شعار قسم ميدان

حكايات أوليمبية.. عن الأبطال الوحيدين والأشياء الجميلة

ميدان - Torvill and Dean

يختلف الحال كثيرا بين الألعاب الفردية والجماعية، فالفشل والنجاح في مسابقات الفِرق ربما لا يستطيع التعبير بدقة عن كفاءة كل فرد على حدة، قد يلقّب الفريق بالفائز رغم سوء أداء بعض عناصره، وقد يلقّب بالمهزوم رغم جودة أداء بعض لاعبيه، ولكن في الألعاب الفردية، إما أن تفوز وحيدا وإما أن تخسر وحيدا.

  

الحكاية السابعة

يقترن اسم البرازيل الرياضي عبر تاريخها بفرق كرة القدم، والإنجازات العديدة لمنتخبات الكرة الطائرة كذلك. ومن البديهي أن يتجه الطموح الرياضي لأي شاب هناك إلى إحدى هذه الألعاب، وهو ما حدث في حالة أديمار دا سيلفا الذي أراد أن يصبح لاعبا لكرة القدم في أربعينيات القرن العشرين بنادي ساوباولو.

  

تغيّر طموح دا سيلفا عندما قابل مدرب ألعاب القوى الألماني دييتريك جيرنير، وأقنعه باحتراف رياضة الوثب؛ بنوعيها الطويل والثلاثي، وجاءت خطوته الأولى في أوليمبياد لندن الصيفية 1948، وحل في المركز الثامن بمسابقات الوثب الثلاثي. لم تكن بداية عظيمة لكنها كانت البداية.

 

في دوريتي هيلسنكي 1952 وميلبورن 1956 اختلف الوضع، واستطاع البرازيلي الفوز بميداليات الذهب لمرتين متتاليتين، ليحرز بذلك الذهبية الأولى في تاريخ بلاده، وليكون أول رياضي برازيلي يحرز ميدالية ذهبية في دورتين متتاليتين، مما دفع نادي ساوباولو لكرة القدم إلى تخليد اسم لاعبه السابق بنجمتين فوق شعار النادي على قميصه. وفي عام 1955 حقق داسيلفا طموحه القديم في كرة القدم فانضم إلى نادي فاسكو داجاما، ثم شارك في فيلم سينمائي عام 1959 فاز بالسعفة الذهبية بمهرجان كان، وأوسكار أفضل فيلم أجنبي!

 

 

ألعاب القوى أهدت أديمار دا سيلفا طريقا إلى كل الإنجازات الممكنة، وبدلا من حلمه القديم تحققت له أحلام عديدة أخرى، لكن الإنجاز الأكبر في حياة الرياضي البرازيلي كانت قدرته على تحطيم الرقم القياسي للوثب الثلاثي أربع مرات متتالية في مسابقة واحدة، في يوم واحد بأوليمبياد هلسنكي؛ 16.05 ثم 16.09 ثم 16.12 ثم 16.22 مترا. قبل أن يحقق رقمه الأفضل عام 1955 ويصل إلى مسافة 16.56 مترا.

   

الحكاية الثامنة

إن كنتَ عزيزي القارئ لا تعرف لوكسمبورغ، فلا غرابة في ذلك، فهي أحد البلدان الأوروبية الصغيرة من حيث المساحة والعدد، عدد سكانها لا يتجاوز 250 ألف نسمة، ومساحتها يمكن قطعها سيرا في أقل من يوم واحد. كيف يمكن إذن لدولة بهذا الحجم أن يكون لها ظهور رياضي واضح؟ من هنا تأتي عظمة إنجاز الفوز بميدالية ذهبية أوليمبية لبلد مثلها، وهو ما حدث في أوليمبياد هيلسنكي 1952 عندما استطاع العداء جوسي بارتيل تحقيق هذا الإنجاز.

  

دخل بارتيل سباق 1500 متر وهو بعيد تماما عن التوقعات، واقتصرت خبرته في المجال على العدو أثناء خدمته العسكرية، ثم المركز التاسع في سباق 1500 متر بأوليمبياد لندن 1948. وذهبت التوقعات في هلسنكي حينها نحو العداء الألماني فيرنر لوج، وأميركي آخر صاعد اسمه بوب ماكميلان، ولكن قبل نهاية السباق بأمتار قليلة، تقدم بارتيل، وأمام أعين الجماهير والمعلقين الرياضيين استطاع ذلك المغمور الفوز بالميدالية الذهبية الوحيدة في تاريخ بلاده حتى الآن، وصنع رقما قياسيا جديدا لسباق الـ 1500 متر حينها!

  

 

وكي تدرك عزيزي القارئ أن عدم معرفتك بإمارة لوكسمبورغ ليس غريبا، فدعني أخبرك أن اللجنة المنظمة للأوليمبياد حينها لم يكن لديها تسجيل للنشيد الوطني اللوكسمبرغي! فقد جاء هذا العداء من حيث لم يتوقع أحد، ليكون السبب الوحيد حتى الآن في رفع علم هذه الإمارة الضئيلة في الحدث الأوليمبي.

  

الحكاية التاسعة

عرفت أوليمبياد نيوميكسيكو 1968 تحقيق رقم أوليمبي تاريخيّ، لم يُكسر حتى الآن رغم مرور ما يقارب نصف القرن.

 

في المسابقة النهائية لرياضة الوثب العالي في هذا الدورة، اجتمعت أربعة من أفضل الأسماء في اللعبة حينها، وهم؛ رالف بوسطن وإيغور تير أوفناسيان، البطلان اللذان كسرا ثمانية أرقام عالمية في الوثب الطويل خلال حقبة الستينيات، ولين دايفس، حامل الميدالية الذهبية السابق، ومعهم الشاب الصغير بعمر 22 سنة آن ذاك بوب بيمون.

 

عرف بيمون الوثب الطويل وهو طفل بمدرسة الإصلاحية في نيويورك، وفي الخامسة عشرة من عمره وصل إلى رقم 7.34 أمتار، وهو ما يقارب المسافة بين قائمي مرمى كرة القدم، ووصل إلى رقم 8.33 قبل خوض أوليمبياد 68. لكن هذه الأرقام لم تستطع تخفيف الضغط عن الرياضي الشاب في مواجهة أبطال اللعبة، فتأهل إلى المسابقة النهائية بصعوبة، بعد الفشل في محاولتين من أصل ثلاث بالأدوار التمهيدية، والنجاح في واحدة برقم 8.19، أي أقل من رقمه الشخصي!

      

في المسابقة النهائية لم يكن الشاب هو المرشح الأول أمام هؤلاء العمالقة، ولكن في قفزته الأولى نجح، نجح نجاحا شديدا، نجح إلى الدرجة التي جعلت قفزته أبعد من المقياس الذي يحدد طول القفزة. كان حرفيا "out of scale"، وتوقفت المنافسة لمدة 20 دقيقة لتحديد المسافة التي وصل إليها بيمون، ليُعلن رقمه في النهاية 8.90 أمتار! لقد حطم الرقم القياسي بمسافة تقترب من 55 سم، وحسم الذهب في محاولته الأولى! مخالفا كل التوقعات.

  

  

الرياضة في أحد تعريفاتها هي القدرة على استخدام البدن بكفاءة أكبر، ويتم قياس هذه الكفاءة بصورة رقمية. كل كرة تعبر الخط، في ألعاب مثل كرة القدم أو اليد أو التنس وغيرهم، تُحتَسب بنقطة. وفي رياضات مثل رفع الأثقال أو رمي القرص أو الجري، تُقاس قيم أخرى مثل الوزن والمسافة والزمن. لكن هناك رياضات مختلفة مثل الجمباز أو الرقص على الجليد، والتي يستند التقييم فيها إلى حركات بدنية متقنة، تخرج للمشاهدين صورة جميلة، وهنا مكمن التعقيد، حيث يبقى تعريف الجمال أمرا نسبيا يختلف بين الناس.

 

في العقود الأخيرة، وفي محاولة لإضفاء موضوعية أكبر على تقييم هذا النوع من الرياضات، تطورت قواعد التحكيم، وصارت الكفاءة البدنية هي العنصر الأهم. لكن الأداءات الخالدة في التاريخ الأوليمبي لم تكتف فقط بهذا العنصر، واتصفت دائما بكونها صورا شديدة الجمال.

 

الحكاية العاشرة 

في أوليمبياد لندن 2012، قيل إن السباح الأميركي الأسطوري مايكل فيليبس قد استطاع كسر الرقم الصامد منذ نصف قرن عندما فاز بالميدالية رقم 19، لأن قبل فيليبس كان هناك لاعبة الجمباز السوفيتية لاريسا لاتينينا، صاحبة رقم 18 ميدالية.

 

بدأ ظهور لاتينينا أوليمبيًّا في سن متأخرة نسبيا، فعندما شاركت بدورة ميلبورن عام 1956 كانت في الثانية والعشرين من عمرها، وفازت بمجموع 5 ميداليات، تتوزع بين المتوازي والحصان، لكن مجال التميّز الحقيقيّ للسوفيتية كان في أداءات الجمباز الأرضي (floor exercise)، وهي أحد أكثر أشكال الجمباز التي تعتمد على الجودة الشكلية للحركات. وهنا تظهر معلومة مهمة عنها، فقد بدأت حياتها كراقصة باليه، واستطاعت أن تحوّل قدرتها في هذا الشكل الفني التعبيري إلى رياضة.

  

 

بعد 4 سنوات، في روما 1960، استطاعت لاتينينا قيادة فريق الجمباز السوفيتي إلى الفوز بمجموع ميداليات الأوليمبياد، وفازت للمرة الثانية على التوالي بذهبية مسابقة الجمباز الأرضي. ولكن في طوكيو 1964، أصبحت لاتينينا "عجوزا" ثلاثينية بقواعد العُمر في لعبة الجمباز، وصارت منافستها محل شك، وهو المأزق العمريّ الذي يواجهه كل رياضي في المراحل الأخيرة من مسيرته، ويعتمد النجاح فيها على قدرته في استخدام خبراته ومجالات تميزه. وقد نجحت في ذلك، وفازت بميداليتين فضيتين وميداليتين برونزيتين، وميدالية ذهبية جماعية في الفريق. لكنها احتاجت إلى ذهبية فردية تكون خاتمة مسيرتها، فاعتمدت على تميزها في مجال الجمباز الأرضي، وخبرتها السابقة كراقصة باليه، واستطاعت حصد الميدالية بأداء ختامي لا يُنسى.

 

الحكاية الحادية عشرة

في بقية الرياضات يمكن معرفة الرقم القياسي، ويصير طموح المتنافسين هو كسره. ولكن هنا تختلف الحالة؛ فالرقم القياسي في الجمباز هو علامة الـ 10/10 الكاملة، مما يعني جمالا لا يشوبه أي نقص، ويعني كذلك إجماع أفراد لجنة التحكيم على هذا الرأي. وهذه الحالة المستحيلة أوشكت على التحقق في ميونخ 1972 مع السوفيتية أولجا كوربت، صاحبة حركة "شقلبة كوربت" الممنوعة أوليمبيًّا منذ عام 2009 لخطورتها. لكن تحقق العلامة الكاملة لم يعرفه تاريخ المنافسة الأوليمبية إلا مرة واحدة، وكان بعدها بأربع سنوات.

 

في أوليمبياد 1976 جاء فريق الجمباز السوفيتي إلى مونتريال مستندا إلى تاريخ طويل من الميداليات، وسيطرة كاملة على منصات التتويج في اللعبة. وكانت فكرة ظهور فتاة أخرى من فريق منافس أقرب إلى الأمنيات المستحيلة. لكن الفريق الروماني امتلك بنتا صغيرة تُدعى ناديا كومنتش، بدأت التدريب في سن السادسة، وفي الثامنة اشتركت بالمسابقة الوطنية للجمباز في رومانيا، وفي التاسعة أصبحت أصغر بطلة في تاريخ بلادها، وفي 1976 وفي الرابعة عشرة من عمرها أحرزت الميدالية الذهبية في مونتريال، وأصبحت أول وآخر متنافس في تاريخ الجمباز الأوليمبي يستطيع الحصول على تقييم 10/10.

  

  

في ذلك اليوم ظهر تقييم متسابقة الاتحاد السوفيتي على لوحة النتائج 9.90، أما ناديا التي كان تقييمها 10.00، لم تستطع لوحة الأرقام عرضه لأنها لا تحتوي إلا على ثلاث خانات فقط، فظهرت علامة 1.00 لتعلن عن أول مشهد كامل الجمال بلا نقص في تاريخ اللعبة.

 

الحكاية الثانية عشرة

في المسابقة الختامية للرقص على الجليد في أوليمبياد 1984 بسراييفو، بلغت مشاهدة التلفيزيون البريطاني الناقل للحدث 24 مليون مشاهدة، أي ما يعادل نصف عدد سكان المملكة حينها.

 

يُقال إن المشاهدين وجمهور حلبة الرقص ولجنة الحكام وعمال النظافة وقفوا يصفقون للفائزين البريطانيين، لأنهما قدما أعظم أداء ممكن على موسيقى معزوفة بوليرو للموسيقار الفرنسي موريس ريفل. يُقال إن لجنة الحكام المكونة من 9 أفراد قد أعطت 5.9/6 كتقييم للأداء الحركي لهذه الرقصة، و6/6 للأداء الفنيّ، وهو أعلى تقييم ممكن في هذه المنافسة.

  

 

يُقال إن رقصة "روميو وجولييت" تلك، التي أدّاها الفائزان البريطانيان جين تروفيل وكريستوفر دين، هي أعظم رقصة في التاريخ الأوليمبي الحديث!