شعار قسم ميدان

ليفربول.. النادي الذي يرفض أن يموت

midan - liverpool

أندية كرة القدم التي تمتلك تاريخا كبيرا وحاضرا فقيرا تشبه البلاد التي تمتلك حضارة قديمة وواقعا بائسا؛ فهذه البلاد يتحدثون فيها عن الماضي ويكررون الحديث لأن ما يجري فيها أقل أهمية من أن نتحدث عنه. أغلب الظن أن أحدا لم يلحظ ولم يهتم بمعرفة الحقيقة التي تقول إن نادي جنوى[1] كان بطلا للدوري الإيطالي 9 مرات، وإن عدد ألقابه فيه يساوي روما ولازيو ونابولي وفيورنتينا مجتمعين، لأن هذه المعلومة تعبر عن تاريخ لا يؤثر على الحاضر، مثل آثار الحضارات القديمة الموجودة في متاحف بلاد بائسة بلا حاضر. لكن جنوى قد مات كبطل، أما ليفربول الذي توقفت ألقابه المهمة منذ دوري 1990 لا يريد أن يموت.

     

النادي العريق واللعنات الثلاث

خلال السنوات الأخيرة لليفربول بعد رحيل رافا بينيتز، وتراجع مشاركات الريدز في دوري الأبطال، لم يخل التعليق على أي مباراة من ذكر 3 معلومات؛ الأولى أن ليفربول فاز بالدوري 18 مرة وكان صاحب الرقم القياسي، والثانية هي معلومة عن الأغنية الشهيرة للفريق، والثالثة هي ليلة إسطنبول والعودة الشهيرة أمام ميلان الإيطالي في 2005. معلومات لا تزيد على أن تكون اجترارا للماضي لأن الحاضر حينها لا ينبئ بأي أمل. ولا يخلو التعليق أيضا من التذكير بأن ليفربول فريق كبير، ولكن جنوى أيضا كان كبيرا، فلماذا لا يتحول بطل ميرسيسايد إلى واحد من أصحاب التاريخ الكبير المنتهي في المتاحف؟ ولماذا لم يتوقف الجميع عن اعتباره فريقا مهما رغم غياب الدوري مما يقارب العقود الثلاثة؟

الإجابة عن التساؤل السابق بسيطة؛ لأنها موجودة في المعلومات الثلاث، وكأنها لعنات تمنع النادي الذي كان كبيرا من الموت في سلام، وتمنع عن جماهيره تكرر الإحباط.

 

عندما تحقق الدوري 18 مرة

في السجالات[2] الجماهيرية الشهيرة بين جمهور ليفربول وجمهور مانشستر يونايتد، ظهرت تلك اللافتة الشهيرة "ارجعوا عندما تفوزوا بالدوري 18 مرة". وكانت اللافتة في مباراة ديربي موسم 1994، تُذكّر جماهير الريدز نفسها وتُذكّر جماهير الخصم بأن ليفربول هو حامل الرقم التاريخي لعدد مرات الفوز بالدوري، وأنه النادي الأفضل في الدوري وفي تاريخ البلاد. وكان رصيد اليونايتد حينها متوقفا عند 9 بطولات؛ أي نصف رقم الريدز. ومن المشهور أيضا أن سير أليكس فيرغسون أعلن بوضوح أن أمله عندما تولى قيادة اليونايتد هو أن يتجاوز بالفريق عدد بطولات ليفربول، وسخر منه الناس حينها.

     

undefined

  

حالة ليفربول كزعيم لأحد الدوريات بـ 18 لقبا، ثم خسارة هذه الزعامة لصالح فريق آخر، هي حالة لم تتكرر في أي دوري آخر أو مع أي نادٍ آخر في الدوريات الخمسة الكبرى في كرة القدم. واستمرت هذه الصدارة حتى موسم 2009 عندما عادل مانشستر هذا الرقم. ولذلك فإنه من الصعب أن نتعامل مع نادٍ بأي صفة أخرى غير صفة "النادي الكبير" وهو المتصدر تاريخيا حتى قرابة نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وأصبحت هذه الصدارة بمنزلة درع حماية من اعتبار ليفربول منتهيا محليا رغم مرور سنوات بغير تتويج.

ومن الطريف أن الديربي محل الحديث تقدم فيه مانشستر بثلاثة أهداف، واستطاع الريدز أن يعودوا في النتيجة إلى 3-3. وهو ما يذكرنا باللعنة الثانية.. ليلة إسطنبول!

     

ليلة إسطنبول

رغم كل هذه السنوات والعودة التاريخية[3] أمام ميلان 3-3 ثم الفوز بنهائي دوري الأبطال تبقى في نظر الكثيرين كأهم ريمونتادا في تاريخ البطولة وأوروبا. وكان لهذه العودة أثران في نفوس مشجعي اللعبة عامة ونفوس مشجعي الريدز خاصة، إذ كانت هي اللقب الخامس في تاريخ النادي واضعة إياه حينها في المركز الثالث أوروبيا من حيث عدد مرات الفوز؛ بعد ريال مدريد برصيد 9 حينها وميلان برصيد 7. وكان دلالة على أن ليفربول ما زال يمتلك القدرة على حصد الألقاب. أما في نفوس مشجعي الريدز فكانت هذه الليلة بمنزلة مجاز مستمر عن فكرة العودة.

   

كما لم ينسَ أحدٌ، بدأت هذه الليلة بتقدم لميلان بهدف مالديني في الدقيقة الأولى، وانتهى الشوط الأول بتقدم ميلان بثلاثية. وفي الشوط الثاني بدأ جيرارد بالتهديف، وفي 6 دقائق فقط أصبحت النتيجة 3-3، ثم فاز الريدز بضربات الترجيح. فكرة العودة رغم الصعوبات، والعودة من حيث لا يتوقع أحد أصبحت بمنزلة النبوءة التي ينتظرها المشجعون في التحقق. ينتظرون أن يعود ليفربول إلى كامل قوته تاريخيا، وأن الدقائق الـ 120 في إسطنبول هي تلخيص لما يحدث في العقود الثلاثة الأخيرة، وسوف يعود أصحاب القمصان الحمراء في النهاية بعد أن يتوقع الجميع موتهم مثلما عادوا هناك في ملعب أتاتورك في إسطنبول.

     

undefined

  

أضف إلى ذلك أن الفريق بعدها بقيادة بينيتز أوشك على تحقيق اللقب السادس في 2007، وأنه أوشك على تحقيق دوري 2009. فأصبحت العودة الأوروبية والوشوك على تكرارها محليا وأوروبيا بمنزلة درع آخر يُذكّر الجميع بأن العودة قريبة. وكلما يوشك ليفربول على الاستسلام لواقع أنه قد غاب عن الصدارة، يوشك على الفوز بلقب فيعود الأمل مجددا. وهذا ما تكرر في 2014 عندما أوشك ليفربول على ملامسة الحلم لولا أن الأرض انزلقت تحت أقدام القائد.. ستيفن جيرارد[4].

  

القائد والأغنية الجميلة

"إنك لن تمضي وحيدا" أكثر من مجرد أغنية، إنها مانفستو تشجيع ليفربول وفخ التورط والانتظار الآمل. تبدأ كلمات الأغنية بالحديث عن السير في العاصفة، ورفع الرأس فيها مهما كانت الصعوبة، ومهما ضاعت الأحلام، لأن النهاية هي صفحة السماء المشرقة وأغنية جميلة ينشدها طائر أسطوري. شعار ليفربول هو طائر الليفر؛ المعادل الإنجليزي للعنقاء التي لا تموت ولكنها تحترق وتخرج من الرماد عنقاء جديدة. الأغنية التي اعتنقها ليفربول والشعار يدفعون بقوة إلى أن تشجيع هذا النادي يقوم بشكل أساسي على مسألة التحمل والمضي قُدما من أجل نهاية سعيدة. وهذه الكلمات تشبه نبوءة تخبرك بأن سنوات يوسف العجاف سوف تأتي أولا قبل أن تأتي السنوات السِمان، وأن تشجيع ليفربول هو نوع من الإيمان يجب أن تُظهر أولا قدرتك على تحمل ثمنه بأن تنتظر وتصدق بأن القادم أفضل.

     

   

ثم جاء دور ستيفن جيرارد ليكون تمثيلا لهذه النبوءة. جيرارد الذي انتظر، وهو أحد أفضل لاعبي الوسط في جيله، ورفض المغادرة. جيرارد الذي كاد أن يقع في إغراء الرحيل لتشلسي لكنه تراجع، كأي مؤمن تصيبه لحظات الشك ثم يعدل عنها ويعود إلى إيمانه. كان الرحيل إلى نادٍ أكبر أو أوفر حظا في التتويج هو الخيار دائم الحضور لفتى ميرسيسايد الأول، لكنه قاوم وانتظر لأن النبوءة تقول ذلك. هذه النبوءة/الأغنية تمثل تهديدا يمنعك من اعتبار ليفربول فريقا قد انتهى لأنك ستظهر كأحمق حينما تتحقق في النهاية، ويعود إلى التتويج. وكانت الأغنية هي لعنة أخرى يكررها المعلقون في حديثهم خلال المباريات بينما ليفربول يقدم مواسم كارثية مع روي هودسون ورودجرز وحتى الملك دالغليش. ورغم كل شيء فإن جيرارد هنا، الرجل الوحيد الباقي من إسطنبول هنا. لكن بينيتز رحل، ثم رحل جيرارد، ولم يتحقق الحلم. واستمرت الأعوام بين 1990 إلى 2015 بلا أي تتويج إلا مرة وحيدة.

   

الحل رومانسي

الأسباب التي سبقت والتي تم الاعتماد عليها في اعتبار ليفربول ناديا كبيرا أثبتت أنها غير كافية لاستمرار تشجيع الفريق، وفي تلك اللحظة بالتحديد جاء يورغين كلوب حاملا إرثه الشخصي شديد الرومانسة. ولكن لِمَ تنجح رومانسية الألماني بينما فشلت رومانسية الأغاني في جلب الألقاب؟

  

والإجابة هي أن رومانسية كلوب رومانسية حقيقية، بمعنى أنها تمتلك عذوبة القناعات مثلما تمتلك عنف القتال من أجل الانتصار، وهذا تحديدا هو ما افتقده الفريق الأحمر طيلة سنوات، خاصة بعد رحيل رافا. ومع قدوم كلوب خف الحديث عن الأسباب الثلاثة، وذلك ببساطة لأن الإنسان إما أن يتحدث وإما أن يفعل. وبدلا من التحدث عن التاريخ، فليفربول الآن في طريقه لاستعادة التاريخ، وبدلا من الحديث عن الأغنية، فإن ليفربول يحقق كلماتها بصورة حرفية ويمضي قُدما من أجل النهاية السعيدة، وبدلا من الحديث عن ليلة إسطنبول، كرر كلوب العودة التاريخية أمام دورتموند في مباراة[5] الـ 4-3.

      

undefined

اللعنات الثلاث كانت لعنات لأنها توقفت عند حدود الكلام الذي لا ينجح إلا في تسكين الأمل، ويكبّل عن المضي نحو الفعل. وإن بدأ الفعل، توقف الكلام.

       

طالما شعر مشجعو ليفربول بأن جيرارد هو المُنتظَر أو الموعود الذي اختارته الأقدار كي يعود شعار العنقاء إلى منصات التتويج. ولكن ربما، ربما كان ذلك اللاعب العظيم هو الشخص الذي أبقى ليفربول على قيد الحياة، وكان هو ليفربول الذي يرفض أن يموت، وربما، ربما يكون كلوب هو الموعود الحقيقي باستعادة المجد. وها نحن ننتظر تحقق النبوءة، فإما أن يفعلها الألماني، وإما ربما، ربما يموت ليفربول إلى غير رجعة.