شعار قسم ميدان

وداعا فينغر.. صدقا لن نفتقدك!

midan - فينغر
في كلاسيكية "لديَّ خبر جيد وآخر سيِّئ" الشهيرة، ماذا يكون اختيارك؟ البعض يميل لمعرفة السيِّئ أولاً ليبقى أثر البهجة أخيراً، والبعض الآخر يرغب في رفع معنوياته بالخبر الجيد قبل معاينة الأضرار.. نتمنى أن تكون من النوع الأول بأي حال، فالخبر السيِّئ هو أن آرسنال قد خسر نصف نهائي الدوري الأوروبي ولن يشارك رسمياً بدوري الأبطال للعام الثاني على التوالي، وبالتالي فقد آرسين فينغر فرصة إنهاء حقبته بلقب اعتبره الكثير "وداعاً مستحقاً"، أما الخبر الجيد فهو أننا قد لا نضطر للكتابة عنه مجدداً.

 

في عالم الكتابة الرياضية -وربما الكتابة بوجه عام- يتأثر مستوى السهولة والصعوبة بعدة متغيرات، مثل نوع الموضوع المطروح ومدى حساسيته الجماهيرية وضرورة انتقاء الألفاظ إلى جانب الحالة المزاجية للكاتب، العنصر الأخطر والذي يصدف كونه غير قابل للتغيُّر هو الملل الناجم عن التكرار، لو كان للكتابة سُمَّاً لكان هذا هو تعريفه الحرفي..

 

ببساطة إن كان هذا الفرنسي العجوز لم يمَلَّ تكرار الهراء ذاته عن الجودة والنوعية وأفضل الخيارات المتاحة في السوق وتحمل المسئولية بعد كل هزيمة دون أدنى محاولة حقيقية لإصلاح أي من العيوب، فإننا كبشر فانين مآلنا التراب لا نملك نفس القدرة، لا يمكننا أن نفند أسباب فشله كل يوم بنفس الكلمات ثم نطالبك بمشاركتنا تلك الدائرة المغلقة عديمة المغزى، فتكون الحصيلة عملاً لا تريد أن تقرأه لكاتب لم يرِد كتابته عن شخص سئمنا جميعاً سماع اسمه!

   

(تشكيل الفريقين وتقييم اللاعبين - هوسكورد)
(تشكيل الفريقين وتقييم اللاعبين – هوسكورد)

   

آرسناليات

إثر عقوبة الإيقاف، ترك دييغو سيميوني مقعده لمساعده ومواطنه الضخم خيرمان بورغوس، ولكنه على أقل تقدير قد وضع اللمسات النهائية قبل بداية المباراة. قرار مثل سد فراغ الظهير الأيمن بالغاني توماس بارتي هو من صميم عمل "التشولو"، فهو ليس أول -ولا آخر- مركز يشرك به ورقته المفضلة، قد لا يكون أمهرهم، قد لا يكون أذكاهم، ولكنه سيُنفذ ما يُطلب منه بكل ما يملك من مخزون بدني، وعليه كُلِّل الرهان بـ3 تدخلات ناجحة من أصل 4 واعتراضين للكرة، في مواجهة تركيز آرسنال الممنهج على ضرب جبهته.

   

(مواقع إطلاق الهجمات: قرابة نصف محاولات آرسنال (يميناً باللون الأزرق) أتت من اليسار - هوسكورد)
(مواقع إطلاق الهجمات: قرابة نصف محاولات آرسنال (يميناً باللون الأزرق) أتت من اليسار – هوسكورد)

   

على الجانب الآخر حل فينغر بـ4-3-2-1 ضمَّت أغلب عناصره المنطقية أو الاضطرارية، باستثناء رجل الطوليات داني ويلبك الذي فضَّله على حساب هنريك مخيتاريان. صحيح أنه أخفق في 3 صراعات هوائية من أصل 4، إلا أنه واصل إيجابيته الملحوظة في افتكاك الكرة بعلامة كاملة في تدخلاته الأربعة، المشكلة أننا كلما رغبنا في اعتبار هذا مؤشراً إيجابياً، عطفاً على الاستنباط المنطقي بأن المهاجم يسترجع الكرة من الأمام ويبدأ الهجمة سريعاً، نُفاجأ بأن تلك التدخلات كلها بالخلف كما حدث في لقاء مانشستر يونايتد الأخير. تلك المرة تحسنت المواقع بعض الشيء، فكان أكثر التدخلات تقدماً عند دائرة المنتصف.

   

(مواقع تدخلات ويلبك - هوسكورد)
(مواقع تدخلات ويلبك – هوسكورد)

    

في إطار متصل قدم مسعود أوزيل جهداً غير معتاد في تلك المباراة، بـ4 تدخلات صحيحة أيضاً أحدها داخل منطقة جزاء الخصم. وعلى ذكر التدخلات، تأمَّل -ولو لمرة أخيرة- توزيع أدوار وسط آرسنال، دون التعرض لحاجة الفريق الواضحة إلى ارتكاز دفاعي صريح، من المفترض جدلاً أن يحصل آرون رامسي على الحرية الهجومية في ظل مجاورته لتشاكا وويلشير وأن يكون هو الرجل الثالث، ولكن ما حدث أن متوسطهم الدفاعي الاضطراري -تشاكا- قد انتزع 3 تدخلات من 5، فيما تكفل رامسي بـ7 تدخلات وحده، أكثر من بقية اللاعبين وبنسبة نجاح 100%، بدوره لم يستعِد ويلشير الكرة سوى باعتراضين، بينما صنع ثلث فرص آرسنال بتمريرتين مفتاحيتين.

 

كانت الأمور قد وصلت إلى مرحلة سيئة بالفعل، انتهى عام لوران كوسييلني -وربما مسيرته- إثر إصابته في وتر اكيليس وحلَّ كالوم تشيمبرز بدلاً منه، آرسنال لم يسدد سوى كرة واحدة خارج المرمى طوال الشوط الأول.. توقيت مثالي لوصول متأخر من جانب الظهير الأيمن هيكتور بيليرين، تركه أمام خيار وحيد بمحاولة الالتحام الجسدي والتفوق البدني على دييغو كوستا.. صراع لو أُعيد ألف مرة لسقط الظهير قتيلاً في المحاولة رقم 105 على أفضل تقدير، فرص فوزه هنا أضعف من احتمالات انتصار الشر في أفلام ديزني. تلك اللقطة لم تكن سوى مجرد تتويج لسلسلة من العروض الرديئة، فالسؤال الآن لم يعد إذا ما كان بيليرين ينوي الرد على هاتفه أم لا(1)، السؤال الصحيح هو: ما نوع الأحمق الذي سيتصل؟

   

(أرقام دييغو سيميوني على ملعبه مع أتلتيكو مدريد)

   

رياح التغيير مجدداً..

"دائماَ ما يقودنا الحديث عن أرسنال وفينغر إلى حلقة مفرغة من الملل الجاثم على صدور هؤلاء المشجعين الذين قُدِّر لهم أن يدفعوا ثمن تشييد ملعب الإمارات من أعصابهم وصحتهم، كل شيء مكرر ومُعاد، كل موسم هو نفس الموسم، الجودة والنوعية، فارق سعر العملة، هزيمة الافتتاحية، تحسن النتائج، فجوة الدور الثاني، شاحنة الإصابات المعهودة، دور الـ16 لدوري الأبطال إلخ.

  

ليس غريباً أن ينتقل تبلُّد وثقل سمع الإدارة التي اختزلت سابقاً كل شكاوى الجماهير في "جودة الواي-فاي" إلى المدرب نفسه فهما كالتوأم الملتصق شكلاً وموضوعاً. أصوات غاضبة تُطالب بالتغيير، لم يعُد الخروج من دور الـ 16 والإنهاء فوق توتنهام يُرضيها، وبالتالي كان الرد المنطقي من الفرنسي هو الإنهاء وراء توتنهام للمرة الأولى منذ 22 عاماً وعدم التأهل لدوري الأبطال من الأساس، أليس هذا تغييراً؟ لا تريدون الخسارة كل موسم من بايرن ميونيخ أو برشلونة أو حتى موناكو؟ لماذا أُفكر في طريقة لهزيمتهم بينما يمكنني ألا أواجههم أصلاً؟ مللتم المركز الرابع؟ جربوا الخامس.. وعلى هذا النمط يمكنكم قياس ما يدور برأس هذا الرجل حقاً."

 (الفاتورة: كشف حساب آرسين فينغر(2) – يوليو 2017)

 

كم هي مقيتة فكرة آرسين عن كلمة "تغيير"، رغم أنه قد قدَّم تغييرات هامة هذا الموسم، فمن الخامس إلى السادس، ومن دور الـ16 لدوري الأبطال إلى نصف نهائي بطولة أوروبية أقل، تلك المرة أيضاً أضاف تغييراً قد يكون أكثر خطورة من رحيله نفسه.. وكأنه يريد إثبات أن سيطرة الذهاب الكاسحة لم تتولد سوى من طرد فيرساليكو المبكر، انسحق آرسنال تماماً في كافة تفاصيل مباراة الإياب.

 

 من لا يملك خيار سوى الانتصار لم يُقدِّم سوى 6 محاولات وتسديدة وحيدة على مرمى أوبلاك، أما من يمتلك رفاهية اللعب على التعادل السلبي، وصدق أو لا تصدق، قد صنع أكثر من ضعف هذا العدد، 14 محاولة من نصيب أتلتيكو مدريد ونسبة استحواذ متقاربة (52% مقابل 48%). الكل يعلم بشأن ميل سيميوني للخيارات الآمنة والتزمت الدفاعي في مواجهة الكبار، ولكن ربما كانت تلك هي المشكلة.. "الكبار". دائماً ما اعتاد الروخيبلانكوس على سرقة النتائج الإيجابية في مباريات لم يقدم بها أداءاً يستحق، ولكن تلك المرة تحديداً، السرقة هي خروج المباراة بأي نتيجة مغايرة.

   

(عكس المتوقع تماماً، قضت الكرة في ثلث آرسنال الدفاعي وقتاً أطول من ثلث أتلتيكو مدريد - هوسكورد)
(عكس المتوقع تماماً، قضت الكرة في ثلث آرسنال الدفاعي وقتاً أطول من ثلث أتلتيكو مدريد – هوسكورد)

   

قبل انغلاق الدائرة..

حقق أتلتيكو أرقاماً غير معتادة في تلك النوعية من المهاجات، فبينما كان تفوق آرسنال الدفاعي الوحيد هو رأس شكودران موستافي (5 صراعات دفاعية ناجحة)، عاث الثنائي كوستا وغريزمان في الأرض فساداً طيلة المباراة. كوستا سدد ما يعادل تسديدات آرسنال إجمالاً، و4 أضعاف تسديداته على المرمى! ربح 5 مراوغات من أصل 8، بينما نجح غريزمان في جميع محاولاته الأربعة إلى جانب تمريرتين مفتاحيتين، وهو الشق الذي تصدره كوكي بـ3 تمريرات.

   

(فيرناندو توريس شارك لمدة 8 دقائق في المباراة، وخرج بنفس عدد تسديدات آرسنال على المرمى: واحدة!)

  

أظهر سيميوني هذا الوجه الذي طوَّره على صغار الليغا، فإن كان هذا النهج قد كلَّفه شيئاً من صلابته الدفاعية، إلا أنه واصل توفير عدداً لا بأس به من النقاط السهلة، فكونك الطرف الأقوى يعني أنك لست مضطراً لمحاولة لتأمين هدف أمام ملقا أو إلقاء كرة إضافية في الملعب لتعطيل اللعب (3)، بينما يمكنك سحق الخصم وإغراقه هجومياً استثماراً لميل كفّتك في ميزان القوة.

 

قيل في نهاية الموسم الماضي أن جعبة التشولو قد خلت وحان وقت الرحيل، ولكن الأمر ليس بتلك السهولة، ليس بعد أن بنى الفريق وتمكَّن من كافة أدواته، فهو من طوَّره وتطوَّر معه، ليصبح مدرباً أفضل لفريق أفضل مهما فقد من عناصر. الأمر أيضاً يتوقف على حجم الطموح والامتنان، فتلك الجماهير لن تنسى حال فريقها قبله وحاله الآن معه، لن تنسى أن الرجل تسلم فريقاً ينازع لنيل مقعد في دوري الأبطال، فقاده إلى لقب الليغا ونهائي البطولة الكُبرى مرتين. ومن الناحية الأخرى لا بأس لديها ولدى الإدارة بالمراكز الأربعة الأولى وأدوار الأبطال الإقصائية، فهذا بحد ذاته نجاح في مواجهة عملاقين كريال مدريد وبرشلونة، وحتى تلك الأخيرة التي فقدها هذا الموسم، عوَّضها بنهائي الدوري الأوروبي وهو الآن الطرف الأقرب للتتويج بطبيعة الحال.

 

سيميوني باقٍ في مقعده طمعاً في المزيد من النجاحات الخيالية، اللعبة تكمن فقط في اختيار التوقيت.. فإن رحل الآن ستخرج الجماهير لتُطالبه بالبقاء، وإن رحل بعد بضعة سنوات سيظل بطلهم حتى وإن لم يحقق أكثر مما حقق، ولكن إن كان ينوي العيش على إرث تلك الأعوام الناجحة طيلة الربع القادم من القرن فإننا لن نفتقدك أنت أيضاً يا دييغو! لنأمل الآن أن تكون قصة الفيلسوف الفرنسي خير عبرة لمدربي ودارسي اللعبة، بنجاحاتها الباهرة الأولى وإخفاقاتها المريعة الأخيرة، كي لا يطول انتظار الوداع، وحتى لا تضيع قدسية مشاعره في زحام الملل والغضب.