شعار قسم ميدان

مباراة الموت.. أسطورة قتل 11لاعبا رفضوا الهزيمة أمام النازيين

midan - النازية

قبل انطلاق منافسات يورو 2012 منعت السلطات الأوكرانية عرض فيلم[1] «مباراة الموت»، والذي يوثِّق قتل فريق لاعبين أوكرانيي الجنسية من دينامو ولوكوموتيف كييف، بعد أن فازوا على فريق قوات الدفاع الجوي النازي. وكان ذلك أثناء الحرب العالمية الثانية، وخلال الاحتلال الألماني لأوكرانيا.

 

ما قبل الحكاية

في ثلاثينيات القرن العشرين كانت أوكرانيا واحدة من جمهوريات الاتحاد السوفييتي. وكان دينامو كييف هو أقوى أنديتها، والمنافس الوحيد للأندية الروسية. ومع بداية الحرب العالمية الثانية فَقَدَ النادي العاصميّ – والتابع إلى أحد مؤسسات الشرطة السوفيتية – الكثير من التمويل. ودُفع بعض لاعبيه نحو الهرب إلى مدن أخرى يستطيعون فيها العثور على قوت يومهم. حتى أن بعض المصادر تشير إلى تقلص قوام الفريق إلى 8 لاعبين فقط. ثم توقف النشاط الكروي في البلاد تمامًا عندما سقطت في قبضة النازي عام 1941.

 

أسر الألمان قرابة 600 ألف جندي سوفييتي. وأرسلوا آلاف الأوكرانيين إلى معسكرات العمل. وأصبحت البلاد ساحة لملاحقة البلشيفيين واليهود وغيرهم من أعداء الرايخ الألماني. وساد الكساد. وسُرّح لاعبو الفرق الأوكرانية من أنديتهم، وانتشروا في البلاد في محاولة كسب طعامهم مثل كل المواطنين المقهورين.

 

مباراة الموت

تتعدد الروايات لكن المعلومات[2] الأكثر تواترًا تخبر بحكاية عن فريق حمل اسم «ستارت كل نجوم كييف»، وأنه تكوّن من 11 لاعبًا يعملون في أحد المخابز المحلية في كييف، لكنهم مارسوا كرة القدم المحترفة قبل الحرب. 8 منهم كانوا لاعبين سابقين في دينامو كييف، و3 من لوكوموتيف كييف. خاض هذا الفريق العديد من المباريات أثناء فترة الاحتلال، وحقق نتائج مبهرة. ثم تقرر لاحقًا إقامة مباراة تجمعهم مع فريق قوات الدفاع الجوي الألماني. واستطاع الفريق الأوكراني أن يحقق الفوز 5-1 في يوم السادس من أغسطس 1942. ومن ثمَّ طالب الفريق الألماني بمباراة عودة من أجل الثأر لكرامته.

   

لاعبو فريق إف سي ستارت الأوكراني
لاعبو فريق إف سي ستارت الأوكراني

     

تستمر الرواية في وصف أجواء الكابوسية لمباراة العودة في التاسع من أغسطس ذاته. فقد أُحيط ملعب زينيت، مكان إقامة المباراة، بحراسة من الجنود النازيين المدججين بالأسلحة، والكلاب. وحكم المباراة كان ضابطًا من قوات العاصفة SS. وكانت الجماهير ألمانية بالأساس، تقف لتشجع فريقها. وحسب تلك الروايات أيضًا، فقد قرر اللاعبون الأوكرانيون ارتداء الزي الأحمر كأحد علامات المقاومة. وتذهب إلى ما هو أبعد، إذ تقول أن مبعوثًا من هيتلر شخصيًا قد دخل إلى غرف خلع الملابس بين الشوطين، وطالب الفريق الأوكراني بضرورة الهزيمة. لأن الألمان لا ينهزمون أمام فريق في واحدة من مستعمراتهم.

 

لكن الفريق الأحمر قرر الاستمرار في المقاومة. واستطاع أن يعود من هزيمة 3-1 في الشوط الأول إلى الفوز بنتيجة 5-3. وهو ما دفع الحراس النازيين نحو الجنون. فأطلقوا الأعيرة النارية في الهواء. وقرر الحكم الضابط إلغاء المباراة. وقُبض على اللاعبين الأوكرانيين من قِبل قوات الجشتابو. ونقلتهم الشاحنات إلى أحد معسكرات الاعتقال. وتعرضوا جميعًا للتعذيب. وأُعدِم بعضهم أمام زملائه كعقاب على جرأتهم في مقاومة هيبة النازي.

 

ومع الوقت تحولت هذه الواقعة إلى أيقونة المقاومة والوفاء والإخلاص. وتقرر تغيير اسم ملعب زينيت إلى ستارت ستاديون. وأقيمت العديد من التماثيل في العاصمة الأوكرانية تخليدًا لشجاعة هؤلاء اللاعبين.

 

بروباغندا السوفييت

واقعة بهذا الحجم وهذه الدموية، تحتاج إلى توثيق من شهود عيان. وتدفع نحو البحث عن أول محاولات توثيقها. إذ أن أغلب الروايات لهذه المباراة تبدأ بعدم وجود مشاهدين لها.

  

نصب تذكاري يجسد اللاعبين الأوكرانيين ضاحايا مباراة الموت في مدينة كييف
نصب تذكاري يجسد اللاعبين الأوكرانيين ضاحايا مباراة الموت في مدينة كييف

     

أول أخبار هذا الحدث جاءت بعد بداية هزيمة هتلر على الجبهة السوفييتية، وجلاء قواته عن كييف في عام 1943. إذ أشار الكاتب الروسي ليف كاسيل إلى مسؤولية المحققين النازيين عن قتل عددٍ من اللاعبين السابقين في نادي دينامو كييف. لكنه لم يذكر أي شيء عن مباراة الموت. ولم يظهر هذا المصطلح إلا لاحقًا في عام 1946 بأحد الصحف السوفييتية.

 

في عام 1958 نُشرت روايتان بعناوين؛ «المبارزة الأخيرة» و«سُحُب النذير». وكانتا أول توثيق كامل للحادثة. بعبارة أخرى.. التوثيق الأول للحادثة لم يكن في هيئة وثائق رسمية أو تفريغ لمحاضر استجوابات مثلاً أو مقاطع فيديو. بل كان أعمالاً أدبية!

 

وفي منتصف الستينات بدأ الحزب الشيوعي السوفييتي حملة[3] احتفاء بضحايا النازي في أوكرانيا. وقيل حينها أن القتلى في هذه الأحداث كانوا أربعة لاعبين أوكرانيين. ومنحتهم الدولة أوسمة الشجاعة، وتغير اسم ملعب زينيت منذ ذلك الحين ليحمل اسم الفريق.

 

لكن هناك العديد من الشكوك حول توثيق مباراة الموت. وأنها لم تكن إلا واحدة من وسائل البروباغندا السوفييتية. وأن أحداث القتل، رغم وقوعها، إلا أنها لم تكن في هذا الإطار الملحمي المقاوم الذي صدّرته وسائل الإعلام السوفييتية.

 

جرائم النازي

لا يتسع تقرير صحافيّ إلى سرد جرائم الحروب التي ارتكبها نظام هتلر ضد مواطني المستعمرات النازية. لكن هناك العديد من الأدلة[4] التي تشير إلى أن وقائع القتل والاعتقال التي تلت المباراة لم تكن بسبب كرة قدم.

   

صورة تحمل إعلان المباراة ومباراة الإعادة
صورة تحمل إعلان المباراة ومباراة الإعادة

   

1. تشير بعض التقارير إلى أن مجموع المباريات التي لعبتها الفرق الألمانية في أوكرانيا وقت الاحتلال بلغ 150. ولدينا معلومات عن نتائج 111 مباراة منهم. وفيهم لم يفز الألمان إلا في 36 مباراة فقط. أي أن الهزيمة في مباراة كرة ضد أحد الفرق السوفييتية لم يكن أمرًا نادر الحدوث.

  

2. أذاع راديو كييف حوارًا مع أحد لاعبي دينامو السابقين واسمه هونشارينكو، والذي شارك في هذه المباراة. ولكنه نفى تمامًا مسألة تلقي تهديدات بين شوطي اللقاء.

  

3. في لقاء صحافي غير رسميّ من أحد أبناء لاعبي هذه المباراة، والذي كان يجمع الكرات حول الملعب يومها، نفى تمامًا الحديث عن الجنود المدججين بالسلاح والكلاب المتوحشة.

  

4. في منتصف السبعينات فتحت السلطات الألمانية التحقيق في هذه الأحداث. وطالبت بالمستندات التي يمتلكها السوفييت، لكنهم رفضوا التعاون. وفي بداية الألفية فُتح التحقيق مرة أخرى. وفي هذه المرة استمر الأمر بين أعوام 2002 و2005، وتعاونت السلطات الألمانية مع الأوكرانية. وانتهت التحقيقات إلى أن حوادث القتل وقعت لكن لم يكن هناك علاقة بينها وبين تلك المباراة الأسطورية.

  

ماذا حدث إذن؟

ما حدث كان اعتياديًا، كان إجرامًا وتعسفًا، ولكنه كان اعتياديًا بالمقاييس الإجرامية النازية المعتادة. إذ ألقت قوات الجوستابو القبض على 9 لاعبين منتمين لفريق دينامو كييف. والنادي الأوكراني كما ذُكر كان تابعًا للشرطة السوفييتية. لكن المعلومة الجديدة والتي تزامنت مع المباراة الأسطورة كانت تفيد بأن اللاعبين المقيدين في الفريق حملوا رٌتبًا شرطيّة في وزارة الداخلية السوفييتية. وقد كانت قوائم المطلوبين النازية تضم كل المنتمين إلى قطاع الـ NKVD (وزارة الداخلية). ليكتشفوا مصادفة بأن هؤلاء التسعة ليسوا مدرجين على قوائمهم!

 

لعب فريق ستارت مباراته الأخيرة يوم السادس عشر من أغسطس أمام فريق اسمه روخ. وتشير إحدى الروايات أن هؤلاء التسعة قد تعرضوا للوشاية من أحد أبطال السباحة الأوكرانيين المعروفين بالتعاون مع سلطات النازي. وبالفعل سقط لاعب اسمه كوروسيخ قتيلا تحت وطأة تعذيب محققي الجوستابو. وهو تحديدًا كان أول من ثبت عليه تهمة الانضمام للحزب الشيوعي وحمله رتبة ماجور في القوات العسكرية التابعة للـ NKVD السوفييتية.

 

ثم سقط تكاشينكو وكان متورطًا في حادثة التعدي بالضرب على مواطن ألماني في كييف. وأغلب الظن أن هذا هو السبب الرئيسي في مقتله، ولم تذكر التقارير عنه أي إشارة لمباراة الموت. وبعد قرابة الشهر من التحقيقات، وعدم الثبوت القطعي للإدانة حسب القوانين النازية، فقد تقرر نقل الباقين للعمل في معسكر اعتقال اسمه «سيريتس». بعض هؤلاء عمل أعمال البناء الخاصة بالجيش الألماني، والبعض الأخر في أعمال الكهرباء، والباقي عملوا في مصنع للأحذية. وبعد حوالي 6 أشهر انفلتت الأوضاع في معسكر سيريتس، ويقال أن السبب كان محاولة هروب جماعية، وتقرر على إثرها إجراء إعدامات جماعية، وكان من بين الضحايا 3 لاعبين من التسعة المقبوض عليهم منذ البداية، وعشرات آخرين من نزلاء المعتقل. ويقول هونشارينكو: «لقد ماتوا مثلما مات العديد من السوفييت في هذه المعركة بين نظامين شموليين (الشيوعي والنازي). وكان قدرهم أن يصبحوا ضحايا هذه المجزرة غير الآدمية».

     

صورة يُقال أنها تجمع لاعبي الفريقين بعد المباراة
صورة يُقال أنها تجمع لاعبي الفريقين بعد المباراة

  

تسعة أيام تقريبًا فصلت بين (مباراة الموت) وبين عملية القبض على اللاعبين/الشرطيين. خلالهم لعب الفريق مباراة كرة قدم. وستة أشهر فصلت بين إعدامات بسبب الإدانة وإعدامات أخرى كانت هي شكل الحياة في معسكرات النازي. بل أن بعض هؤلاء التسعة لم يشاركوا في مباراة الموت أصلاً! ورغم كل هذه الثغرات، ورغم مرور ما يزيد عن النصف قرن، يظهر ذلك الفيلم في 2012 ليعيد رواية السردية السوفييتية التي لم تحترم موت هؤلاء واستخدمته كنظام شمولي يحارب نظام شمولي آخر. والضحية في النهاية كانوا هؤلاء.

 

الوقاحة أم السذاجة أم كلاهما؟

رغم كل تلك الأعوام ومازالت أسطورة مباراة الموت هي حكاية يتناقلها جمهور كرة القدم في أوروبا الشرقية. ورغم كل التفنيد والتدقيق لهذه الحادثة إلا أن كل المصادر العربية[5] مثلاً تعيد نشرها في بعض الأحيان بلا تدقيق. فهل البروباجندا السوفييتية مازالت قادرة على التأثير رغم مرور الزمن، ورغم هزيمة الشيوعية منذ ما يقارب العقود الثلاثة؟

      

لقطة من فيلم مباراة الموت 2012
لقطة من فيلم مباراة الموت 2012

    

ربما بدأ الأمر عند السوفييت. لكن الوعي البشري يعمل بطريقة مثيرة للاستغراب في معظم الأحيان. من شائعات كرة القدم، أن أليكس فيرغسون قال: أعطوني زيدان و10 خشبات وسوف أفوز بدوري الأبطال. والأسكتلندي الحكيم لم يقل هذا الهراء بالقطع. لكن الوعي البشري يختار أحيانًا تصديق ما يهوى. فقد صدرت السينما مثلاً صورة النازيين كمجموعة من أشرار الكارتون الذي يجوبون الطرقات وتسيل الدماء من أشداقهم. لكنهم في الواقع كانوا جماعة من المجرمين المنظمين العاقلين. يمارسون ما يخدم مصلحتهم من الشر. اختار الملايين تصديق الصورة الأولى لأنها تعطيهم مساحة أكبر من كراهية النازيين. ورغم أنهم يستحقون الكراهية إلا أن خداع الذات لا يدني إلا من قدر صاحبه.

 

لقد فهم السوفييت طريقة عمل عقول البشر، فقصة 9 ضباط أوكرانيين قتلهم النازي لن تثير مشاعر أحد، لأنها، وللأسف الشديد، كانت أمرًا اعتياديًا. لكن قصة لاعبي الكرة الذين تماهت فيهم المقاومة مع الرياضة سوف تسيل حماسة جمهور الكرة المتعطش. وسوف تجد لنفسها وقعًا عاطفيًا أكبر. المشاعر في بعض الأحيان تنكر الحقائق. وتختار السردية الأضعف فقط لأن التفاعل العاطفيّ معها أسهل.