شعار قسم ميدان

دليل المبتدئين للتحليل.. كيف تتعرف على لحظات المباراة الفاصلة؟

midan - مباراة

قبل أي شيء، إن لم تكن قد قرأت الجزء الأول من هذه السلسلة (1) فننصحك بأن تفعل، يمكنك اعتباره مقدمة عامة مهمة لفهم ما هو قادم من تفاصيل، والتي تبدأ في السطور التالية دون المزيد من الديباجات المملة.

 

خطوة للأمام

يقول خوليت إن اللاعبين العظماء يعيشون في لحظة متقدمة عن اللحظة الحالية، يقرؤون اللعبة لخطوتين أو ثلاثة للأمام وهذا ما يميزهم؛ إنهم يعلمون ما سيحدث في اللحظات التالية لذا تكون ردود أفعالهم عليه مجهزة مسبقًا، وهذا ما يجعلهم يبدون أسرع من غيرهم ويُمكنهم من خداع خصومهم في كل مرة مهما كرر المدرب تحذيراته قبل المباراة. في الواقع كرويف له مقولة شهيرة تحمل نفس المعنى؛ "هناك انطباع خادع أنني الأسرع، ولكن الحقيقة هي أنني أبدأ بالتحرك قبل الجميع". (2)

 

طبعًا، فإن التحرك في عبارة كرويف مقصود به التجاوب مع اللعبة، التحرك في المكان الصحيح لاستلام الكرة التي تعلم مسبقًا أين ستُلعب، وهذه الفكرة، رغم سحرها، هي أحد الأفكار التي أُهدر حقها في اللعبة مرارًا. الجميع يتحدث عن اللاعب الأسرع والأقوى والأطول قامة وهؤلاء القادرون على مراوغة أكثر من لاعب، ولكن نادرًا ما نتحدث عن اللاعب الذي يستطيع قراءة اللعبة مسبقًا والتحرك لها، أو ذلك الذي يستطيع توجيهها لسيناريو محدد، فقط تخيل أن مدربي إيطاليا وإنجلترا لم يروا في الناشئين أندريا بيرلو وبول سكولز إلا مهاجمين متوسطي الكفاءة، ولولا أن وقع الثنائي في يد من قدرهم حق قدرهم لاحقًا لربما انتهت مسيرتهم قبل أن تبدأ.

 

المهم أن الأمر مشابه للغاية بالنسبة لتحليل اللعب ومجرياته، فقط عليك أن تفعل العكس، بيرلو يخطط لخطوتين أو ثلاثة للأمام لكي يفاجئ الخصم، أما أنت فغالبًا ما يتعين عليك العودة خطوتين أو ثلاثة إلى الخلف لكي تتبين أين وقع الخطأ. دائمًا هناك خطأ، فقط عليك أن تحدد اللحظة الفاصلة التي ترتبت عليها كل الأخطاء اللاحقة، اللحظة التي توقف فيها الصعود، لا اللحظة التي ارتطمت فيها بالقاع.

   

لاعب كرة القدم الهولندي يوهان كرويف (رويترز)
لاعب كرة القدم الهولندي يوهان كرويف (رويترز)

   

لا تستهن أبدًا بتأثير هذا الأمر، هناك لاعبون انتهت مسيرتهم مع الجماهير بسبب تقدير خاطئ، بسبب أن حظهم العاثر قد قادهم لنهاية سلسلة الأخطاء، وبدلًا من أن يتم تقدير محاولاتهم لتدارك أخطاء غيرهم وقعت المقصلة على رؤوسهم في اللحظة المناسبة بالضبط لينجو الفاعل الحقيقي.

 

يحكي الهولندي الأسطوري عن المرة التي كان يحلل فيها إحدى مباريات إيفرتون، وأثناء مشاهدة الشوط الأول لاحظ الجميع أن روس باركلي يحتفظ بالكرة أكثر من اللازم، يحملها لمسافات طويلة ويكثر من المراوغة. هنا يلعب السياق لعبته الدنيئة مع باركلي وغيره؛ الانطباع الأول الذي سينتاب الأغلبية هو أن باركلي مجرد لاعب أناني آخر يحاول الاستعراض.

 

المحلل لا يمتلك رفاهية إطلاق تلك النظريات بهذه السرعة، عليه أولًا أن ينظر إلى السياق ويراقب تحركات زملاء باركلي وخيارات التمرير المتاحة له، وحينها فقط يمكنه الانتقال من خانة الناقد لخانة المحلل والإجابة على السؤال. ربما تكمن المشكلة في تحركات مهاجمي إيفرتون أو الرقابة اللصيقة التي يتعرضون لها مع كل هجمة، وربما باركلي هو مجرد لاعب أناني آخر يحاول الاستعراض فعلًا، ولكنك لن تتأكد من هذا أو ذاك إلا بتحليل السياق.

 

لحظات فاصلة

نفس الأمر يمكن ملاحظته عند النظر لمباريات كاملة بدلًا من أداء لاعب محدد، فمحاولة تحديد اللحظة الفاصلة التي خرجت فيها الأمور عن السيطرة أصعب مما يبدو، والسبب أنك ستصطدم بقناعات جماهيرية راسخة لا تتزعزع، أبرزها على سبيل المثال أن أي هدف يأتي بعد تبديل أو مجموعة من التبديلات سيُنسب فضله تلقائيًا للمدرب حتى ولو كان تسديدة من 30 ياردة. الناس تُحب أن تصدق أن للمدربين هذا التأثير الآلي على اللعبة حتى ولو لم يكن واقعًا فعلًا في الكثير من اللقطات.

 

يسوق خوليت عدة أمثلة في هذا الصدد، أولها هدف فان بيرسي الرائع في مرمى أسبانيا. كانت المباراة الأولى للمنتخبين في المونديال، وتشكيلة هولندا المغمورة نسبيًا قد أهلتها للعب دور "الأندردوغ" بوضوح في مواجهة كتلك، وكعادة أي أندردوغ بدأت هولندا المباراة بقوة ثم تراجعت سريعًا. انفراد أضاعه شنايدر بغرابة بعدها مالت الكفة للأسبان، سيطروا على اللعب وصنعوا أكثر من فرصة في شوط عانت هولندا طيلة دقائقه الخمسة وأربعين، وقبل النهاية بدقيقة واحدة كان بليند يرسل تمريرته الرائعة التي قابلها آخر هولندي طائر برأسية من فوق كاسياس.

   

    

كانت تلك من المرات النادرة التي نالت فيها اللحظة الفاصلة حقها جماهيريًا، فجأة تحولت هولندا لند لأبطال العالم، وتحول بليند من مدافع مغمور إلى أحد المراقبين من الأندية والوكلاء، وبعدها بربع ساعة صنع هدفًا آخر بنفس الطريقة لروبن فتحول إلى هدف واضح لنفس الأندية والوكلاء، ولكن الحاسم في الأمر لم يكن رأسية بيرسي أو تمريرة بليند ولكن توقيت الهدف قبل الاستراحة بدقيقة واحدة.

 

لم يُمنح الأسبان فرصة للرد رغم أنهم كانوا الطرف الأفضل طيلة الشوط الأول، دخلوا إلى غرفهم وبدأوا يتشككون في أنفسهم بعدما كانوا يستعدون لزيادة غلتهم التهديفية، مرت الربع ساعة وكأنها سنة على الأسبان بينما على الجهة الأخرى كان فان خال يُعد للجزء الثاني من خطته – الدفاع والمرتدات – بذهن متوهج أشعلته حماسة العودة في المباراة.

 

الباقي للتاريخ؛ ذلك الهدف كان أشبه بقطعة الدومينو الأولى التي ظلت تدفع ما أمامها حتى وصلنا للحظة النهائية والأسبان في منازلهم يشاهدون هولندا وهي تخرج من نصف النهائي بركلات الترجيح. نتيجة 5-1 كانت قاسية للغاية على أبطال العالم ولم ينجحوا في تخطي ذكراها فيما تبقى من البطولة، وفي ذلك اليوم بدا وكأن بإمكان الهولنديين لعب الكرة خلف راموس لألف مرة قبل أن يتخذ ديل بوسكي أي إجراء وقائي، والنتيجة أن شوط أول جيد تحول لكابوس لم يستطع الماتادور التعافي منه، وربما لو أتى هدف بيرسي في أي توقيت آخر لانتهت البطولة برمتها بشكل مختلف.

 

مأساة جيرارد
لاعب كرةالإنجليزي ستيفن جيرارد (رويترز)
لاعب كرةالإنجليزي ستيفن جيرارد (رويترز)

    

مباراة أسبانيا وهولندا قد تعد مثال واضح، ولكن خوليت يتعرض لمثال آخر قد يصدمك، تعثر جيرارد في مباراة الدوري الشهيرة أمام تشيلسي في نفس العام. حتى الآن يُنظر لتلك اللقطة على أنها حظ عاثر لأسطورة ليفربول الذي شاء القدر أن يعاقبه على ذنب لا نعلمه.

 

خوليت يرى أن المشكلة بدأت قبل تلك اللقطة بكثير، ويختصر وجهة نظره في التالي؛ ليفربول يواجه أحد أفضل مدربي العالم في اللعب على رد الفعل واستغلال أخطاء خصومه، إن لم يكن أفضلهم فعلًا، وهذا المدرب، إلى جانب عداءه السابق مع الريدز، (3) يبحث عن ذكرى جيدة من موسم شهد خروجه أمام الأتليتي بعد الهزيمة بثلاثية على أرضه وبين جمهوره، وفي ظل كل ذلك يحتاج رودجرز للتعادل فقط لا غير.

 

إجابة المعادلة واضحة للغاية بالنسبة لخوليت؛ الدفاع ثم الدفاع ثم الدفاع، ببساطة لا تمنح مورينيو ما يمكنه استغلاله ولتذهب الكرة الجميلة إلى الجحيم لمدة 90 دقيقة فقط. لاحظ أن المتحدث هو رجل يحمل إعجابًا كبيرًا بكرويف وأحد أهم أعضاء جيل ميلان ساكي التاريخي، ولكن الأمر من وجهة نظره يتعلق بما هو أكبر من ميول وتفضيلات شخصية، وهو فعلًا كذلك، بطولة غائبة من ربع قرن!

 

يقول خوليت أنه اندهش من مقاربة رودجرز الهجومية للمباراة؛ رودجرز كان يبحث عن التقدير، أراد أن ينتزع إعترافًا صريحًا من العالم بأحقيته باللقب عن مانشستر سيتي. ليفربول كان يعاني من مشاكل جمة رغم أداءه الهجومي المبهر، ورودجرز أراد تقديم/ عرضًا شجاعًا يفوز فيه على تشيلسي في الأنفيلد بين جماهيره الحالمة التي رفعته لمقام الآلهة.

   undefined

  

تلك كانت مشكلة رودجرز؛ أنه دخل المباراة بتفضيلاته الشخصية، دخلها وكأنه رودجرز، بينما من وجهة نظر خوليت كان يتعين عليه أن يدخلها وكأنه مورينيو. مورينيو يتعامل مع تلك المباريات الفاصلة الملحمية تعاملًا لا يخلو من الفلسفة، يعتبرها فرصة مثالية لا لحصد ثلاث نقاط وحسب، بل لإثبات أفضلية هويته الكروية التي اختارها من بعد 2007؛ الدفاع! من ثم كان أمام رودجرز خيارين واضحين؛ الأول أن يلجأ لطريقة مورينيو نفسه، أن يخشى الخسارة أكثر مما يرغب في الفوز، وهو انتصار معنوي واضح لخصمه حتى لو نجح رودجرز في التعادل والفوز باللقب.

 

الخيار الثاني أن ينهي مسيرته كما بدأها ويندفع لإنهاء المباراة مبكرًا، والنتيجة أن مورينيو فعل ما يفعله عادةً؛ اقتات على كبرياء الحالمين والسذج من أمثال رودجرز، وحول حلمًا جميلًا، أراده العالم كله تقريبًا أن يتحقق، إلى تراجيديا إغريقية ساقت جيرارد المخضرم ورودجرز الواعد إلى نهايتهما. صنع مأساة ضخمة للغاية أصبح من المستحيل في خضمها الحديث عن أي شيء مما سبق تلك اللقطة، واللحظة الفاصلة هنا – طبقًا لخوليت – لم تقع في المباراة ولا في لقطة جيرارد، بل في عقل رودجرز، في الليلة السابقة.

 

إلى هنا ينتهي حديث خوليت عن اللحظات الفاصلة في كرة القدم، ويبدأ حديثه عن بضعة مبادىء عامة سنتعرض إليها في الحلقات القادمة، وصولًا إلى الشرح المتخصص الذي يبدأه الهولندي بـ"كيف تشاهد المدافعين؟".