شعار قسم ميدان

كرة القدم.. جريمة ملكية وحرام عند الكنيسة وليست للنساء

ميدان - كرة القدم النسائية
استمع للتقرير

   

تخيل أنك تتحدث مع أصدقائك من أجل تنظيم لعب كرة قدم، أو تنادي عليهم من أسفل البناية كي تلعبوا كرة القدم في الشارع. تخيّل ذلك وتخيّل أنك، بمقاييس القرن الرابع عشر في إنجلترا، كنت ترتكب جريمة تخالف المرسوم الملكي، وتخالف أوامر الكنيسة!

 

مرسوم ملكي

أصدر عمدة لندن قرارا يحظر لعب كرة القدم عام 1314، واعتُبر من يخالف هذا القرار مطلوبا للعدالة، واضعا نفسه أمام احتمالات دخول السجن. وصدر مرسوم ملكي من الملك إدوارد الثاني يحظر لعب كرة القدم في شوارع لندن، وجاء فيه: "بسبب الضوضاء الكبيرة في المدينة، التي يسببها الاحتشاد حول تلك الكرات الكبيرة، والتي قد تخرج منها الشياطين لا قدّر الرب، فقد قررنا ومنعنا، باسم الملك، هذه اللعبة. ويعرض نفسه للسجن من يمارسها مستقبلا في هذه المدينة".[1]

   

وبعد ذلك المرسوم بأعوام قليلة بدأت حرب الـ 100 عام بين إنجلترا وفرنسا، وتزامن معه تفشي الطاعون (الداء الأسود) في البلاد. وبتفشي المرض، خسر الجيش الإنجليزي أعدادا كبيرة من رماة الأسهم. ووجد البرلمان الإنجليزي حينها أن كرة القدم تمثل أحد أشكال الإلهاء التي تصرف الناس عن التدرب على القوس والأسهم، وبإيعاز منهم صدر مرسوم ملكيّ يقول فيه الملك إدوارد الثالث إن على كل رجل صحيح الجسد أن يتدرب كي يكون راميا، وأن يبتعد عن لعب كرة القدم التي تؤخره عن واجبه هذا نحو بلاده. وأصبحت ممارسة كرة القدم جريمة في إنجلترا كلها. ولم يتوقف الأمر على الملك إدوارد، بل وافق على استمرار القرار عدد ممن خلفوه ملوكا لإنجلترا. [2]

  

    undefined

  

وإضافة إلى ذلك فقد رأى الملك حينها أن كرة القدم أصبحت بمنزلة حرب مستمرة بين القرى وبعضها، إذ كانت كل قرية تجد في كرة القدم مناسبة للقتال مع جيرانها. وتسببت اللعبة في العديد من الإصابات القاتلة أو الموت في بعض الأحيان، خاصة وأن شكل كرة القدم حينها كان مختلفا عن أيامنا الحالية؛ فرغم وجود كرة ومرميين فإن حجم الملعب كان يمكن أن يمتد لمئات الأمتار، والمشاركون في المباراة قد يبلغون المئات، وكل فريق يريد أن يسكن الكرة في مرمى الفريق الآخر، أو بالأحرى يريد أن يبلغ مرمى القرية الأخرى، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى اقتتال بين هؤلاء المئات، وفي بعض الأحيان قد يتحمس بعض الشباب من إحدى القريتين ويلقون بمثانة خنزير على نوافذ كنيسة القرية المجاورة.[3]

 

امتدت أوامر حظر كرة القدم في تلك الحقبة، فأصدر ملك اسكتلندا أمرا بحظرها في بلاده. وفي أثناء حرب الـ 100 عام، وعلى خُطى ملك إنجلترا، أصدر الملك الفرنسي تشارل الخامس مرسوما بمنع كرة القدم، ولكن الكنيسة الفرنسية سبقت الإنجليزية في معاداة كرة القدم!

 

حرام عند الكنيسة

في منتصف القرن الخامس عشر قامت كنيسة الرومان كاثوليك الفرنسية بفرض غرامات على بعض لاعبي كرة القدم، ووصفتها[4] قائلة: "إن هذه اللعبة الخطيرة والخبيثة يجب أن تُمنع، لأنها، تحت ستار المرح، تراكم في القلوب مشاعر الكراهية والعداء وتراكم الأحقاد".

 

أما في إنجلترا فقد ارتبط العداء الكنسي لكرة القدم بصعود البروتستانتية، وهو المذهب الذي فرضه الملك هنري الثامن فرضا على البلاد. ورغم أن الملك كان محبا[5] لكرة القدم، فإن الاتجاه الكنسي الجديد كان يراها علامة من علامات العصر البائد تجب محاربتها. وإن كانت الكرة مكروهة في الماضي من قِبل الحكام لأسباب براغماتية بحتة تخص تراجع إقبال الناس على التدرب على الرماية، وتخص القتالات التي تنشأ بين القرى بسبب اللعبة، فقد اختلف الأمر في العصر البروتستانتي الجديد وأصبحت كرة القدم مكروهة في ذاتها.

   

الملك هنري الثامن يرتدي حذاء كرة قدم صنع خصيصا له (مواقع التواصل)
الملك هنري الثامن يرتدي حذاء كرة قدم صنع خصيصا له (مواقع التواصل)

     

في البداية صار رجال الكنيسة أكثر وضوحا[6] في تعبيرهم عن كراهية تلك اللعبة، فوصفها أحد المبشرين مثلا وقال إنها تثير "الغضب الوحشي والعنف المتطرف" بين الناس. بينما كتب أحد الكتاب المدافعين عن المذهب الديني الجديد قائلا: "إن كرة القدم وغيرها من النشاطات الشيطانية في العصر الماضي تسلبنا ورعنا"، وهاجم اللعبة في كتاب اسمه "تشريح المفاسد"، وعدّد الإصابات التي يمكن أن تنتج عنها؛ كالكسور في الأكتاف والأرجل والأعناق، أو كسر الظهر أو النزيف وفقدان الدماء أو الموت ذاته. وفي تلك المرحلة توقف الأمر على توقيع غرامات على من يمارسون اللعبة، ولكن القادم بعد نهاية عصر هنري الثامن كان أكثر قوة في مهاجمة كرة القدم وغيرها من النشاطات -التي اعتُبرت حينها- الكاثوليكية!

   

في منتصف القرن السابع عشر صدرت مجموعة من القرارات التي هدفت إلى ترسيخ الحكم الجديد (البيوريتاني البروتستانتي)، وكان منها منع الاحتفال بعيد الميلاد وعيد الفصح. وعلى إثر القرار أصدر عمدة مدينة كانتربيري بيانا لنشر قرار منع الاحتفال بالكريسماس، وكان طريقة الحشود للتعبير عن رفضها هي أن أحضروا كرة وأقاموا مباراة بين فريقين في الشوارع! وفي مدينة أخرى وقعت محاكمة 13 شخصا بتهمة لعب كرة القدم بعد قرار منعها. وفي مدينة مانشستر بذات هذه الحقبة وقعت حادثة أكثر عنفا، عندما تسببت مباراة كرة قدم مقامة بالشارع في تكسير زجاج إحدى الكنائس، فما كان إلا أن أُقيمت محاكمة لأحد عشر شخصا، وأوقع عليهم غرامة بلغت جنيها، وهو مبلغ كبير بحساب تلك الأيام. وبعد المحاكمة تجمع 100 شخص وتسلحوا بالسيوف والبنادق واقتحموا منزل العمدة وحطموا كل شيء في طريقهم!

   

يقول بيرنارد كاب، الباحث بجامعة ورك، إن كرة القدم في تلك الحقبة كانت نقطة يمكننا منها فهم الخلاف بين الحكام البيوريتانيين وخصومهم، ويقول إن ممارسة كرة القدم في أيام أعياد الميلاد وعيد الفصح كانت وسيلة الجموع التي ترفض قرار إلغاء الأعياد في التعبير عن ذلك الرفض. كما كانت مباريات كرة القدم في الشوارع علامة على العصيان المدني لدى السلطات وعلامة على المقاومة عند الناس.[7]

 

النساء يمتنعون

تاريخ كرة القدم النسائية يمتد لقرون طويلة، إذ كانت طريقة الرجال في تقييم القوة البدنية لزوجة المستقبل تعتمد على براعتها في الكرة، فتقف الفتيات اللاتي لم يتزوجن بعد في فريق يلعب ضد فريق من الذكور الباحثين عن زوجة، وكلما زادت قوة الفتاة وقدرتها في اللعبة، زادت فرصتها في الحصول على فرصة للزواج.. هكذا كانت تتم الأمور في القرن الثامن عشر.

  

فريق ديك كير للسيدات، أنجح الفرق الكروية النسائية في إنجلترا ببداية القرن العشرين (مواقع التواصل)
فريق ديك كير للسيدات، أنجح الفرق الكروية النسائية في إنجلترا ببداية القرن العشرين (مواقع التواصل)

        

مع القرن التاسع عشر اختلف الأمر كلية، إذ أصبحت كرة القدم أكثر تنظيما، واتخذت الصورة التي نعرفها ونلعبها في أيامنا هذه. وبينما كانت تنتشر اللعبة الجديدة في أرجاء بريطانيا بسرعة مذهلة، ظهرت الفرق النسائية مع فرق الرجال، وتنظمت الكثير من المباريات الخيرية بين فرق النساء، مثل مباراة فريق يمثل نساء الشمال وآخر يمثل نساء الجنوب. وكتب عن هذا اللقاء مراسل صحيفة مانشستر غارديان حينها قائلا بأنه لا يظن أن كرة النساء يمكنها جذب الجماهير، ولكن كرة القدم النسائية أثبتت العكس واستطاعت أن تخلق لنفسها شعبية جارفة في بداية القرن العشرين. ففي إحدى المباريات النسائية على ملعب غوديسون بارك العريق لنادي إيفرتون استطاع أحد اللقاءات النسائية أن يجتذب 53 ألف مشاهد، وانتظر في الخارج 14 ألفا لا يستطيعون الدخول. وكان ذلك في عام 1920، وفي عام 1921 قرر الاتحاد[8] الإنجليزي أن يمنع ممارسة كرة القدم النسائية!

  

لا يمكن فهم قرار الاتحاد الإنجليزي إلا في سياق الحرب العالمية الأولى والتي كانت السبب المباشر في خروج النساء من مساحة الوظائف المعتادة لهن، واحترافهن لبعض أعمال الرجال، لأن كل الرجال الإنجليز تقريبا قد خرجوا في الحرب التي استمرت بين أعوام 1914 – 1918. وخلال الحرب عملت النساء في مصانع الذخيرة مثلا، وبلغ عددهن 700 ألف سيدة، واستطاعت هذه المصانع أن تمد الجيش الإنجليزي بمعظم ما احتاجه من أسلحة من أجل المعارك!

   

أراد الاتحاد الإنجليزي أن يضع فاصلا أو جدارا يحمي مناطق الذكور، فقرر أن كرة القدم "ليست مناسبة للنساء ولا يجب تشجيعهن عليها"، وأصدر قرارا بمنع الحكام الرجال أو الحكام المساعدين في المشاركة في أي نشاط كروي نسائي. ورغم أن إنجلترا امتلكت أول فريق كرة قدم نسائية في تاريخ اللعبة وكان طرفا لأول مباراة دولية ضد فرنسا، فإن قرار منع النساء البريطانيات من ممارسة اللعبة ظل ساريا حتى عام 1971!، ولم يتراجع الاتحاد الإنجليزي عن موقفه إلا بعد ضغوط كبيرة من الاتحاد الأوروبي لكرة القدم.

 

أكثر من مجرد لعبة

"تعلمت من تلك اللعبة أن الكرة لا تأتي مطلقا نحو أحدنا من الجهة التي ينتظرها منها، وقد ساعدني ذلك كثيرا في الحياة، خصوصا في المدن الكبيرة، حيث الناس لا يكونون مستقيمين عادة"

(ألبير كامو، رواية "الغريب")[9]

   

 تشي غيفارا مع فريق مادويريرا البرازيلي في كوبا 1963 (مواقع التواصل)
 تشي غيفارا مع فريق مادويريرا البرازيلي في كوبا 1963 (مواقع التواصل)

   

يقول ألبير كامو أيضا: "أكثر ما تعلمته عن الأخلاق وواجبات الرجال أدين به لكرة القدم". وبتمعن النظر يمكن إدراك حقيقة كرة القدم، وأن كلمات كامو ليست من قبيل التحذلق الأدبيّ الذي يريد تحميل كرة القدم بما ليس فيها، بل إن اللعبة المحبوبة كانت منذ نشأتها الأولى متماهية تماما مع أفعال المقاومة والعصيان، وكانت طريقة الناس في إعلان رفضهم أو المطالبة بحقوقهم. والمواقف المذكورة في هذا التقرير يمكن من خلالها رؤية الكلمة "الكلاشيهة" "أكثر من مجرد لعبة" كحقيقة واضحة، أو كتاريخ حدث بالفعل وليس من قبيل الرومانسية المختلقة. وكثيرا ما كانت مقاومة كرة القدم هي طريقة الطغاة في فرض سلطتهم، وكثيرا ما كان احتشاد الناس حولها مؤرقا لمن يريد أن يبسط نفوذه. صحيح أن الكثيرين حاولوا الاستفادة من كرة القدم في تحقيق أغراضهم، ولكن ذلك لأنهم أدركوا أن مواجهتها مستحيلة، وأنهم "كلما منعوها كان اللعب يزداد، وهو ما يؤكد القدرة التحريضية لكل ما هو ممنوع"، أو كما قال إدواردو غاليانو في كتابه[10] "كرة القدم بين الشمس والظل".

المصدر : الجزيرة