شعار قسم ميدان

ليفربول وباريس.. صلاح وكلوب أمام المرآة

ميدان - ليفربول صلاح وكلوب

قمة الجولة الأولى لمجموعات الأبطال على ملعب أنفيلد، وصيف النسخة الماضية يهزم المرشح الدائم -دون جدوى- بثلاثة أهداف مقابل هدفين، في نتيجة لا تعكس السير الحقيقي للقاء. "من يهدر يستقبل"، نوع من أنواع العدالة الشعرية في عالم كرة القدم، ولكن خروج باريس سان جيرمان بتلك النقطة كان شيئاً يمكن وصفه بأي مصطلح في الكوكب سوى "العدالة".

   

يمكنك أن تتعاطف مع الطرف الأضعف إن اقتنص شيئاً من تلك المباريات بعدد أقل من المحاولات، ولكن مهما كانت الغيابات، لا يبدو فريقاً أنفق 400 مليون يورو على زوج من اللاعبين، مطابقاً لوصف "الأضعف" أينما نظرت إلى الأمر برمته. الواقع أن باريس تعرض لهزيمة فنية وتكتيكية أكبر بمراحل من فارق الهدف.

  

تشكيل الفريقين وتقييم اللاعبين  (هوسكورد)
تشكيل الفريقين وتقييم اللاعبين  (هوسكورد)

 

المرآة

4-3-3 معدلة خصيصاً لمواجهة الخصم، ضد 4-3-3 تغلب عليها الاضطرارية. مدرب يحب الضغط الأمامي ويكره الاستحواذ ضد مدرب يحب الأمرين، أولهما فرض ما يريده لأغلب فترات المباراة، بينما فقد ثانيهما هويته مُجبراً، تارة تحت وطأة غياب ماركو فيراتي، وتارة أخرى محكوماً بسيناريو المباراة. فقد توخيل في تلك الليلة تكامل الوسط، لتنقسم المهام بين ماركينيوس المنقول من قلب الدفاع إلى الارتكاز الدفاعي، وثنائية رابيو ودي ماريا المتحركة بين العمق والوسط. الأرجنتيني ليس غريباً عن هذا المركز، فهو بالفعل قد قدَّم موسماً عظيماً مع ريال مدريد في هذا الدور، وهو أيضاً المتنفس الوحيد المتبقي له في ظل سطوة مبابي ونيمار على مراكزه الأصلية، ولكن في تلك الليلة لم يثبت هذا الحل أي فعالية على الإطلاق.

 

بكلمات أخرى، لم يؤت أُكله هجومياً أو دفاعياً، دقة تمرير بلغت 90% ولكن صفر من التمريرات المفتاحية، محاولتين ناجحتين للتدخل من أصل 6، الأكثر تعرضاً للمراوغة (4 مرات) بفارق 4 أضعاف عن أي من أقرب ملاحقيه. أما عن ماركينيوس، فما ربطه بالانتقال لبرشلونة على مر الأعوام كان جودة تمريراته كمدافع، ولكن التمركز في هذا الدور وبناء اللعب من منتصف الدائرة هي أمور لم يسبق تواجدها على قائمة مميزاته.

   

النتيجة أن الرسم التكتيكي الذي بدأ به توخيل لم يكن يصلح سوى لأداء وظيفة واحدة، الصمود أمام ضغط وتقدم ليفربول حتى يتم افتكاك الكرة ومن ثم نقلها بسرعة إلى الأطراف الهجومية المرعبة في مواقع صالحة للتهديد، وهنا انهار توخيل تحت ثقل أفكاره واستعدادات خصمه في آن واحد: باريس لم يستحوذ بشكل جيد ولم ينقل الكرة بالسرعة الملائمة، بينما غرقت مفاتيح لعبه بشكل شبه كامل في دوامة وسط الريدز المتكاملة.

 

التوزيع المتناسق للأدوار في وسط ليفربول ضمن قيام الجميع بكل شيء عوضاً عن أداء كل فرد لمهمته بشكل مستقل، صحيح أن نابي كيتا كان ليصبح أفيد في مسألة الربط بين الخطوط والسيطرة على الكرة ونسق المباراة بشكل أكبر، ولكن من قال إن كلوب كان يأبه لذلك من الأساس؟ يورجن يأخذ الاستحواذ اضطرارياً، فيما عدا ذلك فهو لا يريد رؤية الكرة إلا وفريقه يفتكها في منتصف ملعب الخصم ويحولها لهجمة سريعة خطرة وفقاً لنصوص ضغطه العكسي التقليدي.

 

مضحياً بتلك المميزات أطلق المدرب الألماني العنان لوحش يُدعى جيمس ميلنر، الرجل الذي جعل نيمار يعيش ليلة بائسة للغاية، مراوغتين ناجحتين من أصل 7 للبرازيلي مقابل 5 تدخلات ناجحة من أصل 6 للإنجليزي، 2 منهم في نصف ملعب الخصم. ليفربول إجمالاً أنتج ثلث تدخلاته الناجحة في منتصف ملعب الخصم (6 من 18)، بينما لم يحصل باريس الأليف سوى على واحدة من أصل 14.

   

خريطة تدخلات الفريقين  (هوسكورد)
خريطة تدخلات الفريقين  (هوسكورد)
وجهاً لوجه

تحت هذا الحصار وضع توخيل الكثير من الآمال على أظهرته لإسعاف أجنحته الهجومية، وبالفعل كان هذا الجانب الوحيد الذي أظهر به باريس نوعاً من أنواع الإزعاج، أرنولد وروبرتسون خاضا "منافسة حقيقية" -على حد تعبير دانييل ستوريدج- في مواجهة مونييه وبيرنات، وكان لهذا الرباعي الكثير من الأقوال الفاصلة في سير هذه الموقعة، روبرتسون صنع الهدف الأول لفريقه ونظيره في شباك فريقه الذي سجله مونييه.

 

وبينما نجح أرنولد في 5 محاولات للتدخل من أصل 6 مظهراً المزيد من الصلابة في الجبهة المواجهة لنيمار ودي ماريا، كادت هفوة منه أن تقلب الأمور مبكراً لصالح باريس. وبينما نجح بيرنات في 3 تدخلات من أصل 4، تبرع الإسباني بارتكاب ركلة جزاء جعلت النتيجة 2-0.

 

ساهم أرنولد وروبرتسون بتمريرة مفتاحية لكل منهما، بينما أخفق بيرنات ومونييه في الصناعة، في الحقيقة ونحو المزيد من الفزع، فشل جميع لاعبي باريس في خلق الفرص عدا نيمار صاحب التمريرات الأربعة و"أسيست" الهدف الثاني، لأن كل شيء لسبب أو لآخر يمر من خلاله، وعليه لم يكن من الغريب أن نرى ملعب كلوب مائلاً إلى اليمين بهذا العنف لمجابهته ومحاولة عزله عن شريكيه، خاصةً مبابي الذي كان بمقدوره الاستفادة من التراجع النسبي في مستوى روبرتسون بعد هفوة الهدف، ولكنه في الوقت ذاته كان يواجه تراجعه الصارم والتزامه الشديد بواجباته الدفاعية، الأمر الذي يظهره الفارق الكاسح في متوسط التمركز بينه وبين أرنولد المنطلق.

   

متوسط التمركز: ليفربول يساراً باللون البرتقالي  (هوسكورد)
متوسط التمركز: ليفربول يساراً باللون البرتقالي  (هوسكورد)

   

كل تلك العوامل وصلت بنا إلى نتيجة واحدة: منظومة باريس الهجومية افتقرت للخطورة في الشوط الأول، قبل وفاتها في الشوط الثاني، فريق العاصمة الفرنسي خلق 7 محاولات (4 على المرمى في الشوط الأول)، وهو الرقم الذي خُسفت به الأرض في الشوط الثاني: محاولتين فقط، واحدة على المرمى أتى منها الهدف المعاكس تماماً للسير. توماس توخيل العاشق للهجوم لم يستطع إبقاء الكرة في ثلث الخصم الدفاعي لأكثر من 14%! بينما قضت الكرة في ثلثه الدفاعي 40% من وقت المباراة، بفارق 6% فقط عن الثلث الأوسط.

  

مناطق الحركة عبر أثلاث الملعب  (هوسكورد)
مناطق الحركة عبر أثلاث الملعب  (هوسكورد)

   

على الطريق..

رأينا في تلك المباراة وجهاً مغايراً لباريس الدوري الفرنسي، فالمستحوذ والمبادر طوال الوقت بالقوة الجبرية تحول للعب دور الطرف الأضعف في مباراة الليلة، الأمر ليس فقط غير معتاد بالنسبة لباريس ولتوخيل، فمن ناحية لا يوجد خصم في فرنسا يصلح لتجربة الدفاع والارتداد أمامه، أو بالأحرى لا يوجد خصم في فرنسا من الأساس، ومن ناحية أخرى لا يملك باريس ذكريات طيبة مع الارتكان للدفاع بوجه عام، عن كابوس الثامن من مارس نتحدث.. هذا ما يحدث في فرنسا كل عام، باريس الذي يملك لاعباً بقيمة عدد من أندية الدوري الفرنسي مجتمعين، يواصل دهس الخصوم الافتراضيين الواحد تلو الآخر، قبل أن يكتشف أن ضعف الاحتكاك هو واحد من أهم عوامل افتضاح أمره أمام كبار أوروبا كل عام.

 

على النقيض حملت أرقام ليفربول الهجومية أخبار جيدة من حيث الغزارة وخلق الفرص وتوزيعها على جميع أطراف الفريق تقديساً للتنافر بين كلوب وفكرة "صانع الألعاب الحصري"، تجاورها أخبار سيئة للغاية من حيث النجاعة وقتل المباريات. صحيح أن ليفربول بات أذكى في توزيع جهوده على فترات المباراة عوضاً عن انهياره المتكرر في ربع الساعة الأخير، إلا أنه كاد يمنح باريس تعادلاً غير مستحق على الإطلاق، والشكر للإخفاق في إنهاء ما أتى "ذو العين الواحدة" لإنهائه.

 

سمعتم الكثير بالطبع عن أزمة محمد صلاح وساديو ماني، لسنا بصدد المزيد من الخوض فيها، ولكن أياً كانت المشكلة فهي يجب أن تنتهي وعلى الفور قبل أن تطيح بكامل موسم ليفربول. ماني قدم موسماً جيداً للغاية، ولكن صلاح قدم موسماً استثنائياً، وها هو ينهار تحت ثقل نجاحات الماضي والقتال على أكثر من جبهة في آن واحد. الوسيلة الأسهل لكسر تلك الضغوط هي تسجيل الأهداف، وهو ما لم ينجح به المصري بل تسببت تمريرته الخاطئة بهدف تعادل الضيوف، ليخرج صلاح على الفور ويأتي هدف الفوز، بينما ينفث هو عن غضبه عوضاً عن الاحتفال بالفوز في الوقت القاتل..

 

الأمر ليس بالضرورة كما قد يصوره البعض بأن مشاعر الغيرة قد تمكنت من الجميع، فمن الأسهل الافتراض بأن غضب صلاح كان موجهاً ضد مباراته السيئة ليس إلا.. من السهل أن تكون في عباءته حين تبقى الأمور وردية، ولكن حين تدير الكرة وجهها القبيح يقف اللاعب الناجح في موضع لا يُحسد عليه إطلاقاً. الكل يمر بانكسارات فنية ونفسية في المستوى، حتى ميسي نفسه لديه أيامه السيئة، ولكن الفارق الحاسم في تحول اللاعب المميز إلى لاعب عظيم يكمن في صلابة العقلية والقدرة على النهوض بعد التعثر.. وحين يتعلق الأمر بتلك المقومات، فالكل يعرف أن صلاح الذي خرج من إنجلترا باحثاً عن فرصة لم يحصل عليها، عاد إليها هدافاً تاريخياً في موسم واحد.. الصبر فقط، لا أكثر ولا أقل.

المصدر : الجزيرة