شعار قسم ميدان

صلاح ومورينيو وماتا..هل يتقاضى لاعبو الكرة أكثر مما يجب؟

midan - انفوجراف

هناك إجابة سهلة وأخرى صعبة. الأولى بالطبع سيكون عنوانها هو الاستغراق في الرأسمالية، وستنحصر في تفسير الواقع بالواقع. أي القول بأن رواتب لاعبي كرة القدم تأتي بالأساس من أموال الجماهير، هؤلاء الذين ينفقون من جيوبهم للفرجة على المباريات وشراء القمصان والاشتراك في خدمات البث المدفوع، ويوم تقرر الجماهير التوقف عن الفرجة على كرة القدم ستنهار المنظومة، بالتالي لا ذنب للاعبي كرة القدم في كل ذلك، باعتبارهم مجرد تروس في ماكينة الرأسمالية العالمية، أي ببساطة، سنلقي بك في الدائرة المفرغة المعتادة ونأمل ألا تخرج منها. (1)

 

الإجابة الصعبة لها علاقة بالأخلاقيات طبعًا. أي إجابة صعبة لابد وأن تكون على علاقة بالأخلاقيات، وأيًا كان ما تعنيه الأخلاقيات هذه الأيام فيصعب تخيل أي نظام اجتماعي ناجح يتقاضى فيه أحدهم 500 ألف إسترليني في الأسبوع حتى ولو كان يأتي بالمعجزات. (2)

 

أن تكون

دعنا أولًا نقر بأن النظرة التقليدية للاعبي الكرة ظالمة للغاية. صحيح أن أقل لاعب في أضعف فريق في دوريات أوروبا يتقاضى في أسبوع أو شهر ما يفوق المتوسط السنوي لمواطني بلده، وبالمثل يمكنك قياس الأمر على أي لاعب كرة في أي مكان في العالم تقريبًا باستثناء أمريكا التي لا تحب كرة القدم، ولكن صحيح كذلك أننا لا نرى إلا هؤلاء. لا نرى الآلاف ممن حاولوا وانتهى بهم الأمر على المقاهي بلا عمل، أو أولئك الذين أوشكوا على النجاح قبل أن تقضي إصابة مبكرة على مصدر الرزق الوحيد الذي يعرفونه.

   

   

احتمالات النجاح في لعبة بهذا الحجم ضئيلة فعلًا، نحن فقط لا نشعر بها لأننا لا نشاهد إلا من مروا بالاختبار. المنطق يقول إن المكافأة تكون على قدر المخاطرة والجهد، ولاعبو الكرة يخاطرون بالكثير فعلًا، ولكن بمجرد النجاح يصبح كل شيء سهلًا لدرجة مستفزة. دائرة مفرغة أخرى لن تخرج منها بعقلك. الدليل أنك تقرأ عن رواتب وأموال لاعبي الكرة كل يوم، ولكنك لن تترك دراستك وطموحاتك الآمنة لتصبح واحدًا منهم.

 

الأمر أشبه بمقامرة كبيرة، ولكن في نفس الوقت لا سبيل لضمان التفوق فيها إلا ببذل الجهد، لذا هي ليست مقامرة في الواقع إذا نحينا الإصابات والحوادث الاستثنائية جانبًا. قد يبدو هذا مفاجئًا لك ولكن عدد اللاعبين المجتهدين يفوق الموهوبين بأضعاف مضاعفة. بالطبع يمكنك أن تسخر من كل ذلك على طريقة "22 رجل بالغ يركضون خلف قطعة من الجلد المدور وكأنها نهاية العالم"، ولكن الحقيقة أن الترفيه مهم للغاية في حياة الإنسان، ولكن للأسف فأهميته لا توضحها عبارات لها نفس الجاذبية والإثارة. (3)

  

هنا لا يسعنا إلا إبراز المفارقة؛ إذا كان الأمر كله من أجل الترفيه فلماذا يتعامل معه الجميع وكأنه نهاية العالم فعلًا؟ علامَ كل هذا الحديث عما سيتذكره التاريخ والنتائج والحناجر التي تتمزق من أجل بضعة سنتيمترات قد تضع تلك اللعبة في نطاق التسلل أو لا. لو كان الأمر بهذه الجدية فلماذا نلعب كرة القدم أصلًا؟ من قال إن التاريخ سيترك الحروب والرؤساء والتغيرات المناخية وأزمات الطاقة وتنظيم الدولة وسوريا وتغريدات ترامب ويتذكر من فاز بالليغا عام 2018؟ (4)

   

   

7 طبقات

المزيد من الدوائر المفرغة. هذا ما يثير غيظك في كرة القدم؛ أنها تشبه الحياة الواقعية لدرجة مستفزة. الكثير من المتغيرات التي لا يمكن التنبؤ بنتيجتها تمتزج معًا لتخرج لنا هذه اللعبة، ولأنها تشبه الحياة فعلًا فلا يبدو أن هناك فائدة كبيرة من انتقاد الحياة، بل يبدو السؤال الواقعي هنا سؤالًا أخلاقيًا بدوره..هل يؤدي لاعبو الكرة واجبهم نحو المجتمع؟

 

بالطبع سنتجاهل التعريفات المحتملة لـ"واجبهم" بكل ما يصحبها من سفسطة متوقعة. واجبهم هو واجبهم ببساطة. صحيح أنه واجب أخلاقي لن يعرضهم للمساءلة القانونية ولكنه قد يكون أحد أهم الأشياء التي يتذكرها التاريخ فعلًا في هذه اللعبة.

 

الخبر السعيد أن بعضهم يوافقنا الرأي. إن كنت قد سمعت عن إسحاق هايدن مدافع أرسنال السابق ونيوكاسل الحالي فهو يوافقك الرأي تمامًا. "عندما تفكر في الأمر تجده محض جنون.. نحن نسكن القصور الفخمة وفي آخر طريق ملعب التدريب نجد الناس يصطفون للحصول على الوجبات المجانية كل يوم". (5)

   

   

إسحاق يتطوع بجهده وماله في بنك الطعام القريب من ملعب نيوكاسل. في هذه المنطقة يتراوح أسعار البيوت ما بين مليون إسترليني إلى 2.5 حسب حجمها، وأغلب السكان يجهلون أن هناك بنكًا للطعام من الأصل رغم أنه الأكبر في إنجلترا. لاحظ هنا أننا نتحدث عن لاعب في نادٍ صعد لتوه للدرجة الأولى، لا واحد من هؤلاء الذين يتقاضون في شهر ما يكفي بنك الطعام لسنة.

 

سبشيال وان

هناك الكثير مما يُقال عن الحقد الطبقي ولكن لا أحد يجسر على الاعتراف بأنه ممتع. من المُرضي أن تقنع نفسك بأن من يملكون الكثير لا يستحقونه، قد يكون هذا صحيحًا في عدد لا بأس به من الحالات بالطبع، ولكن لنكن واقعيين، لا أحد يعترف بأنه يستحق أقل مما يملك.

 

هذا هو ما يجعل تصريحات مورينيو في هذا الصدد عظيمة فعلًا. الرجل ليس مثالًا أخلاقيًا يحتذى به، على الأقل في كرة القدم، ولكنه قالها في لحظة صراحة نادرة. الجملة التي لا تُقال بما يكفي؛ لاعبو كرة القدم لا ينقذون الأرواح، لا يبنون الحضارات ولن ينهار العالم من دونهم، وهم بالقطع يتقاضون أكثر مما يستحقون. (6)

 

دعنا نوثق هذا التصريح سريعًا قبل أن يغير البرتغالي رأيه، صحيح أنه عاد إلى قواعده سالمًا بعدها ووصف منتقدي بوغبا بأنهم مجرد حاقدون لا يملكون قوت يومهم، ولكن دعنا نخبرك أيضًا أن خوان ماتّا يشاركه الرأي – الأول بالطبع – لدرجة أنه مستعد لتخفيض راتبه. صانع الألعاب الأسباني يتقاضى راتبًا عاديًا مقارنة بباقي زملائه، ولكنه يرى أنه لا يقدم ما يبرر أن يفوق دخله 99.9% من باقي سكان العالم، بالإضافة لأنه يعتقد، مثل كثيرين غيره، أن ما يسمى باللعبة الحديثة قد أفسد اللعبة القديمة، وأن تحكم رأس المال في كل شيء حول الأمر لصناعة فعلًا. الفارق الوحيد أن 99.9% من الكثيرين غيره الذين يؤمنون بنفس الأفكار لا يتقاضون 160 ألف إسترليني في الأسبوع. (7) (8)

   undefined

  

السؤال المنطقي هنا؛ كيف تحول الأمر إلى صناعة؟ وماذا كان قبل أن يتحول؟ وما هي اللعبة القديمة أصلًا؟ وهو سؤال منطقي فعلًا لأن آخر مرة لم تكن فيها كرة القدم وظيفة وكأن لاعبيها مجرد هواة لم يكن جد ماتا قد تزوج بعد، ولكن الرجل يتحدث عن أثر ذلك في اللاعبين الشباب. هؤلاء الذين يبتاعون السيارات الفخمة والقصور الضخمة بمجرد توقيع عقد مع أي فريق يلعب في الدرجة الأولى. في الواقع إسحاق هايدن نفسه كان أحد هؤلاء قبل أن يرى الناس يصطفون من أجل الوجبات المجانية.
 

أحرار ولكن

بالطبع يمكنك أن ترى في ذلك لمحة أبوية كريهة،باعتبار أن كل إنسان حر ما لم يضر، ولكن، لا يوجد لكن هنا. الأولى هو إبراز المزيد من النماذج المشابهة التي تعتقد، مثل ماتا، أن لا فارق بين أن يكون رصيدك في البنك 20 مليونًا أو 25، لأنك لن تتمكن من إنفاقها على أية حال.

 

أنت تعلم عن صلاح بالتأكيد، بل أحيانًا يبدو أن الجميع يعلم عن صلاح أكثر مما يجب. المهم أن الرجل، وباختصار مخل، يقوم بدور الدولة في قريته. صلاح لا يتطوع في بنوك الطعام بل ينشئها ويمولها، صلاح لا يبتاع المياه النظيفة لأهل قريته بل يبني لهم محطة تنقية. نحن نتحدث عن لاعب كرة ينشط في إنجلترا ويتقاضى مثل ماتا ولكنه مصري، لذا يمكنك مضاعفة الفجوة التي تحدث عنها مورينيو وماتا وهايدن لعدة مرات. في الواقع صلاح يلزمه بضع سنوات لا أكثر ليجعل من قريته دليلًا حقيقيًا على أن تحول اللعبة لصناعة ليس مضرًا لهذه الدرجة. (9)

  

(ستيفن نايسميث يتلقى جائزة لأعماله الخيرية)

    

هناك مثالًا آخر رائع هو الرجل الذي وصفه كالوم ديفيز – صحفي التليغراف – بأنه ألطف رجل عرفته كرة القدم. ستيفن نايسميث مهاجم رينجرز وإيفرتون السابق، الرجل الذي يستضيف مئات المشردين كل عام بمناسبة الكريسماس ويوفر لهم وجبات لائقة وأجواء احتفالية، وهو بالفعل ينشط في عدة منظمات أسكتلندية وإنجليزية لتوفير المأوى والإعاشة للكثيرين ممن يحتاجونهما، والأهم أنه يفعل كل ذلك بحماس حقيقي وكأنه يشعر بأنه واجبه فعلًا. (10) (11)

 

لذا وبالعودة لأصل الحكاية، فإن الإجابة السهلة مازالت سهلة. الرأسمالية المطلقة قد سدت كل الخانات ولم يعد هناك مجالًا للحركة أو الاعتراض. كل الصناعات المشابهة يمكن إلقاء مسؤوليتها على الجموع الغفيرة التي تمولها، وحتى لو كانت مدخلاتها ومخرجاتها غير منطقية بالمرة، ولكن بالمثل ما زالت الإجابة الصعبة صعبة، ربما لذلك لم يعرفها إلا القليلون.