شعار قسم ميدان

إدواردو غاليانو.. ماذا تعرف عن شاعر كأس العالم؟

ميدان - إدواردو غاليانو

تقول الحكاية أنه كل أربع سنوات علق الكاتب الأوروغوياني العظيم إدواردو غاليانو لافتة على بابه "مغلق من أجل كرة القدم"، ولم يخرج لمدة شهر حيث قضاه في مشاهدة مباريات كأس العالم جالساً في كرسيه المفضل وكاتباً عنه. كتب غاليانو -الذي تم تلقيبه بشاعر كرة القدم- كتاباً تحت عنوان "كرة القدم بين الشمس والظل" (Soccer in Sun and Shadow) كعاشق ومشجع وناقد اجتماعي للعبة في الوقت نفسه. لقد رفع الكتاب الذي نشر في عام 1995 مستوى الكتابة الأدبية حول كرة القدم؛ فكان بمثابة تحية من غاليانو لتلك الرياضة الزاخرة بالسياسة والعظمة والفساد والتنفيس.

  

في كأس العالم 2018 الذي تستضيفه روسيا ستكون الولايات المتحدة وإيطاليا غائبتان، وكذلك غاليانو الذي توفي بسرطان الرئة في عام 2015. لكنه يعيش من خلال كتاباته عن هذه الرياضة؛ بقراءة "كرة القدم بين الشمس والظل" اليوم يمكنك التواصل مع روح غاليانو، حيث يمكنك الاستماع إلى صوته القوي والمعطاء حياً ومليئاً بالعاطفة والسخط حول اللعبة الجميلة. كتب جاليانو لصحيفة واشنطن بوست في عام 2009: "كنت أريد من محبي القراءة أن يتخلصوا من خوفهم من كرة القدم، وأن يتخلص مشجعو كرة القدم من خوفهم من الكتب".

  

أحب غاليانو كرة القدم في طفولته لكنه لم يلعب بشكل جيد. أوضح في كتابه "كرة القدم بين الشمس والظل": "كنت سأفعل بيدي ما لم أتمكن من تحقيقه أبداً بقدمي". وهكذا رسم الرسوم الكاريكاتورية السياسية في سن المراهقة ليصبح صحفياً ومحرر صحيفة وناقداً اجتماعياً شهيراً فيما بعد. كتابه الرائد في عام 1971 بعنوان "الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية" تربع -على نحو غير مألوف- على قائمة الكتب الأكثر مبيعاً على موقع أمازون في عام 2009 بعد أن أعطى الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز نسخة منه إلى الرئيس باراك أوباما واصفاً الكتاب بأنه "نصب تذكاري في تاريخ أمريكا اللاتينية". (على الرغم من تأثيره، بدى غاليانو متخلياً عن الكتاب في وقت لاحق من حياته). في السبعينيات والثمانينيات، تم نفي غاليانو إلى الأرجنتين ثم أسبانيا على يد النظام العسكري اليميني الأوروغوياني. وخلال تلك الفترة، كتب معظم ثلاثيته التاريخية العبقري: "ذاكرة النار"، وهي عبارة عن رواية ملحمية تضم 500 عامٍ من الغزو والخرافة والتمرد ممزوجة بالفكاهة والقدح.

 

undefined

 

 

وباعتباره كاتباً أدبياً في الرياضة، فإن غاليانو شبيه بنورمان ميلر الذي وجد الشعر والسياسة في الملاكمة. لكن بينما كان يميل ميلر للقتال، مال غاليانو نحو الحب. كان أسلوب كتابته الفذ متمثلا في كتابة روايته في مقالات قصيرة -التي أطلق عليها "نوافذ القصة"- في مقتبسات موجزة من الأحداث الكبرى والأحداث الجارية العامة. استخدم أسلوب نوافذ القصة في كتابة "كرة القدم بين الشمس والظل" حيث يسرد الأحداث بتسلسل زمني عبر التاريخ الممزق لهذه الرياضة، منتقلاً من كرة جلدية صينية مملوءة بالقنب في عام 3000 قبل الميلاد إلى تقارير أخبارية لمباريات كأس العالم الحديثة. كما ظهر في كتابه كل من بيليه ودييغو مارادونا وفرانز بيكنباور كضيوف شرف في تسجيل أهداف مشهورة (أو سيئة السمعة).

  

أظهر غاليانو في كتابه كرة القدم متقاطعة مع تاريخ العالم، كما في كأس العالم 1934 الذي أقيم في إيطاليا بينيتو موسوليني: وصفها بأنها "عملية دعاية متقنة" احتفل خلالها المشجعون بانتصارات البلد بالتحيات الفاشية. ووضع التسلسل التاريخي لكرة القدم على خلفية ثقافية بما في ذلك ظهور أدولف هتلر وصعوده للحكم وعمليات السطو على البنوك التي قام بها الزوجان بوني وكلايد، والمسيرة الطويلة حيث أصبح ماو تسي تونغ زعيماً للشيوعيين. منذ ستينيات القرن الماضي، أدرج في كل فصل عن كأس العالم صوتاً مأساوياً عن التاريخ الذي لم يتغير: "كانت مصادر مطلعة في ميامي تعلن عن سقوط وشيك لفيديل كاسترو، فقد كانت مسألة ساعات فقط".

 

كان غاليانو -وهو ناقد اجتماعي غريزي- يرى كرة القدم كمعركة ضارية بين الخير والشر، وهي عبارة عن حرب مصمّمة فيها "11 رجلاً في سراويل قصيرة يمثلون سيفاً لحي أو مدينة أو دولة". في الملعب وفي المدرجات "تنتقل الكراهية القديمة والحب القديم من الأب إلى الابن لتدخل في القتال". الجذور المحلية متجذرة بعمق فتوحد وتقسم المشجعين والأمم كلها وفقاً لذلك. المشاركون في كرة القدم هم شخصيات نموذجية؛ حارس المرمى: "عندما يرتكب لاعب مخالفة، فإن الحارس هو الذي يعاقب: يتخلون عنه هناك أمام الشبكة الفارغة الضخمة لمواجهة جلاده وحده". أما الحكم: "يكرهه الجميع". بالنسبة للمدرب: "مهمته هي: منع الارتجال وتقييد الحرية وتعظيم إنتاجية اللاعبين". بالنسبة لغاليانو كان النضال من أجل السلطة في كل مكان. حول طرد مارادونا الأرجنتيني من كأس العالم 1994 بسبب وجود الإيفيدرين في بوله، قال الكاتب: "لقد ارتكب مارادونا خطيئة كونه الأفضل، وجريمة التحدث عن أشياء أراد القوي إبقاءها طي الكتمان، إضافة إلى جريمة اللعب أعسراً".

 

إدواردو غاليانو (رويترز)
إدواردو غاليانو (رويترز)

  

كرة القدم -برؤية غاليانو- ليست مجرد حرب بين فرق أو دول: إنها حرب بين الإنسانية والتكنوقراطية. لقد أطلق على نفسه اسم "متسول من أجل كرة قدم جيدة"، وفي السنوات اللاحقة وجد نفسه محبطاً من فرط الاحتراف في هذه الرياضة الذي "يلغي المتعة ويقتل الخيال ويحظر الجرأة". لقد رأى تأثير الشركات (مع شعاراتها المزخرفة على أزياء اللاعبين) وقوة المديرين التنفيذيين في التلفزيون لتحديد أين ومتى وكيف سيتم لعب كرة القدم". وقال إن مثل هذا التوحيد القياسي قد دفع اللاعبين إلى" الركض كثيراً والمخاطرة قليلاً". يمكن للقراء أن يسمعوا ازدياد حدة سخطه حيث كتب: "الجرأة ليست مربحة". على الرغم من أن السرطان منعه من الكتابة عن نهائيات كأس العالم 2014، إلا أن غاليانو شاهده في الوقت الذي خرج فيه البرازيليون إلى الشوارع للاحتجاج على الإنفاق الباهظ على الملاعب الجديدة بدلاً من التعليم والبنية التحتية. وفي بيان صدر قبل عام من البطولة، قال إن الشعب البرازيلي "قرر عدم السماح باستخدام رياضته كذريعة لإذلال الكثيرين وإثراء القلة".

 

لذلك غضب غاليانو عندما تم تعطيل اللعبة التكنوقراطية بواسطة "الوغد الوقح الذي يضع السيناريو جانباً ويلتزم بحماقة المراوغة عابراً جانب الخصم بأكمله، ماراً عن الحكم والحشد في المدرجات، وكل ذلك من أجل فرحة جسدية في معانقة مغامرة الحرية الممنوعة". رأى غاليانو "الوغد المتوحش" في الأرجنتيني ليونيل ميسي، وقال لصحيفة نيويورك تايمز في عام 2011 أن ميسي "يلعب كطفل يستمتع بالمراعي، يلعب من أجل متعة اللعب وليس لواجب الفوز". ذاك هو غاليانو؛ يذكّر القارئ بالحقيقة البسيطة بأن كرة القدم تكون في أفضل حالاتها عندما تجعل اللاعب والمشجع سعيدان.

 

ماذا كان ليقول غاليانو عن كأس العالم الحالي التي استضافها بلد (روسيا) يديرها رئيس (بوتين)؟ أو حول كأس 2022 الذي يقام في بلد صحراوي غير مشتهر بكرة القدم (قطر)، أو كأس 2026 التي تستضيفها ثلاثة بلدان في خضم حرب تجارية (أمريكا الشمالية)؟ من المؤكد أنه كان سيتم استفزازه إلى درجة عالية من الغضب. ولكن من المؤكد أنه كان سيبتهج بفرصة مباراة الجمعة الثانية التي تدور حول مواطنه أوروغواي ضد مصر وهي مباراة غنية بالأوغاد والأبطال الذين أحب أن يكتب عنها.

  undefined

 

بالنسبة للأوروغواي، هناك المهاجم الشيطاني لويس سواريز الذي حصل على كرة غانا بطريقة غير شرعية فسجل في مرماها في كأس العالم 2010، لتتأهل الأوروغواي إلى الدور نصف النهائي. دافع غاليانو -الذي يتخذ دوماً مواقف معاكسة- عن "تصرف الجنون الوطني" لسواريز، حيث اعتبره آثار مخلب تشاروا الروح القتالية التي قاتلت بها قبيلة تشاروا الأوروغواية المحتلين الأجانب. في كأس العالم 2014، اشتهر سواريز بعضّ الإيطالي جورجيو كيلليني، مما أدى إلى الكثير من السخرية وصناعة فتاحة زجاجات جديدة على شكل فم سواريز المفتوح. قد يكون فائز سواريز اليوم هو البطل المتواضع محمد صلاح، الذي رفع مصر إلى أول كأس عالم لها منذ 28 عاماً، وجميع ذلك بينما يقود ليفربول إلى نهائي دوري الأبطال.

 

من السهل تخيل شبح غاليانو وهو يجلس على الكرسي المفضل لمشاهدة هذه المباراة وقلبه مرتاح. كان هو الوغد الأدبي لكرة القدم، الذي كتب بحيوية ومرح وجرأة وشغف طفولي للقتال واللعب. على الرغم من أن غاليانو كان يستمتع بكل نهائيات لكأس العالم، إلا أنه شعر بالحزن. في خاتمة محدثة لطبعة 2013 من "كرة القدم بين الشمس والظل"، كتب عن الخسارة التي عاشها في نهاية دورة ألعاب كأس العالم لكرة القدم لعام 2010: أفتقد الاحتفال والحزن أيضاً، لأنه في بعض الأحيان تكون كرة القدم عبارة عن سرور مؤلم، حيث موسيقى النصر التي تضع الخاسرين على أنغام متراقصة جانباً فتبدو وكأنها صمت ساحر من ملعب فارغ حيث أحد المهزومين غير قادر على التحرك، ولا يزال يجلس في منتصف المدرجات الهائلة وحده.

____________________________________________________________________