شعار قسم ميدان

عولمة الانتماء.. هل تستحق أندية كرة القدم كل هذا الولاء؟

ميدان - انتماء كرة القدم 111

على الأرجح، أنت الآن تعتقد أن هذا تقرير آخر من التقارير التي تخبرك أنها جلدة مدورة غبية وأنه من السخف أن تنفق مالك في تشجيع فريق سيرحل مدربه ولاعبوه بمجرد عثورهم على راتب أفضل في مكان آخر، وعلى الرغم من أن هذا قد يكون صحيحا في كثير من الحالات فإنه ليس ما ننوي الحديث عنه. نحن ننوي الحديث عن مانشستر يونايتد. هل تُصدِّق ما يحدث في مانشستر يونايتد؟ نحن لا نُصدِّقه. أحيانا نشعر أن كرة القدم مملة وسخيفة لدرجة غير عادية، وحينها ندرك أن كل نادٍ كبير مهما بلغ حجمه وشعبيته وتاريخه مُعرَّض لأن يمر بفترة مشابهة، تتوالى فيها السنوات بلا تغيير حقيقي. تلك الحِقَب الزمنية التي لا يفتقدها أحد عندما يعود لماضيه، أو ربما يشعر بالخجل منها، ثم يخبر نفسه أن لولاها لما شعر بقيمة الأمجاد.

  

هذا صحيح طبعا، ليس هناك نادٍ واحد قضى تاريخه في حصد البطولات والنجاحات ولا حتى ريال مدريد، ولكن حالة مانشستر يونايتد مختلفة نوعا ما، مختلفة عن تلك الفترات التي تلاحظها في تاريخ أي نادٍ قبل تطور اللعبة لشكلها الحالي، وفي الوقت ذاته هي مشابهة لعدة حالات أخرى آخذة في الانتشار في الأعوام الأخيرة.

   

نادي مانشستر يونايتد (رويترز)
نادي مانشستر يونايتد (رويترز)

       

مقدمة غير ضرورية

إنجلترا تسمح بتملّك الأندية، وإيطاليا أيضا، لحظة، وإسبانيا أيضا، ربما كان أسهل أن نخبرك أن البوندزليغا هي الوحيدة من بين الدوريات الخمس الكبرى التي لا تسمح بهذا الأمر، وهذا يجعل حالات مثل مانشستر يونايتد غير مفاجئة بالمرة. في الواقع ما رأيناه من ستان كرونكي في أرسنال خلال العقد الأخير سيجعل إثارة دهشتنا صعبة نوعا. (1)

  

السؤال؛ كيف يحدث ذلك لمانشستر يونايتد؟ النادي يتخذ خطوات واثقة متتالية نحو وسط جدول البريميرليغ منذ أعوام ورغم ذلك لا يبدو أن مُلّاكه وإدارته على دراية بالمشكلة أصلا ناهيك بالحل! طبعا هذه العبارة ليس لها أساس من الصحة لأن الغليزرز يدركون المشكلة بالضبط ولكنهم لا ينوون حلّها لأسباب تحتاج إلى تقرير منفصل ولكنك تعلمها على أية حال.

      

  

نحن نتحدث عن مجموعة من المستثمرين الانتهازيين الذين يعتبرون مانشستر يونايتد مشروع عمرهم، (2) ويتعاملون معه من هذا المنطلق؛ في الفترة ما بين 2005، عندما أتم الغليزرز استحواذهم على النادي، وحتى عام 2013، نجحوا في إخراج نحو نصف مليار باوند من النادي. هذا المبلغ كان كافيا لجلب 6 على الأقل من أفضل لاعبي العالم وأغلاهم في هذا الوقت، بل إن بعض التقارير تؤكد أنه تضاعف مرة واحدة على الأقل في السنوات اللاحقة ليصل إلى مليار باوند كاملة. (3) (4) (5)

  

هذه هي لعنة فيرغوسن التي لم ينتبه لها أحد في زمنه؛ الرجل جعل النادي هدفا مثاليا للاستثمار بمعناه الاقتصادي والتجاري البحت، ببساطة لأنه ينافس دائما ويفوز كثيرا وينفق قليلا، وعندما وضع الغليزرز مانشستر يونايتد صوب أعينهم لم يكن في البريميرليغ سوى شخص آخر واحد يحقق ما يحققه فيرغسون بنتائج أقل، وهذا الشخص، بدوره، قاد ناديه لاستحواذ آخر من مستثمر أميركي انتهازي آخر.

   

طبعا كل ذلك يتوافق مع حالة التشبّث بإد وودورد؛ الرجل الذي قد لا يعلم أن فريق كرة القدم يتكوّن من 11 لاعبا ولكنه استثنائي في كل ما هو غير ذلك، لدرجة تحويل مانشستر يونايتد إلى العلامة التجارية الأولى في عالم كرة القدم والتفوق على ريال مدريد وبرشلونة في لعبتهم رغم الفارق المكوكي في عدد وقيمة النجوم وجودة كرة القدم والإنجازات والنجاحات بشكل عام، أي تقريبا كل ما تشتمل عليه وظيفة أي نادٍ لكرة القدم في العالم، وهذا ما يقودك لكون الفارق لم يكن في طريقة إدارة مانشستر يونايتد أبدا، بل في حقيقة أن فيرغسون لم يعد هنا. (5) (6)

       

إد وودورد (رويترز)
إد وودورد (رويترز)

   

ماذا تعرف عن المنطق؟

أنت تعرف كل ذلك غالبا ولا تحتاج إلينا لنخبرك به. السؤال هنا هو؛ لماذا تشجع مانشستر يونايتد؟ هذا ليس سؤالا استنكاريا، بل نحن نسألك فعلا، ودعك من مانشستر يونايتد لأن ما يحدث هناك قد يحدث في أي نادٍ آخر، بل أحيانا يحدث حتى في الأندية التي تختار رؤساءها بشكل ديمقراطي كبرشلونة، سنين من الركود والتيه بلا مؤشر حقيقي على تبدل الأوضاع أو حتى الرغبة في تغييرها، لذا فسؤالنا هو بالأحرى: لماذا تشجع أي نادٍ أصلا؟

  

كمنتمين للعبة فنحن لا نملك سوى الإجابات العاطفية. نحن نحب الإجابات العاطفية لأنها تملك ميزة مهمة جدا هي أنها مُصمتة تماما، تفسر نفسها بنفسها ولا يمكن للمنطق أن يثقبها، وهذا يغلق الطريق أمام أي محاولة للتشكيك في جدوى هذا الانتماء. طبعا نحن أصلا نكره التشكيك في هذا الانتماء لأننا نحتاج إلى أن ننتمي. هذا أمر فطري تماما يولد معنا ولا نملك فيه حيلة.

    

  

حسنا، لدينا خبر سار وآخر ليس كذلك. الأول هو أن علم الاجتماع يؤيد هذه النظرية؛ في مقابلة مع "ميدان" أكّد السيد هاني عواد الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أن انتماءك لنادٍ أو مجموعة مثل روابط المشجعين ليس أمرا عقلانيا يمكن الحكم عليه بالمنطق، بل هو حاجة إلى تمثيل هويتك الاجتماعية من خلال كيان أكبر وأقوى. هذا يتطلّب طبعا التخلي عن بعض خصائصك الشخصية لصالح المجموعة، أو ما يُعرف بالانصهار الهوياتي (Identity Fusion).

  

هذا يفسر كل شيء، أليس كذلك؟ ليس بالضبط، لأن الخبر الثاني هو أن علم الاجتماع لا يؤيد هذه النظرية كاملة للأسف، لأنه يفصل ما بين اللحظة التي ترتبط فيها عاطفيا بكيان ما وبين الطقس الذي تمارسه لاحقا لإحياء هذا الارتباط، وفي المقابلة ذاتها أكّد دكتور عواد أنه بينما يمكننا اعتبار الانتماء حاجة بشرية أصيلة فإن الهوية ذاتها مكتسبة وقابلة للتغيير، ببساطة لأن عملية التشجيع كلها أقرب للمحاكاة منها إلى الواقع؛ أنت تتخيل أن هناك رابطا ما بينك وبين هؤلاء اللاعبين أو ذاك المدرب أو هذا الكيان رغم أنه على الأغلب لا يكون موجودا إلا في دائرة ضيقة تضم معارفك الذين يشاركونك انتماءك. هذا لا يُقلِّل من العملية ولكنه يضعها في نصابها الصحيح.

  

الأهم أن كل ما سبق يتوافق مع عدة دراسات في علم النفس تتحدث عن ظاهرتين مهمتين يمارسهما مشجعو كرة القدم بانتظام وبلا وعي تقريبا. الأولى، عندما يفوز فريقك فتخرج لتؤكد "أننا قد فزنا". هذه العملية لها اسم علمي هو الـ "Birging" اختصارا لـ "Basking in reflected glory" أو الاستغراق في المجد المنعكس عليك من نجاح فريقك عندما تؤمن أنك تفوز معه بطريقة ما.

  

طبعا لو كنت تؤمن أنك تخسر معه كذلك لما كان هناك حاجة إلى الحديث عن ظاهرة أخرى هي الـ "Corfing" اختصارا لـ "Cutting off reflected failure" أو قطع الصلة بالفشل الذي ينعكس عليك عندما ينهزم فريقك، أي ما يحدث عندما تقول لنفسك "إنهم قد خسروا"، بكل ما يصحب ذلك من اتهامات بالتخاذل والتقاعس وغيرها. الآن تدرك أهمية عبارة مثل "بلا وعي" عندما تتذكر كم مرة فعلت ذلك دون أن تلاحظ. (9) (10) (11)

  undefined

     

شياطين وملائكة

طبعا كل ذلك لا يعني أن مشجعي الكرة -ونحن منهم- منافقون بطبيعتهم، ولكن الأمر يبدو أكثر منطقية الآن؛ نحن أنانيون مثل أي إنسان آخر، نحب النجاح وننسب أنفسنا إليه والعكس بالعكس. بالتأكيد هناك قدر ما من الولاء لهذه الكيانات ولكنه أقل مما تتصور بكثير. هذا أحد الأمور التي لا تحتمل الصواب المطلق أو العكس.

  

هناك حكمة في أن أغلبنا يشجع أندية كبيرة كانت ناجحة بطريقة ما عندما بدأ ارتباطنا العاطفي بها؛ إما بأسلوب لعب مميز أو بمجموعة استثنائية من اللاعبين أو بألقاب متتالية. وهذه العبارة تتناقض نوعا مع كل العبارات المستهلكة عن الإخلاص الأبدي للكيان والشعار وغيره. نعم صحيح أنك لم تُحْصِ بطولات ناديك قبل أن تقع في غرامه، ولكنك اخترت ناديا ناجحا رغم كل شيء، أو كان ناجحا على حد علمك وقتها.

  

الأمر يبدو أكثر منطقية الآن لأن مفاهيم مثل "كيان النادي" لم تكن واقعية أبدا. أي كيان بالضبط؟ لا يوجد نادٍ واحد في العالم تمكّن من الاحتفاظ بمجموعة متماسكة من المبادئ والتقاليد عبر تاريخه ولا حتى في أغلبه، والافتراض أن هناك تواصلا تاريخيا ما بين الفترات المتتابعة في حياة أي نادٍ يؤهله لأن يصبح "كيانا" مستمرا محدد المعالم ليس أكثر من وهم.

  

برشلونة اليوم يقدم اللا شيء مع فالفيردي، وقبلها كان يقدم كل شيء مع غوارديولا، وفي مرتين تولى تدريبه آخر شخص يمكنك أن تتخيله في كتالونيا؛ هيلينيو هيريرا! برشلونة كان مخلصا لقضية استقلال كتالونيا ثم لم تعد أكثر من مجرد وسيلة للابتزاز العاطفي، حتى العداوة التاريخية مع ريال مدريد لم تمنعه من التعاقد مع لاعب وصف النادي بالعهر في تغريدة سابقة كان يعلن فيها مؤازرته للوس بلانكوس في الكلاسيكو!

    

فريق برشلونة (رويترز)
فريق برشلونة (رويترز)

  

أرسنال كان أكثر فِرَق العالم تطورا وتنظيما في الثلاثينيات مع تشابمان، وأكثرها مللا في التسعينيات مع غراهام، ثم أكثرها إثارة مع فينغر، ثم أكثرها ارتباكا مع إيمري. مانشستر يونايتد نفسه قضى 40 عاما في التيه بلا هدف وبلا بطولة دوري واحدة، وثلثا تاريخه صُنع في حقبة فيرغسون. أكثر أندية إيطاليا التي كانت كبيرة في التسعينيات صنعتها فترة من الإنفاق المجنون غير المحسوب تسبب في إفلاسها لاحقا، ليفربول وتشيلسي ومانشستر سيتي حدِّث ولا حرج، حتى ريال مدريد مر بنصيبه من الفترات البائسة والفارق الوحيد أنه كان يفعلها بصفوف مدججة بالنجوم.

  

الشيء الوحيد الذي يمكن اعتباره ثابتا في حياة الأندية لن يتجاوز المدرجات والملاعب، ومن فضلك لا تخبرنا أنها الكيان لأن حتى هذه تتغير بانتظام. نحن سنظل نبحث عن كيانات أقوى وأكبر لتضمنا، لأن هذه طبيعتنا، والأمر ليس متوقفا على كرة القدم وحسب. المشكلة تقع عندما تتحول "أكبر" و"أقوى" إلى "الأكبر" و"الأقوى"، عندما تتحول مصطلحات رمادية مراوغة مثل الكيان والشعار إلى قيم مطلقة غير قابلة للتشكيك أو المراجعة.

  

متلازمة سندرلاند

ما الجديد إذن؟ علم الاجتماع لم يكتشف بالأمس، وكل ما ذُكر هنا ليس سوى أنشطة بشرية تمارس منذ قديم الأزل تحت أسماء مختلفة. الجديد في كل ذلك أن مئة العام الأولى من تاريخ كرة القدم لم تشهد هذا الطموح المتزايد لتحويل الأندية إلى علامات تجارية عالمية، وهذا الطموح جعلها هدفا مهما لمستثمرين من طراز الغليزرز وكرونكي وغيرهم. الحقيقة الثانية التي ينبغي لك أن تتقبلها بعد أن تعترف أنك تمارس الـ "Birging" والـ "Corfing" بانتظام هي أنك لا تُشجِّع ناديا لكرة القدم أو كيانا معنويا اعتباريا، بل في كثير من الأحيان لا يتجاوز الأمر مجرد عمل استثماري هدفه الربح، أشبه بمحل بقالة أو متجر لقطع غيار السيارات. الفارق الوحيد هنا أنه يحمل شعار نادي كرة القدم نفسه الذي شجَّعته يوما ما. صحيح، ألم يكن "الشعار" هو الشيء الوحيد المتبقي من قائمة مبرراتك؟

    

 

في وصفه للأمر يقول جوناثان ويلسون إن البريميرليغ أصبح أشبه بـ"سوبرماركت" عملاق يروج لبضاعته، والمقصود بالبضاعة هنا هو الأندية التي نُشجِّعها، الأندية التي تُشجِّع إدارة البريميرليغ الأجانب على شرائها، ولا تفرض أي قيود على هويتهم أو أهليتهم لذلك، ولا حتى تحاول تقنين سلوكهم أثناء امتلاكهم لهذه الأندية، أو تلزمهم بقدر من التأييد الجماهيري لقراراتهم قبل اتخاذها، وكل ذلك منطقي للغاية إن كنا نتحدث عن سوق تجارية فعلا، لأنك عندما تبتاع كيلوغراما من اللحم فلن تقبل أن يخبرك أحدهم كيف تطهوه. (12) طبعا نحن نعلم ما ستقوله الآن؛ ستكتشف فجأة أنك لا تُشجِّع أحد الأندية الكبيرة، وأن ولاءك كان دائما لسوسييداد أو ليفركوزن أو بريشيا أوسندرلاند، مهلا؟ سندرلاند؟ لدينا شيء بخصوص سندرلاند ونحن واثقون أنه سيعجبك.

  

في المقال ذاته يشرح ويلسون سبب ارتباطه الأبدي بالقطط السوداء؛ لقد نشأ هناك مع عائلته وسندرلاند بالنسبة له هو مخزن الذكريات المرتبطة بمراهقته عندما كان أبوه يصحبه للمباريات، وأبوه من قبله وأبوه من قبله. السبب أن عائلة ويلسون من أصول اسكتلندية، وعلى حد تعبيره فإنهم كانوا "يبحثون عن شيء ما لينتموا إليه" بعد ارتحالهم من موطنهم، وفي هذه الفترة كانت القطط السوداء أحد أفضل الفِرَق في إنجلترا، وكان الكثير من المهاجرين الاسكتلنديين يشجعونه، ببساطة لأن تشكيلته الأساسية كانت تتكوّن من 11 اسكتلنديا، لدرجة أنه عندما فاز على هارتس الاسكتلندي في أول كأس عالم أُقيمت للأندية كان هناك 22 لاعبا في الملعب من الجنسية ذاتها. (12)

  

كل ذلك لم يكن ليصبح ممكنا لولا الأموال التي مكّنت سندرلاند من التعاقد مع كل هذه المواهب كما يعترف ويلسون في مقاله. تشجيع سندرلاند قد يبدو لك الآن شديد الرومانسية والإخلاص، ولكنها القصة ذاتها بأسماء وظروف مختلفة. عائلة ويلسون كانت تمارس الـ "Birging" حتى عندما شجَّعت سندرلاند، وهذا لا يعيبهم إطلاقا بالمناسبة، ما قد يعيبهم هو التظاهر بالعكس.

  

"سندرلاند هو جزء مني لسبب يتجاوز اختياري"

(جوناثان ويلسون)

  

ماذا حدث لسندرلاند؟ سلسلة من المستثمرين كانت خلف التراجعات الأخيرة، فترة التيه المألوفة نفسها في حياة أغلب الأندية التي تتحوّل إلى نظام التمليك وحتى بعض من تلك التي تبقى على نظام الانتخابات. (13) ما حدث في سندرلاند كان معقدا لدرجة أن غاس بوييت لم يستطع وصفه بوضوح حتى بعدما أقالوه، فقط اكتفى بالقول إن "هناك شيئا عفنا في قلب سندرلاند يحتاج إلى تغيير جذري". (14) عبارة يمكن قولها عن عدد لا بأس به من أندية أوروبا الكبيرة المملوكة حاليا لمستثمرين جشعين، والخلاصة أنه أيًّا كان النادي الذي تُشجِّعه فالمُلّاك آتون لا محالة، وهناك احتمال لا بأس به أن يتحوّل ناديك إلى محل بقالة قريبا. هذا هو الجديد في الأمر.

     

   

بضاعة فاسدة

طبعا لا داعي للإشارة إلى أن المالك القادم قد يكون خلدون المبارك أو ناصر الخليفي، وقد يكون ستيوارت دونالد أو مايك آشلي. لا سبيل لمعرفة ذلك. أيضا لا سبيل -قانونيا على الأقل- لتغيير ذلك أو التحكم فيه. هذا هو بالضبط ما يعجب مستثمرين مثل الغليزرز في الأمر، ومع رجال مثل وودورد يصبح الأمر رائعا لدرجة خيالية. ما يعجبهم في رجل مثل وودورد هو قدرته الخارقة على الجمع بين متناقضين في السياق ذاته؛ من ناحية هو يستطيع الحفاظ على صافي إنفاق منخفض نسبيا مقارنة بالأندية المنافسة التي تأخذ اللعبة على محمل الجد، ومن جهة أخرى هو قادر على تعظيم الأرباح والعوائد لدرجة قياسية لا تتناسب أبدا مع رداءة الإدارة الرياضية للفريق.

  

عمليا؛ الرجل يبيع الفراغ. لذا يمكنك أن تتأكد أن وودورد سيبقى للأبد مادام الغليزرز يملكون مانشستر يونايتد، وأن أي تغيير سيكون شكليا. هذه الشراكة الاستعمارية القميئة بين الأميركان ومحامي الشيطان لن تنفض قريبا على الأغلب. بمعنى آخر؛ رداءة الإدارة الرياضية للفريق، والتي تشكو منها أنت طيلة الموسم وتؤكد أنها قادرة على التحكم في مزاجك وحالتك النفسية، ليست أكثر من مجرد عَرَ ض جانبي للأرباح الخيالية التي يحققها وودورد للغليزرز. أنت شخصيا لست أكثر من مجرد عَرَض جانبي للأرباح الخيالية التي يحققها وودورد للغليزرز.

  

سنطلب منك أن تأخذ من وقتك بضع دقائق للتأمل في هذه الفكرة، ثم أن تجيب عن السؤال التالي؛ إن كنت مالكا فاشلا أو مستثمرا جشعا يدير ناديا لكرة القدم كأنه محل بقالة فعلا، وإن كانت بضاعتك رديئة لدرجة أن أي زبون عاقل لن يزورك مرتين، فما الشيء الوحيد الذي سيضمن استمرار تجارتك أصلا؟

     

  

بالضبط؛ أناس مثلنا، مجموعة من المهاويس الذين يربطهم بهذا المحل ذكريات ما، أو حقبة من حياتهم يحنِّون إليها، أو حزمة من الصور والمواقف واللحظات والمشاهد التي تُشعرهم بالرضا ويعجزون عن نسيانها، لدرجة أن كل ذلك قد حوّلهم إلى زبائن دائمين مهما انحطّ مستوى البضاعة، ومهما تغيَّر هذا المحل عن الماضي الذي يتذكّرونه، وما دمت تحتفظ بالشعار نفسه على اللافتة.

   

ليس هذا وحسب، بل سيحوّلون الأمر إلى ما يشبه العقيدة، وسيهاجمون منافسيك بضراوة ويُشكِّكون في نزاهتهم حتى لو كانت بضاعتهم أفضل، وسيُقصون كل مَن يخرج عن صفّهم ويبتزّونه بعبارات عاطفية لا معنى لها لأنه يبتاع نوعا مختلفا من المياه الغازية مثلا. الأسوأ من كل ذلك أن مَن سيعترف منهم بحقيقة الأمر سيفعلها بفخر شديد، ويتبارى مع أقرانه ليُثبت أنه كان أكثر مَن تحمّلك، وأن هذا يمنحه مكانة أفضل بطريقة ما.

  

كل هذا يتحوّل إلى ملاعب مليئة عن آخرها ومئات الملايين من مبيعات القمصان والتذاكر وحتى المشاهدات التلفزيونية التي أصبحت المصدر الأكبر للدخل بين أندية البريميرليغ. يمكن للمالك أن يُغيِّر كل شيء حرفيا بشكل مباشر أو غير مباشر؛ طريقة اللعب والمدرب وهوية النادي وفلسفته ومصير أكاديميته وحتى موقفه من القضايا العامة بل وحتى انحيازه لفئات مجتمعية معينة ارتبطت بنشأته، ولكن شلال الأموال لن يتوقف من كل الجهات لأسباب مثل الحاجة إلى الانتماء والخوف من الإقصاء. انتماء لماذا وإقصاء من ماذا؟ الشعار طبعا، لم يتبق غيره.

  

برشلونة أنفق ما يزيد على نصف مليار يورو في صفقات هجومية فقط خلال السنوات الأخيرة وهو يملك ميسي وسواريز بين صفوفه
برشلونة أنفق ما يزيد على نصف مليار يورو في صفقات هجومية فقط خلال السنوات الأخيرة وهو يملك ميسي وسواريز بين صفوفه
   
جريمة كاملة

مثل وودورد بالضبط، أصبح الجمهور بدوره نقطة التقاء نقيضين شديدي التنافر؛ من جهة هو يُمثِّل كل ما هو عاطفي ومعنوي وغير محسوس في اللعبة، القيم التي تكون أول ما يُنحّى جانبا عندما يقوم أي رجل أعمال بصفقة تجارية بحتة، ومن جهة أخرى، فإن هذا كله يُدمج في صفقة تجارية بحتة شديدة الميكيافيلية والبراغماتية.

 

زمن مُلّاك الأندية الآتين من صفوف الجماهير قد ولّى بلا رجعة، وحتى هؤلاء لم تخلُ فتراتهم من المشكلات. النتيجة أنك تبتاع كيلوغرام اللحم بتسعة أضعاف ثمنه ثم تكتشف أن صلاحيته منتهية، فتكرر الأمر ذاته في الأسبوع التالي والذي يليه إلى ما لا نهاية. جريمة كاملة تتكرر موسميا.

  

ليس هذا وحسب، بل إنك تُجبر على مشاهدة نتائج ما تفعله يوميا؛ ريال مدريد تعاقد مع خيميس رودريغيز وغاريث بيل مقابل 180 مليون يورو تقريبا ثم لم يحقق أي استفادة توازي رُبع هذا الرقم. لا بأس، هذا يحدث في كل الأندية، ولكن ريال مدريد قرر بعدها أن يجدد للأخير لخمس سنوات مقابل راتب فلكي، والأخير بدوره يرفض التنازل عنه حتى لو كان ذلك سيعني أنه سيقضي المواسم الثلاثة القادمة في لعب الغولف ويتقاضى خلالها 52 مليون يورو خالصة الضرائب. برشلونة أنفق ما يزيد على نصف مليار يورو في صفقات هجومية فقط خلال السنوات الأخيرة وهو يملك ميسي وسواريز بين صفوفه، ورغم كل ذلك ما زال يسعى لاستعادة نيمار. مانشستر سيتي أنفق 100 مليون باوند في ستونز وميندي فقط، وقبلها جعل مانغالا أغلى مدافع في التاريخ ثم رحل إلى فالنسيا بلا مقابل بعد سنوات على الدكة. هذه نماذج ناجحة كرويا إلى حدٍّ بعيد مقارنة بالباقين، ولكن حتى في هذه الحالات فإن كل شيء يخبرك أن هؤلاء الناس يملكون من المال أكثر مما يحتاجون إليه بكثير. (15) (16) (17)

     

  

الأدهى أن كل عناصر هذه الجريمة سعيدون بدورهم فيها. هذا لا يعني أنك مثل وودورد طبعا أو أن هناك شبها ما بينكما يبرر الجريمة، ولكنه قد يعني أن بعض الأجيال الحالية قد تحتاج إلى مراجعة فكرة الانتماء المطلق بشكله الحالي، ولربما تكتشف أن بعض قواعده قد بُنيت على خرافات أزاحتها العولمة جانبا ولم يعد لها مكان في عصر العلامات التجارية. بمعنى آخر؛ لا مفر من الانتماء لما نشعر أنه وطن حتى لو كان ناديا لكرة القدم. هذا لن يكون منشأ المشكلة أبدا، بل حقيقة أن كيانات الأندية في عصر المُلّاك الجدد لا توحي بأنها تستحقه.

  

في مقابلة أخرى مع "ميدان"، قام أحمد منير، أحد مشجعي دورتموند، بوصف الأمر بطريقة عبقرية؛ تخيل أن لك صديقا تغيَّرت طباعه ولم يعد يشاركك الاهتمامات والحماس ذاته، وتحوّل مع الوقت إلى شخص آخر مختلف تماما، حينها قد يكون الفراق منطقيا، أليس كذلك؟ أما أحمد عصمت، مشجع لمانشستر يونايتد، لا يتخيل نفسه يشجع أي فريق آخر، ومثل ويلسون، فهو يضع الانتماء قبل أي شيء، ويرى أن المعاناة جزء أصيل منه، خاصة أن النادي قد يفعل كل شيء بطريقة صحيحة ويفشل في النهاية، وهي نظرة لا تخلو من وجاهة بدورها.

      

التنقل بين تشجيع أبطال الدوريات وأفضل الفِرَق ليس حلا طبعا، ولكن إن كان لنا أن نصوغ الأمر كله في عبارة واحدة فلربما يكون الحل أن تُشجِّع مَن يحاول
التنقل بين تشجيع أبطال الدوريات وأفضل الفِرَق ليس حلا طبعا، ولكن إن كان لنا أن نصوغ الأمر كله في عبارة واحدة فلربما يكون الحل أن تُشجِّع مَن يحاول
    

مشجع آخر هو باسم السمرجي كان له تجربة مختلفة؛ في البداية شجع برشلونة لأنه كان "يُمثِّل القيمة الفنية للعبة في مواجهة القيمة السوقية للعبة مُمثَّلة في ريال مدريد" من وجهة نظره، ولكن الأوضاع الأخيرة أوصلته لمرحلة ما بين الغضب وعدم الاكتراث، ودفعته للاهتمام بتجارب أخرى تُحقِّق له إشباعا مشابها مثل أياكس ونورويتش وتشيلسي لامبارد، وما يؤكده أن هذا لم يكن مستحيلا لأن شغفه ببرشلونة لم يكن استبعاديا أو إقصائيا من البداية، ولم يمنعه أبدا من الاستمتاع بما يعتبره "كرة قدم جميلة" عندما تصدر من فريق آخر.

  

الحل؟ لا نعلم طبعا. نحن لم نعدك بالحل، ولكن جوناثان ويلسون يقول إن ما يحدث الآن هو تطور طبيعي وحتمي لا مفر منه؛ ما دام هناك نشاط بشري قائم على المنافسة بين مجموعة من الناس فإن مصيره الأكيد هو أن تجتمع القوة والمال لدى حفنة محدودة منهم، وحتى لو لم يكن هناك أناس مثل وودورد فإن الأمر كان سيسير لهذه النهاية. هذا ما يمنحنا كرة قدم على مستوى عالٍ في مقدمة الجدول ولكنه، في المقابل، يسحق الكثيرين بلا رحمة.

  

ما نعلمه نحن أننا لسنا في وضع يؤهلنا لحل أزمة وجود الإنسان، ولكننا نعتقد أن الأمر ليس بهذه الصعوبة؛ إن كان عليك أن تُشجِّع شيئا ما، وإن كان عليك أن تستثمر فيه كل عواطفك وكل القيم التي تراها جميلة ومفيدة، فربما يكون الانتماء للأفكار هو الحل. الانتماء للنجاح والمحاولات المثيرة الشائقة للوصول إليه حتى لو تعثَّرت أو استغرقت وقتا طويلا أو فشلت في الأمتار الأخيرة. التنقل بين تشجيع أبطال الدوريات وأفضل الفِرَق ليس حلا طبعا، ولكن إن كان لنا أن نصوغ الأمر كله في عبارة واحدة فلربما يكون الحل أن تُشجِّع مَن يحاول والعكس بالعكس، وحتى لو قررت ألا تفعل فنحن نتفهّم الأمر. ما نحن متأكدون منه أنه ليس هناك أي جدوى أو بطولة أو قيمة أخلاقية في تشجيع النصب والفشل المتعمد.

المصدر : الجزيرة