شعار قسم ميدان

حكايات كرة القدم.. كيف يمنحنا "إيريك" الحكمة؟

ميدان - رياضة
           

سوبرمان.. يرتدي سوبرمان حرملته ذات اللون الأحمر ويحلق في السماء. يمتلك سوبرمان قوة خارقة تجعله يستطيع أن يعكس حركة دوران الأرض ذاتها. يُخرج سوبرمان من عينيه شعاع ليزر قادر على إذابة المعادن. يدافع سوبرمان عن الحق ضد الأشرار. يمتلك سوبرمان ملامح وجه وسيمة وثقة لا يحظى بها كلارك كينت. يمتلك كل صفات البطل ومميزاته، ويعيبه فقط أنه ليس حقيقيًا. ولن يتمكن أي طفل يعشق سوبرمان من الطيران مهما كانت رغبته في أن يكون بطلاً.

        

لقد انتهت الحروب الكبرى والملاحم التاريخية. وانتهى معها عهد الأبطال الذين عرفهم البشر لقرون. ولم يتبق لأطفال هذا العالم ومراهقيه إلا عددٌ من أبطال الكوميكس أو أبطال السينما الخياليين، ممن لا يمكن محاكاتهم إلا في الشكل.

     

توتي.. يرتدي توتي ألوان ذئاب العاصمة روما ويجري على الأرض. يمتلك توتي مهارة تمكنه دائمًا من مراوغة مدافعي الخصوم. لا يستطيع توتي أن يخترق حائط المدافعين بشعاع ليزر، لكنه تدرب كثيرًا كي يرفع الكرة متجاوزة ارتفاعهم لتسكن ضرباته الحرة الشباك. يدافع توتي عن روما ويمتلك كل صفات البطل. وأهم ما يميزه أنه بطل قابل للمحاكاة. ويمكن لأي طفل أن يصبح قيصر روما المتوّج فوق عرشها، إن امتلك شجاعة الحلم. وكذا هو الحال مع الملك إيريك .. إيريك كانتونا.

      

إيريك الثاني
إيريك بيشوب بطل شخصية الفيلم، قام بدوره الممثل ستيف إيفيتس (مواقع التواصل)
إيريك بيشوب بطل شخصية الفيلم، قام بدوره الممثل ستيف إيفيتس (مواقع التواصل)

           

اسمه إيريك بيشوب[1]؛ إنه واحد ممن يمكن مصادفتهم في الشارع أو في عربات المترو أو الحانات ولا يتذكر أحد وجوههم أبدا. ذات مرة أحب إيريك فتاة وتزوجها. وبعد أن وضعت طفلتهما الأولى تركها وفر. ثم تزوج ثانية وثالثة، وفي كل مرة يفشل. ويتذكر حب حياته الأول الذي أهدره ويندم، لقد خرّب إيريك حياته، وتكفّل الزمن بزيادة التخريب. يجلس إيرك في منزله وأمام صورة عملاقة لإيريك آخر.. إيريك كانتونا. ويفكر في المراهقين الذين يرعاهما؛ ابنه من إحدى زيجاته وابن زوجته الثالثة المتورط مع رجل عصابة محلية لتوزيع المخدرات. يشعر بالتعاسة والندم والغضب وكراهية الذات، ويتحدث مع كانتونا: "لقد سألني الطبيب النفسي عن آخر مرة شعرت فيها بالسعادة؟" ويبدأ في التذكر…

"اليوم في أولدترافورد يعود إيريك كانتونا؛ أشهر لاعب في بريطانيا."

"كانتونا يسيطر على كرته.. يراوغ.. يسدد.. هدف."

"يضع كانتونا الكرة أمامه.. يضع مانشستر يونايتد في المقدمة."

"اشرب.. اشرب.. اشرب

في صحة الملك.. الملك.. الملك

إنه قائد فريقنا

إنه أعظم مهاجم حظي به العالم"

إنها كرة القدم؛ أهم الأشياء غير الهامة في العالم. ماذا تمنحنا كرة القدم في عالم يخلو من البطولة؟ وفي عالم أصبحت حكاياته كلها مؤلّفة مسبقً؟ إنها تمنحنا الحكمة!

         

"بدون الخطر، لا طعم للسعادة"

          

يقف رونالدينيو[2] هناك على بُعد يزيد على الـ40 ياردة عن مرمى ديفيد سيمان من أجل تنفيذ ضربة حرة احتسبها الحكم، وتسابقت القمصان الصفراء إلى منطقة جزاء الإنجليز من أجل تحويل عرضية دينيو إلى الشباك، والتقدم في مباراة ربع النهائي التي بلغت دقيقتها الخمسين بتعادل هدف لهدف.

            

ربما ذهب عقل الفتى ذي الاثنين وعشرين عاما إلى طائرة استقلها ذات يوم في فرنسا من أجل تجربة القفز بالمظلات مثلا، وربما يتذكر أنه قفز مربوطا إلى مدرب خبير، سوف يسحب حبل فتح المظلة في الوقت المناسب قبل الوصول إلى الأرض، وربما تذكر الفتى حينها أنه أغمض عينيه وتخيل نفسه يقفز منفردا من الطائرة بلا مدرب وبلا مظلة، تخيل لو أنه قرر القفز من الطائرة إلى البحر لا إلى منطقة مخصصة لهذه الأغراض. تخيل أنه أخذ هذه المخاطرة بكامل تهورها وبلا أي وسيلة حماية، وتخيل أي لذة سوف يجنيها في ذلك الحين؟

       

حتى تلك اللحظة لم يكن رونالدينيو قد أحرز لمنتخب البرازيل إلا 7 أهداف في بطولات رسمية، ولم يحظ بفرحة إحراز هدف الحسم إلا في مباراة واحدة وكانت في كأس القارات، لكن هذه كأس العالم. أغمض عينيه وتخيل الطائرة وقرر القفز بلا مدرب أو مظلة وأطلق الكرة. تحلق الكرة في الهواء ولا يعلم أحد من ملايين المشاهدين حول العالم تفسيرا لها؛ فليست كرة مرفوعة ولا كرة مسددة، ولا يمكن لعاقل أصلا أن يسدد من هذه المسافة. استمر الأمر لمدة ثانيتين فقط، وكان الراقص صاحب الابتسامة العذبة يعرف أن اللعنات سوف تنهال عليه لو أخفق، وأن الكثيرين ممن يروا مقارنته برونالدو محض مبالغة. ثانيتين دارت فيها الكرة في قوس كبير واسع واستقرت خلف ديفيد سيمان الذي لم يفهم ماذا حدث.

        

قرر الفتي المخاطرة، ووهبه الرب الهدية. والأكيد أنه شعر بلذة السعادة المجنونة الخطرة، والأكيد أن العالم بعد هذه اللحظة أعاد تعريف ذلك الضاحك مرة أخرى. فالحياة بعد هدف الحسم فى مرمى الإنجليز لن تشبه ما كانت عليه قبلها!

         

"في بعض الأحيان تتحول الذكريات السعيدة إلى ذكريات قاسية"

على ملعب الدراجاو في فبراير/شباط 2018 يسحق ليفربول غريمَه وصاحب الأرض بورتو بخماسية نظيفة. من هو أعظم رجل في الملعب؟ صلاح، فصلاح يفوز دائما في الاستفتاءات، أو كلوب ذلك الألماني المجنون، وربما ساديو ماني صاحب الهاتريك، لكن؛ لن يرى أحد ذلك الجالس الصامت على مقاعد البدلاء.

             

كان الحظ في جانب إيكر كاسياس، عندما أصيب حارس مرمى الإسبان الأساسي قبل مونديال 2002، وأصبح كاسياس محله حتى أحرز لقب اليورو الثاني على التوالي للاروخا في 2012
كان الحظ في جانب إيكر كاسياس، عندما أصيب حارس مرمى الإسبان الأساسي قبل مونديال 2002، وأصبح كاسياس محله حتى أحرز لقب اليورو الثاني على التوالي للاروخا في 2012
        

لقد استعد له التاريخ بعناية وانتظر قدومه لكل يتوجه بكل مجد ممكن في عالم الكرة. دوري الأبطال.. لقد كان أصغر حارس يشارك ويفوز بمباراتها النهائية. كأس العالم؛ غاب عن منتخب بلاده لعقود طويلة قبل أن يأتي وهو حارس مرماه. الدوري المحلي؛ هناك العديد من ألقابه في سجلات ذلك اللاعب، وها هو الآن يجلس بديلا لحارس مرمى تتلقى شباكه 5 أهداف.

         

كانت الأمور على ما يرام، وكان إيكر كاسياس[3] يصعد سلالم التتويج بسرعة خيالية، حتى الحظ كان في جانبه؛ عندما أصيب حارس مرمى الإسبان الأساسي بإصابة غرائبية قبل مونديال 2002، وأصبح كاسياس محله منذ ذلك الحين وإلى أن أحرز لقب اليورو الثاني على التوالي للاروخا في 2012. لقد كان كل شيء على ما يرام، ولكن ها هو الآن يجلس بديلا لحارس مرمى تتلقى شباكه 5 أهداف.

          

تخبو العظمة ثم تضيع تماما، ثم تتحول إلى عبء ثقيل على أكتاف هؤلاء الذين لا يستطيعون تكرار المجد. وكل لحظة سعادة ماضية تتحول إلى انكسار آني عندما تقارن ما كان بما هو حاضر. كل صدّة عظيمة وكل كأس مرفوع وكل هتاف يمدحك به الجمهور يتحول إلى وخزة في القلب عندما يتخلى عنك كل هؤلاء؛ لأنك لم تعد كما كنت، وها أنت الآن تجلس بديلا لحارس مرمى تتلقى شباكه 5 أهداف!

        

"لا بد أن تقول لا"

لقد كان كأس العالم 1978 في الأرجنتين جريمة[4] متواصلة من جرائم حقوق الإنسان، ففي البلد الذي اعتاد على الانقلابات العسكرية؛ قررت الفيفا إقامة كأس العالم، وكان هذا قبل انقلاب أخير وصل ببعض جنرالات الجيش إلى الحكم، وكانت هذه هي الفرصة التي أرادو ا استغلالها لتحسين صورة حكمهم أمام العالم.

       

كانت العقبة الأولى أمامهم هي إقامة المنشآت الرياضية والطرق، ومن أجل هذا اقتطعوا من ميزانيات التعليم والصحة، وكلفوا خزائن الدولة ما يقارب 700 مليون دولار أميركي، وهو ما يماثل 3 أضعاف ما أنفقته إسبانيا من أجل تنظيم كأس العالم 1980K وكانت العقبة الثانية هي أصوات المعارضين المحليين، ولم تدخر حكومة الجنرالات جهدا في اعتقال هؤلاء حتى وصل الرقم إلى 200 معتقل في اليوم الواحد؛ تأخذهم قوات الشرطة من منازلهم وتلقي بهم في المعتقلات.

      

أما الناس -الشعب الأجنتيني- فقد أقدمت الحكومة العسكرية على قرارات تهجير مجنونة، نقلت بموجبها آلاف البلوكات السكنية الفقيرة من محيط الملاعب من أجل تحسين الصورة التي سيراها الصحفيون عند القدوم لتغطية المونديال.

              undefined

            

ورغم ذلك لم يقبل الاتحاد الدولي سحب حق تنظيم البطولة من الأرجنتين. وظهر السؤال الذي لا بد أنه كان بمثابة أزمة أخلاقية لكل المشاركين في هذه المهزلة؛ كيف يمكن أن نلعب كرة القدم على بُعد أمتار قليلة من سجون التعذيب، ومن أجل دعم بروباغندا حكومة فاشية؟ وقرر يوهان كرويف أن يقول لا، ولم يذهب إلى كأس العالم. كرة القدم تعلمنا أحيانا الرفض، وربما تعلمنا الثورة، وجماعات الألتراس العربية ذات الدور الثوري ليست بعيدة عن الذهن بأية حال. وهنا تتحول كرة القدم من أهم الأشياء غير الهامة في الحياة إلى أهم الأشياء الهامة.

       

في اللغة الفرنسية؛ لا توجد كلمة "لا أستطيع"

في بداية موسم 2013 لم يكن توري ديني[5] في قائمة واتفورد المشاركة في دوري الدرجة الثانية الإنجليزي تشامبيونشيب، ولم يكن غيابه بسبب الإصابة أو سوء المستوى ولكن بسبب السجن؛ حيث يؤدي عقوبته -عقوبة الحبس 10 أشهر- بعد أن قام بضرب مجموعة من الطلاب، وتسبب في كسر فك أحدهم وفي إصابة آخر احتاج 20 غرزة جراحية من أجل معالجة جرحه.

          

في السجن الجنائي لا يجد النزيل رفيقا في الليل إلا ذاته التي يريد أن يواجهها، ويجد أمامه أحد خيارين؛ إما أن يستطيع أو ألّا يستطيع. لقد خذل ديني عائلته وناديه. وربما فكّر في الكلمات التي سيقولها لزوجته وابنه فلم يجد، وهذا الموقف إما أن يفضي إلى العجز والتدهور أكثر، أو أن يستطيع الإنسان بقوة هائلة أن يعدّل من ذاته.

            

في نهاية الموسم بلغ واتفورد المباراة قبل النهائية من أجل الترقي للدوري الإنجليزي الممتاز، وفي الذهاب انهزم أمام ليستر سيتي في ملعب الأخير بهدف نظيف، وفي مباراة العودة استطاع واتفورد بلوغ الدقيقة 90 متقدما بهدفين لهدف، لكن نتيجة المبارتين تصب في مصلحة الثعالب، واحتسب الحكم ضربة جزاء لصالح ليستر كانت كفيلة بتأمين الصعود؛ لولا أن ألمونايا تصدى لها وتحولت إلى هجمة مرتدة أحرز منها تروي ديني هدف الصعود لواتفورد، بعد أن صارت النتيجة 3-1 لصالحهم، وحجزوا المقعد الثاني في المباراة النهائية أمام كريستال بالاس في ويمبلي.

               

          

انطلق ديني إلى المدرجات حيث تجلس عائلته، يصيح بكلمات غير مفهومة، وبجنون يليق بحالة الهياج التي اجتاحت الملعب، ولكنه في الأغلب كان يصيح بأنه نجح في تغيير كل شيء، لأن اللغة الفرنسية لا توجد بها كلمة "لا أستطيع".

 

5

إيريك: ما هي أسعد لحظة في حياتك؟

كانتونا: لم تكن لحظة هدف.

إيريك: لا بد أنها كانت هدفا.

كانتونا: لقد كانت تمريرة!

إيريك: يا إلهي! لا بد أنها تمريرة إيروين ضد السبيرز. نعم! إنها الجمال!

كانتونا: أعرف كم كنت بارعا. يمين ثم يسار، ثم أرسلتها عالية والتقطها هو وطار معها قلبي.

إيريك: ولكن ماذا لو كان أهدرها؟

كانتونا: يجب أن تثق بزملائك، وإلا فسوف نخسر جميعا!"

          

            

إيريك الأول
في البداية يمنحنا لاعب كرة القدم لحظة من السعادة بهدف جميل أو تمريرة متقنة أو عرقلة شجاعة، ثم يكرر لعبته مرة ثانية وثالثة، فيصبح وجهه في الملعب متماهيا مع السعادة، فتتحول إلى محبة ثم يكرر لعبته مائة مرة فتتحول المحبة إلى ثقة، ومع الثقة يبدأ الإيمان.

               undefined               

إيريك بيشوب رجل فاشل ضعيف مهزوم ويحتاج إلى بطل، ويجب أن يحمل هذا البطل كل ما ينقص إيريك ويكون النسخة النقيضة منه، ويجب أن يكون بطلا قابلا للمحاكاة، فيختار لاوعيه استحضار صورة كانتونا الذي هو إيريك أيضا. الملك إيريك رجل يحمل ضعف الرجال رغم كل شيء، لقد أخطأ يوم ركل مشجع كريستال بالاس، وعوقِب بالحرمان من اللعب لتسعة أشهر. لا بد أنه ندم في كل يوم منها وهو بعيد عن مسرح الأحلام، لابد أنه كان غاضبا من نفسه، لكنه سامح نفسه في النهاية وعاد. وإيريك بيشوب يريد مسامحة نفسه ويريد كل ما لدى إيريك كانتونا من صفات البطولة.

          

كل ما سرده كانتونا من حكم، يسهل قوله في واحدة من محاضرات التنمية البشرية، ولكنها سوف تبقى حكايات بلا معنى. كرة القدم تخلق السياق، والسياق يولد إمكانية التصديق. وعندما ينجح أبطالنا في تنفيذ ما يقولون؛ نبدأ نحن بالإيمان. وهذه هي حكاية إيريك[6] الذي كان يبحث عن إيريك!

__________________________________________________________

*التقرير مستقى من فيلم "Looking For Eric" للمخرج الإنجليزي كين لوتش


المصدر : الجزيرة