواه بشكل هائل مع اليوفي، الجماهير التي ازدحمت كالأمواج بشوارع العاصمة مرتدية الرقم عشرة وتطارده بالهتاف أينما حل "زيزو!…زيزو!".

بالطبع كان يرسم على وجهه بسمة واثقة، لكن في عقله تدور عشرات السيناريوهات عن مصيره إذا خذل الجماهير، هؤلاء الذين يحلمون بفرنسا كقوة كروية تقارع البرازيل وهولندا وألمانيا، يسأل نفسه هل هو جدير فعلا بتلك الثقة؟ أم لعبة التحايل على الضغط والتوتر ستخذله تلك المرة؟

هذا الموقف المعقد لـ"زيدان"، أُضيف له أحد أكثر المشاهد إرباكا التي شهدها ملعب "سان دونيه" خلال مواجهات دور المجموعات، في مباراة سهلة للديوك أمام منتخب السعودية، وأثناء مرور الكرة لأقدام "زيزو" بوسط الملعب وبعيدا عن مناطق الخطورة تماما وتحت أنظار حكم المباراة، اندفع "زيزو" بكل رغبة لركل السعودي "فؤاد أنور"، ليلتفت الفرنسي قبل أن يجد الكارت الأحمر في وجهه، وفي غمضة عين يتحول "سان دونيه" لبركان من الصفير والاستهجان، ويخرج "زيدان" بعد نقاش سريع مع الحكم غير قادر على رفع رأسه من ثقل ما يشعر به؛ طبقات من التوتر تحجب الرؤية أمام عينيه وهو يودع النجيل الأخضر ويسمع فرنسا تفزع.

"زيدان" قامر على مصيره، الطرد ببساطة كان يعني أن يحصل على اللوم كله إذا تعرضت فرنسا للإقصاء بعد دور المجموعات في غيابه، أن يتحمل أي انتكاسة وهو يعيش أمجد فتراته المهنية، أن تكره الجموع لقب "زيزو"، وتلعن اليوم الذي ارتدى فيه قميص الديوك، ولعل بعض أصحاب النعرة القومية اتهموه بالهمجية!

لكن شيئا من هذا لم يحدث، بل إن "زيدان" لم ينج من المقصلة وحسب، ولكن دخل إلى القصر الجمهوري رفقة أول كأس عالم تفوز به فرنسا بعد أن قادهم في النهائي أمام البرازيل لنصر تاريخي، يستقبله في القصر الرئيس "جاك شيراك" ليحظى "زيزو" بتكريم خاص، ويستمع لكلمات انتقاها الرئيس وهو يخاطب "زيدان"؛ ترى ماذا كان يدور بخلده آنذاك؟ ربما ذكريات عابرة من طفولته بمارسيليا؟ بعض الكلمات العربية التي لاتزال ذاكرته تحتفظ بها؟ مقطع لموسيقى الراي مثلا؟ ربما وجه والده "اسماعيل"؟ أو مشهد الكارت الأحمر في السان دونيه في سقوطه الحر الثاني؟

بعد ثمان سنوات كان "زيدان" يقف أمام "جاك شيراك" مرة أخرى، بعد أن ركل لاعبا ركلة أخرى، ولكن تلك المرة بدون كأس العالم، بدا "زيزو" منذ وصوله لفرنسا بعد رحلة ألمانيا 2006 واثقا من قراره، يريد أن يقول لو أن الموقف تكرر لفعل ما فعل مائة مرة، يريد أن يؤكد إلى الآن أن "ماتيراتزي" استحق أن يضرب دون النظر لعقبات ذلك من مشهد بدأ مع بكاء طفولي لـ"تريزجيه" ولم يتوقف أبدا حتى أمام "شيراك" نفسه؛ نعم سيدي الرئيس أنا أصنع التاريخ واتخلى عنه بمحض إرادتي، هكذا كانت تقول ابتسامة "زيدان"!

"زيدان" قد يخرج بموسم صفري هذا العام وهو موسم هام جدا في مسيرته بلا شك، لأنه قد يكلفه مركزه في القيادة الفنية للميرنغي (رويترز)

في إسبانيا، لا يختلف الوضع كثيرا، نفس النسق من النجاح المتطرف، ثم الإخفاق المتطرف، نفس الثقة من صحة القرار، ونفس الرغبة في انتظار أن يتراكم الضغط حتى يتحول لوقود يصنع من خلاله إنجازه القادم. منذ اللحظات الأولى، عبّر "زيدان" عن اختلاف رؤيته لكرة القدم عن رؤية "بيريز"، يسعى الأخير إلى تكديس أكبر عدد من النجوم اللامعة في تشكيل واحد، المال لم ولن يكون عقبة الملياردير الإسباني، بينما الفرنسي يستهدف بناء فريق كرة قدم قوي، وشتان بين الرؤيتين، فعندما أقدم "بيريز" على فعل شديد التهور في التخلي عن "ميكاليلي"، أبدى "زيزو" اعتراضه علانية مُنتقيا تشبيها ذا دلالة كبرى عندما وصف الأمر بمن يسعى لإضافة طبقة من الذهب فوق سيارة "بينتلي" بينما يتخلى عن محرك السيارة الأساسي!

من المؤكد أن سحابة الضغوطات كانت تظلل رأس "زيدان" عندما أخبره "بيريز" بنهاية 2015 أنه سيكون خياره الأول لتدريب الميرنغي في حالة رحيل "بينيتيز"، ذلك لأن حالة الفريق كانت يرثى لها، خصوصا بعد خسارة ريال مدريد بربعاية على البرنانبيو من برشلونة بدون "ميسي" بآخر مباريات الإسباني، كان يدرك ثقل المهمة، وصعوبة تصريف أموره بعض الأحيان مع "بيريز".

لكن "زيزو" قبل المهمة، وقاد ريال مدريد لبطولة كبرى في موسمه الأول، قبل أن يبتلع الكل مقدما أفضل مواسم ريال مدريد على الإطلاق بعامه الثاني، فاز بثمانية ألقاب، وحصد جوائز أفضل مدرب في مختلف المسابقات، وقدم أغلب لاعبيه أفضل مستوياتهم تحت ولايته، لم يظهر ريال مدريد منسجما لتلك الدرجة بقدر ما كان بالعام الثاني لولايته، كان "بيريز" راضيا عن كل شيء عدا تحجيم أدواره بلا شك، بلا ضغوط إذن؟ نعم "زيدان" يحلق بلا ضغوط، وربما لذلك السبب قام بسقوطه الحر المعتاد الذي يمكن تفسيره بمد خط يربط "زيدان" اللاعب بالمدرب.

"زيدان" قد يخرج بموسم صفري هذا العام، وهو موسم هام جدا في مسيرته بلا شك، لأنه قد يكلفه مركزه في القيادة الفنية للميرنغي إذا خرج أمام باريس سان جيرمان، أو فقد موقعا مؤهلا للتشامبيونزليغ بالدوري، مصيره كله على الحافة، ترى كيف ستكون مناورة "زيدان" المقبلة؟